السجل البدائي - الفصل 1902

الفصل 1902: لعبة الجوع

مهد أخنوخ (63 مليون عصر كوني في الماضي)

انهار جسد روان العملاق، المغطى بدماء فانية حمراء، والذي بدا جافًا كجثة متروكة في الشمس لسنوات، في الكهف. ظل ساكنًا لفترة طويلة، صدره لا يرتفع ولا ينخفض، وكل من تجول في الداخل سيظنه عملاقًا ميتًا منذ زمن بعيد بحجم قمر صغير.

لم يكن بوسعه أن يتحرك لعدة قرون، حتى خالف قلبه كل المنطق السليم وارتجف، حركة صغيرة للغاية بحيث لا يمكن تسميتها نبضة قلب، لكنها أول علامة على الحياة خرجت من روان منذ قرون، وفي يوم كأي يوم آخر، بعد بضعة قرون في المستقبل، رمشت عيناه ببطء وانفتحتا.

تأوه وهو يجر نفسه ببطء إلى وضعية الجلوس، ومرت أيام وهو ينهض. سقط متعثرًا نحو عرشه الخشبي الذي غطاه الغبار. تلك الحركة وحدها كادت أن تعيده إلى أحضان النسيان.

“كم من الوقت كنت هناك؟” همس… لم يعد روان يستطيع أن يقزل؛ لم يكن هناك مجال في وعيه ليفكر في المدة التي قضاها في السماء يجذب إليه كل الأرواح المقتولة من بداية الزمن.

ارتعشت أصابعه، وظهرت بركة كبيرة من الماء البارد فوق رأسه. أمال روان رأسه للخلف، وفتح فمه ليروي عطشه.

أحسَّ باضطرابٍ ليس ببعيدٍ عن رأسه، ففتح عينيه فرأى أخنوخ يراقبه. في أول مرة رأى فيها روان أخنوخ، كان في هيئة صبيٍّ وجهه مصنوع من الفراغ، والآن، بعد كل هذه السنوات التي قضاها في استهلاك دم روان الفاني وتسميمه، أصبح رجلاً ناضجًا.

كان الرجل الواقف أمامه الآن رجلاً ناضجًا، بشعر أسود قصير وعينين وشفتين. كانت لديه لحية قصيرة أنيقة، تبدو، عند وضعها على شفتيه السوداوين، كما لو أنه يرتدي قناعًا، وكان شبهه واضحًا ومألوفًا في آن واحد.

بحث روان في ذاكرته باحثًا عن مصدر تلك الألفة، وعندما اكتشفها، دهش. كان الوجه وجهًا لم يره منذ زمن طويل، وتسائل كيف نسيه.

بصفته أميرًا بشريًا من تريون، كان من بين رعاياه الذين انجرفوا مع فوضى حياة روان صبي صغير وعائلته، ريجولف. لم يرَ ريجولف إلا في صغره، ثم عندما أصبح بطل الرجس، لاميا.

كان ريجولف قد تولى منصب بطل لاميا بعد أن هرب روان من قبضتها، وقابله لاحقًا، لكن هذه المرة، تحرر بطل لاميا من قيوده وأصبح مخلوقًا مستقلًا. بعد ذلك، اختار ريجولف أن يتبعه لفترة، وعندما طلب حريته ورغب في عدم مراقبته، استجاب له روان. ففي النهاية، رأى روان ريجولف تابعًا له، وبعد كل المعاناة التي تحملها كبطل بغيض، استحق فرصة رسم مستقبله بنفسه.

لم يره روان منذ ذلك الحين. ربما مات، أو ربما يعيش الحياة التي اختارها في أعماق واقع إيوسا. لم يكن روان يعلم بذلك، وتفاجأ بأنه في كل الوجوه التي توقع رؤيتها هنا، كان وجهه أخرها.

لقد أثبت له قضاء وقت طويل هنا مع أخنوخ أنه لا يثق بما يراه؛ كان الكائن متحولًا، وقدرته على اتخاذ أي شكل لا مثيل لها. تواصل مع روان بعمق في كل مرة يستهلك فيها دم فاني، ومن المرجح أن هذا الوجه قد تم اختياره من ذاكرة روان.

ومع ذلك، من المزعج أن نفكر في أن أخنوخ ظل يبحث في ذكرياته، ولكن هذا لم يكن غريباً جداً عندما نفكر في أن حياته كلها كانت دائماً تحت المجهر، وأن كيانات مثل أخنوخ رأت أبعاد الذاكرة بسهولة كما يرى الإنسان الضوء في الطيف البصري.

عندما ضعف روان، لم تكن هناك طريقة لإخفاء ذكرياته عن أخنوخ، والسبب الوحيد لعدم ذعره أكثر بسبب هذا الفعل هو التمييز المهم: كان أخنوخ قادرًا على قراءة ذكرياته ولكن ليس أفكاره… تلك خاصة به.

قد لا يتمكن الإنسان الفاني من فصل أفكاره عن ذكرياته، لكنه لا يستطيع استكشاف بُعد الذاكرة بحرية كما يفعل روان وغيره من الخالدين من الأبعاد العليا. قد يرى أخنوخ ذكرياته، لكن بالنسبة له، سيكون الأمر أشبه بمشاهدة فيلم، دون أن تتدفق الأفكار في رأس روان أو أيٍّ من الأطراف الأخرى في ذاكرته؛ سيفتقر أخنوخ إلى السياق اللازم لتفكيك هذه الذكريات تمامًا.

كانت كل هذه هي الدفاعات المعتادة داخل عقلٍ مُعقدٍ وقويٍّ كعقل روان، لكن ذلك لم يكن كافيًا، ليس عندما يتعلق الأمر بكياناتٍ مثل أخنوخ. منذ اللحظة التي وطأت فيها قدمه هذا العالم الغريب ورأى الصبي، أدرك روان أنه قد يكون في موقفٍ يكاد يكون من المستحيل السيطرة عليه، ولهذا السبب، بدأ بتعديل ذكرياته.

جرّد روان أسراره الجوهرية، وربطها مباشرةً بقوة حياته، ما يعني أنه بإمكانه الوصول إليها متى شاء. مع ذلك، لم تكن موجودة في روحه أو نفسه أو جسده، وإذا هلك، ستختفي الذكريات معه.

لقد تعلم كيفية القيام بذلك من خلال مشاهدة الفراشات.

لم يكن من الممكن تعذيب روان أو إجباره على فعل شيء ضد إرادته، لكن أعدائه قد يتمكنون من الوصول إلى أسراره إذا قُتل، ولهذا السبب ابتكر روان هذه التقنية. كانت هناك أجزاء من أسراره سيحملها معه إلى القبر، ولن يعرفها أحد، ولا حتى أقرب المقربين منه… وقد ضمن له ابتكار هذه التقنية ذلك.

“أنت تريد أن تعرف… إذا كان هذا الوجه خاصتي، أو شيء التقطته من دمك،” ابتسم أخنوخ، “هذا وأكثر مما أستطيع أن أقدمه، تبادل متساوٍ بيني وبينك.”

رمش روان، “هل ستفعل هذا؟ اعتقدت أنك ستشاهدني أقتل نفسي؟”

ابتسم أخنوخ، “في هذه المرحلة، كلنا نعرف الحقيقة… في المرة القادمة التي تدخل فيها الصحراء، ستهلك. ما فائدة هذا يا روان؟ حسنًا، لا يهم، لأنني سأفوز في النهاية، لأنني سأتناول المزيد منك، وصدقني، في حياتي الطويلة، ستكون من بين أشهى الأطعمة التي تذوقتها في حياتي.”

انطلقت ضحكة خافتة من حلق روان، كأنها صفير يحتضر، “لو استطعت يا أخنوخ، لرأيتني أرفع عينيّ من شدة البهجة. ألم ترَ بعدُ قدرتي على الصمود خارج هذا الكهف لفترة أطول؟”

“ماذا عن هذا؟” شخر أخنوخ، “بالتأكيد، لقد بقيتَ في الخارج ستة عشر مليار سنة، لكن هذا لم يمنحني سوى كمية هائلة من دمك الفاني تكفي لإغراق بُعد كامل. ستعيش لفترة أطول في المرة القادمة، ربما تريليونات السنين، لكنها ستكون الأخيرة.”

“لا تكن متأكدًا من ذلك،” قال روان، محاولًا ألا يتفاجأ بعدد السنوات الطويلة التي قضاها خارجًا هذه المرة، “بعد كل شيء، لدي أفضل فرصة للنجاح هنا معي.”

عبس أخنوخ، “وماهي؟”

“أنت،” ضحك روان ضحكة جافة، “سمّك في جسدي. كما تعلم يا أخنوخ، أنا مندهش من قدرتي على الصمود كل هذا الوقت… لديك القدرة على الوصول إلى ذكرياتي، وأنت تعلم أنه لا توجد تقنية، حتى تلك التي أتقنتها أنا، يمكنها أن تمنحني هذه القوة والتحمل… العامل الوحيد الذي يساعدني هو سمّك في عروقي. في كل طبقة أتسلقها، لا أزيل سمّك؛ بل أجعله جزءًا من قوتي. لذا يا أخنوخ، قد لا تسير الأمور كما تريد… أنت تأكلني، هذا صحيح، لكنني أيضًا آكلك.”

استرخى روان على عرشه الخشبي وبدأ بتطبيق المستوى السابع عشر من التقنيات المجهولة داخل وعيه استعدادًا لدخول المستوى التالي. كان ما قاله مزيجًا من الحقيقة والخداع. صحيحٌ أن روان حوّل السم الذي يتركه أخنوخ في كل مرة يشرب فيها دمه إلى جزء من قوته، لكن إن كان قد أمضى كل هذا الوقت خارج الكهف، فهذا لم يكن كافيًا.

لقد علم أن أخنوخ لم يكذب عليه بشأن هذا العدد بسبب التدفق الأعظم للوقت المتاح الآن داخل هذا الكهف، والذي نما بمقدار ألفي عام، والذي سوف يتزامن تقريبًا مع الوقت الذي يمكن تخصيصه له عندما يكون خارجه.

ولكن هناك جزء آخر مهم أعطاه القوة، وهو النار غير المرئية المشتعلة داخل صدره.

الترجمة : كوكبة