السجل البدائي - الفصل 1446

الفصل 1446: حافة الذاكرة

توقف قلب روان الذي كان ينبض بسرعة، بدا الأمر كما لو أنه توقف عن النبض، بدا الواقع من حوله غامضًا قبل أن يستقر، وعبس سِيد، وكانت عيناه تخترقان الفضاء، باحثًا عن أي تدخل خارجي ولم يستطع العثور على أي شيء، وظهر بريقًا غريبًا في عينيه، هل كاد أن يكسر الحاجز الأخير في قلب حفيده العنيد هذا؟

لم يكن داخل رأس روان سوى صوت مايف، لقد كرر كلماتها مليون مرة كما لو كان يعذب عقله بصوتها، لقد عرف أنه أطلق العنان لسلالة أصوله على سِيد وإلورا، مما أدى إلى إدانة العواقب تقريبًا، ولكن في اللحظة الأخيرة أمسك نفسه،

‘يعتقدون جميعًا أنهم يعرفونني… يعتقدون جميعًا أنني من نوعي، وقد رأوني ألف مرة من قبل…’

لفتت نظراته صورة خادمته المحتضرة، يراها في لحظاتها الأخيرة، وكما كانت عندما كانت حوريةً بأجنحة فراشة ترفرف بجانبه، كان واجبها شاقًا، لكنها لم تتنصل منه قط، ولم تُخلف وعدها لأمه، وفي النهاية تجاوزت مايف أبواب الموت لتقف إلى جانبه، تحميه بجسدها حتى عجزت عن ذلك. لم يكن مهمًا أنه كان معيبًا، كل ما يهم هو واجبها تجاه ربها، واجبٌ يتجاوز الحب.

تدفقت ذكريات لا حصر لها من حياتها إلى ذهنه، وكانت أقوى مما يمكن لعقل أي شخص خالد أن يتحمله، وعرف روان أنه في هذه اللحظة، كان يعرف بالفعل المسار الذي سيتبعه.

لقد سمح للفساد الأخضر الناتج عن وصمة سِيد على دائرته العليا أن يبتلعه، وانكسر على جلده، وفي النهاية لم يسمح روان للقوة بالدخول إلى جسده.

دخل صوت سِيد إلى وعيه، كان لا يزال يبدو كسولًا كما لو كان يشعر بالملل قليلاً، عرف روان أن ذلك كان لأن هذا الرجل العجوز بدأ على الأرجح في التركيز على ما هو قادم، ومهما كان الألم العقلي الذي ألحقه به، لم يكن الأمر مهمًا لأنه حقق ما خطط له.

“إذن، حكمتَ عليها بالموت يا روميون؟ همم، إذا كان قلبك باردًا إلى هذا الحد، فلماذا لا تزال تعاني؟ ألا ترى أنه لا جدوى من ذلك؟ أم تعتقد أنه بفضل موهبتك، يمكنك السير في مسارين دون أن تدفع ثمنًا؟ سأريك ما يفعله العقل المضطرب بخالد يمتلك سلالتنا، لكن أولًا، شاهدها تموت. هذا أقل ما يمكنك فعله، إذا لم تختر مسارا، فستعاني من ترددك.”

وهكذا فعل. راقب مايف وهي تتفتت ببطء إلى رماد، محفورةً صورتها في أعماق قلبه، وفي النهاية، أغمضت عينيها، وتناثرت بقاياها من يد إلورا.

لم يبقَ منها سوى ريشة خضراء طارت في البعيد، طافيةً نحو المجهول. بدت تلك الريشة بمثابة الفصل الأخير من تحدّيها، وهي تحلق نحو السماوات العليا رغم جبروت سامي عجوز ساحق.

ماتت مايف، وروان شاهدها تموت. ورغم الألم الذي شعر به، كره نفسه، لأنها، بالنسبة له، مجرد ندبة أخرى على قلبٍ قسته ندوبٌ لا تُحصى. لطالما وجد الواقع طرقًا جديدةً لكسره، وعندما لم يعد ألم الجسد كافيًا، وعندما أصبح ألم روحه عاديًا، ها هو الآن ينقض على قلبه، وعلى عكس سابقيه، ما زال يؤلمه.

‘روح… أجل، ربما لا تزال روحها باقية؛ مايف كانت قوية، وكان بإمكانها أن تخفي جزءًا منها. إبحث عنها، طالب بها، حتى لو كُشف لهم هذا السر، فالأمر يستحق العناء بالنسبة لي!’

كان جسده معزولًا عن العالم، وإذا لم يكن كذلك، فقد علم أنه سيكون من الصعب المصارعة من أجل روح مايف من يدي إلورا، وسرعان ما لم يكن ذلك مهمًا لأن روان شعر فجأة بمكان فارغ مفتوح في روحه، وعرف أن روح مايف لم تنجو أيضًا، فقد كانت إلورا شاملة للغاية.

دمر الأمل الأخير وملأ ثقل خسارتها قلبه وارتجف، بغض النظر عن مدى اعتقاده بأنه قد اعتاد على ألم الخسارة، فإن كل شخص قابله وأحبه لا يزال قادرًا على ترك علامة فريدة في قلبه، وخسارتهم دائمًا تضرب بشكل مختلف، كان هذا الألم الذي أدرك أنه لن يعتاد عليه أبدًا.

دون أن يعرف إن كان هناك شيء متبقي منها يستطيع أن يسمعه، أقسم في قلبه على ذكرياتها،

“لقد عشتِ حياتكِ محاربةً، وكان يجب أن تموتي كواحدٍة، بشفرةٍ داميةٍ في يدكِ وابتسامةٍ على شفتيكِ. كنتِ تستحقين سِيدا أفضل مني يا مايف، فقد ضحيتُ بكِ على مذبح مجدي، من أجل قوتي اللعينة. في النهاية، لا أعرف إن كانت أحلامي تستحق كل تلك المجازر التي فرضتها على الواقع، لكن ما أعرفه هو أنكِ تؤمنين بي، ومن أنا لأخيب هذا الإيمان؟ ستحترق هذه الحياة، وستحترق هذه الشجرة الملعونة، وستتوسل إليكِ المرأة التي قتلتكِ طلبًا للمغفرة قبل أن أجعل رأسها شاهد قبركِ!’.

لقد تحررت الأحرف الرونية الخضراء التي كانت تطوق روان وأصبح الآن قادرًا على التحدث، حتى أنه كان قادرًا على تحريك رأسه قليلًا، استدار نحو سِيد وابتسم، كانت عيناه حمراء لكن صوته كان ثابتا،

“لم يكن عليك فعل ذلك، ولم تكن بحاجة للموت. الدرس الذي تريد تعليمي إياه لا طائل منه، فهذه أنا؛ عقلي يتحكم بقراراتي، لكنني لن أتخلى عن قلبي… لم يكن عليك فعل ذلك أيها الرجل العجوز،”

نظر إليه سِيد؛ كانت عيناه شاحبتين تمامًا بلا بؤبؤين، وكانا غريبين. “لا، كان عليّ فعل المزيد. أنت مذهل يا روميون؛ أشعر بألمك يتدفق كموجة لا نهاية لها؛ هناك ألمٌ شديد في قلبك لدرجة أنني أتسائل كيف لا تزال قادرًا على اتخاذ قرارات عقلانية. هذا إهدارٌ كبير لإمكاناتك، وأتسائل كيف استطعت الوصول إلى البعد الخامس بهذه العقلية وأنت تحمل سلالةً قويةً مثلي.”

هدر روان، “أنت حقًا لا تريد أن تعرف ما أفعله للحفاظ على سلامة عقلي.”

هز سِيد رأسه قائلًا: “العقلانية مُبالَغٌ فيها، إنها أداةٌ للضعفاء. هل ظننتَ أن إلورا هي الطفلة الوحيدة التي أنجبتها؟ إنها ليست كذلك، لكنها كانت الوحيدة التي نجت.” شد يده على رقبة روان قائلًا: “دعني أُريكَ القلائل الذين وصلوا إلى البعد الخامس، كيف ماتوا على عتبة الذاكرة، ولعلّك تبدأ بفهم ما يعنيه وزن سلالتي.”

شعر روان بأن معدته تتأرجح كما لو تم دفعه عبر نفق بسرعات سخيفة حتى بالنسبة له وتغير الواقع عندما رأى نفسه أمام شاطئ محيط أخضر.

انكمشت حدقتاه عندما أدرك أن كل رمال هذا الشاطئ هي عوالم من أبعادٍ أعلى، تتراوح من البعد الرابع إلى الثامن، وبغض النظر عن الجانب الذي نظر إليه، بدا هذا الشاطئ ممتدًا إلى الأبد. “هذه هي الذاكرة النائمة لبدائي الحياة،” همس صوت سِيد في وعيه، “هذا هو المكان الذي يجب أن تأتي إليه قبل أن تجد بُعد ذاكرتك. بالنسبة للآخرين، قد يصلون بسهولة إلى البعد السادس، لكن ليس بالنسبة لنا، لأن صلتك بشجرة الحياة قويةٌ وأشعر بها منك… قويةٌ جدًا، يجب أن تعود إلى هنا، أم لم تتسائل عن كل الأماكن التي احتجت للذهاب إليها بحثًا عن إجابات؟ خطواتك أوصلتك إلى أغصان شجرة الحياة؛ هذه هي غرائز سلالتك.”

لقد هدر الواقع وأومض البرق، وظهر شخص ما أمام روان؛

كان رجلاً ذو شعر أخضر طويل وملامح مثالية؛ الثقة والقوة تنضح من جسده في موجات، ويمكن لروان أن يميز على الفور الصلة بين هذا الرجل، إلورا، وبينه، كانوا جميعًا من نسل سسِيد.

“أنا لستُ كأي قديمٍ آخر صادفته يا روان. أنا جزءٌ من بدائي، ومع أن هذا يمنحني القوة، إلا أنه يحمل في طياته عبئًا. لقد وُلدتَ فانيًا، ولو بقيتَ كذلك، لَكُنتَ قد متَّ بسلام، ولكن كلما ارتقيتَ في سلم الأبعاد، ازداد اتصالك بجذورك، ولن يؤثر عليك هذا أكثر مما لو كنتَ على حافة الذاكرة.”

الترجمة : كوكبة