السجل البدائي - الفصل 1953

الفصل 1953: تحطيم المهد (4)

راقب إيوس أماً تسير مع ابنتها على طول الشاطئ، في مكان ليس ببعيد عن الموقع الذي إندمجت فيه الشجرة والصبي.

كانت تضحك مع ابنتها عندما شعرت بأول مجسة تلامس خدها. بدت ناعمة، مثل قبلة من حلم، وابتسمت وهي تفكر في زوجها، وأوشك على لمس خدها لتمسح ما ظنت أنه ندى الصباح عندما اكتشفت أنها لم تعد قادرة على الحركة.

تحركت عيناها في ارتباك وذعر حتى لمحت مجسة متموجة تشبه ثعباناً مصنوعاً من الخشب واللحم.

تحول الذعر في عينيها إلى رعب وألم عندما اخترقت المجسة عينها اليسرى، وشعرت بها وهي تبدأ في الانزلاق عبر جسدها بالكامل. ولحسن حظها، فقدت عقلها قبل أن يتمكن الألم من تحطيم روحها.

أما إبنتها، التي لا تزال ممسكة بيدها، فقد أصبحت فضولية بشأن سبب توقف والدتها عن الحركة. كانت في الخامسة من عمرها، ونظرت إلى الأعلى نحو وجه والدتها بحثاً عن إجابات. بعيون ملؤها الدهشة، راقبت الطفلة بفضول وجه والدتها وهو يفرغ من لونه، ومن تعبيراته، ومن ذكرياته.

تحولت تلك الدهشة إلى خوف عندما انطوى جسد والدتها إلى الداخل مثل الورق، مع صوت تهشم العظام برقة، وانهيار الجلد في عناق المجسة.

ورغم أنها أصبحت مليئة بالخوف وبدأت في البكاء، رفضت الطفلة ترك يد والدتها التي تتقلص، وهكذا أخذتها المجسة هي أيضاً.

ومع ذلك، وعلى عكس الأم التي التُهمت، لم تُقتل الطفلة؛ بل تغيرت مثل الصبي الذي سبقها.

شاهد إيوس الفتاة وهي تنهض، أطول وأكثر نحافة، وبشرتها الآن بيضاء شفافة، وعروقها تنبض بحيوية مسروقة شديدة لدرجة أن عينيها كانتا مثل الشموس.

فتحت فمها، وانفتح ألف فم أصغر على طول ذراعيها، ثم بدأت تمشي ببطء عبر أقرب مدينة، وخلفها تبعها محيط من المجسات.

انتشر التحول ببطء في البداية. شجرة واحدة. طفل واحد. أم واحدة. مدينة واحدة.

ثم صار أسرع.

بدأت المحيطات الزجاجية في الغليان، ليس بالحرارة بل بالجوع. ارتفعت الأمواج كجدران من سائل أبيض يشبه العصارات الهضمية لكائن ضخم.

تحطمت هذه الموجة فوق الجزر وجرفت حضارات بأكملها تحت السطح. وأولئك الذين غرقوا لم يموتوا؛ بل طفوا مرة أخرى وقد تغيروا.

تطاولت أجسادهم، وتضاعفت أطرافهم، وأزهرت أفواه حيث كانت العيون. مشوا على سطح الماء الآن، وأذرعهم تتدلى مثل مجسات قناديل البحر، ينادون من لم يلمسهم الفساد بأصوات تشبه تماماً أصوات أحبائهم القدامى.

“انضموا إلينا. إنه جميل. هناك الكثير في صمت عناقي أكثر مما سترونه في كل حيواتكم.”

استمر الفساد في الانتشار، ورأى إيوس أن من بين الأوائل الذين تحولوا، مثل الصبي والفتاة، كانت أجسادهم تفقد بسرعة أي جانب لحمي، وقبل مضي وقت طويل، تحولوا إلى بلورات حمراء وتجمدوا في مكانهم.

بعد فترة، تحطمت هذه البلورات إلى عواصف من الشظايا. أصبحت كل شظية بذرة، وقُذفت كل بذرة في الهواء حيث عبرت حدود المكان والزمان واستقرت على كواكب وأقمار ونجوم وأي جرم سماوي وجدته.

من هناك انتشر الفساد عبر الأنظمة الشمسية، والمجرات، ثم الأكوان، ولم يستغرق الأمر طويلاً قبل أن يسقط الواقع بأكمله، والأسوأ من ذلك هو أن الواقعات المتأثرة لم تستطع حتى معرفة ما يحدث، لأن عقولهم تجمدت عندما دخل صوت أخنوخ قلوبهم ولم يسعهم سوى المشاهدة بعجز بينما تُلوى أجسادهم وقواهم لخدمة هذه الإرادة حتى استُهلك وعيهم في النهاية أيضاً.

من هذه الواقعات الفاسدة، قُذفت شظايا الفساد مثل الصواريخ نحو الواقعات التي لم تسمع صوت أخنوخ.

ومع ذلك، حتى بعد قذف هذه الشظايا، لم يتغير المظهر الخارجي للواقعات المتحولة؛ بدا الأمر كما لو أن أخنوخ سيظل يختبئ حتى يتم تحويل جميع الواقعات داخل المهد بالكامل.

راقب إيوس إحدى الشظايا الأولى التي قذفتها الواقعات الفاسدة وهي تصطدم بإحدى الواقعات الخالية من هذا الفساد.

كانت هذه الواقعة تضم القليل من البشر، لكنها جنة للوحوش والمخلوقات الفريدة الأخرى. رأى الشظية تسقط في جزيرة تسكنها مخلوقات ضخمة تشبه الحيتان، وأكلها أحد صغارهم، فبدأ التحول على الفور.

الطفل الفاسد، الذي أصبح الآن كائناً شاهقاً من الأطراف البيضاء والأفواه المزهرة، أطلق مجسات بقوة هائلة اخترقت كوكبه بالكامل في لحظة، محولة كل شيء إلى نفسه الجديدة، وبقفزة جبارة، ركب عبر الفراغ بين الكواكب وهبط برقة على كوكب آخر مليء بنفس الكائنات الشبيهة بالحيتان.

ومع ذلك، شعرت الحيتان هنا بخطأ الشيء الذي دخل عالمهم للتو، وغنوا له أغنية التحذير الخاصة بهم، وشعر إيوس بالحزن عندما سمع الإيقاع العميق والمحزن والقديم.

فتح الشيء… الطفل ذراعيه وغنى بدوره، ساخراً من صرختهم، لكن صوت صوته كان صوت أخنوخ، واستمعت الحيتان.

لم يكن عليهم الاستماع.

واحدة تلو الأخرى، تعثرت أغنية تحذيرهم. تشنجت أجسادهم العظيمة. اندلعت نموات بيضاء تشبه البرنقيل على طول جوانبهم بينما غامت عيونهم. انقسمت زعانفهم إلى غابات من الأذرع. وأفواههم، التي كانت يوماً مليئة ببالين ناعم، اتسعت إلى كهوف مبطنة بأسنان مصنوعة من أصوات مسروقة.

غنوا لبعضهم البعض لفترة قبل أن تغوص الحيتان الفاسدة في السماوات وتبدأ في عبور الفضاء وهي تجر خلفها مجسات تخطف الكواكب والنجوم من الفراغ.

انهارت الكواكب في قبضتهم، وجُرف سكانهم، وهم يصرخون، إلى أشكال جديدة. في بعض الكواكب القوية حيث كان هناك خالدون، قاوم البعض. شنت مجموعة من المحاربين على متن خيول مجنحة هجوماً على أول حوت فاسد، وانطلقت رماح من ضوء النجوم النقي من أذرعهم.

أصابت الرماح هدفها، مخترقة جلد الحوت، لكن الجروح انغلقت بالانطواء إلى الداخل، بينما ولدت قوة شفط مكثفة سحبت المحاربين داخل الجروح المنغلقة.

خرجوا وقد تغيروا، واندمجت أجسادهم بلحم الحوت، ونبتت أذرع من جوانبه، وأفواه تغني التهويدة بتناغم مثالي ورهيب.

بدأ واقع تلو الآخر في السقوط، ورغم أن فساد أخنوخ كان هادئاً نسبياً، إلا أنه لم يستطع إخفاء آثار نفسه لفترة طويلة. لقد اكتسب هذا الزخم العظيم بسرعة كبيرة فقط لأن كل واقع داخل المهد إعتقد أن الخطر يأتي من الخارج وليس من الداخل، ولذلك لم يسارعوا للاستجابة لهذه التغيرات الحادثة.

تسبب عدم تصديقهم في سقوط العديد من الواقعات، بينما حاولوا التواصل مع جيرانهم الساقطين للاستفسار عما يحدث. وعندما أصبح من الواضح أن ما يحدث يفوق فهمهم، بدأت هذه الواقعات، التي بدون حماية أنانكي لم تمتلك وسيلة للدفاع عن نفسها، في الفرار وهي تنادي حارستها.

الكثيرون لن يتمكنوا من النجاة.

لم يعد الفساد ينتشر؛ بل يتسارع الآن.

سقط ثلث واقعات المهد في غضون ما قد يكون أياماً لو أن أكون الأيام لا تزال موجودة هنا.

استيقظت وحش الحتمية بالكامل عندما حولت إدراكها إلى الداخل نحو المكان الذي من المفترض أن تحافظ على أمانه، وانطلق عواء محزن من فمها.

انفك ذيلها الثعباني، وبرزت أنيابه، وقطر سمه بهالة قوية من الدمار، وبدفعة جبارة، بدأت الوحش في السباحة عبر المهد، تسوق الواقعات غير الفاسدة خلفها.

جدفت أرجل السلحفاة الضخمة، تدفعهم نحو الأمان بينما ضرب ذيلها الثعباني، ماحياً الشظايا الفاسدة التي تُقذف من الواقعات الفاسدة. وعندما لاحظت الوحش عدد الواقعات التي استحوذ عليها هذا الفساد بالفعل، انطلق منها عواء محزن آخر.

الترجمة : كوكبة