السجل البدائي - الفصل 1089

الفصل 1089: الدم الأسود

أخرج روان إصبعه ببطء من دماغ جيريديا ونظر إليه بتمعّن. كانت الاكتشافات التي استقاها من عقل هذا الرجل مذهلة، وحتى بالنسبة له، استغرق الأمر وقتًا طويلاً لاستيعابها.

مع أن سرعة رد فعل جيريديا كانت بائسة مقارنةً بردود فعله وباب الفوضى، إلا أن الصاعد كان يعلم أن مصيره لم يعد بيده، ومع ذلك لم يكن هناك ذعر في قلبه، فالفراغ في روحه لم يسمح لجيريديا حتى بالشعور بهذا الشعور. انتظر ببساطة، وثار غضبًا.

لقد دخل روان إلى عقل جيريديا وقرأ روحه ليكتشف متى سقط هذا الرجل، وقد قاده إلى مسار غير متوقع لأن المسار الذي قاد جيريديا إلى هذه النقطة التي وقف فيها أمام روان تم إنشاؤه قبل ولادته بوقت طويل، لقد كان ضحية للقدر.

رأى روان أن الفراغ في قلب جيرديا كان نتيجة صراخه للقيامة بعد أن ذبحه سامي الكارثة تحت الأرض.

منذ ما يقرب من مليون عام، عندما وصل روان إلى هذا العالم وحارب ضد إرادته، امتدت المعركة عبر الزمان والمكان، ورغم أن آثارها على الواقع كانت خاضعة لإرادة العالم، إلا أنها بقيت في أماكن وأشخاص معينين.

تأثر سلف جيريديا بصرخة قيامته عندما وُلِد روان من جديد، في ذلك الوقت، كان وعي روان خامدًا وكانت طبيعته الحقيقية غير المُفلترة بإرادته القوية تموج عبر الزمان والمكان، وكان ذلك غير ضار في الغالب للجميع لأن الكائنات ذات الأبعاد العليا فقط هي التي يمكنها استشعار عمل القوة على هذا المستوى، ومع ذلك، يمكن للأشخاص الموهوبين للغاية التقاط تلك الآثار التي خلفتها صرخته الغاضبة، وكان أحد هؤلاء الأشخاص الذين يمكنهم إلقاء نظرة خاطفة على تلك الصرخة هو سلف جيريديا.

سكنت تلك الصرخة بداخله وانتقلت إلى أبنائه وأحفادهم، وبالنسبة لمعظمهم الذين حملوا هذه الصرخة في أرواحهم، كانت غير ضارة لهم، بل كانت مصدر بركة لعائلاتهم خلال عصر الحرب الطويل لأن الكوارث يمكن أن تستشعر غضب سلالة روان في تلك الصرخة وفر معظمهم، وكان هذا هو السبب في وجود الصرخة في سلالة عائلة فانية لفترة طويلة دون أن تنكسر.

لقد استمر هذا الأمر في التناقل عبر العصور ولم يكن هناك شيء داخل هؤلاء الناس يتردد صداه مع حزن صرخة روان، ولم يكن هناك شيء يمكن أن يتردد صداه مع ذلك الفراغ البارد في قلبه الخالي من الروح، أي حتى جاء جيريديا.

حتى بدون لمسته، ولد هذا الطفل غريبا، كان هناك شيء مفقود فيه، جودة فطرية جعلت الوجود ملونًا، القدرة على الشعور، سواء بالألم أو الفرح، أو أي شيء على الإطلاق لم تكن مصنوعة بداخله عند الحمل به، ولد فارغًا، أطلقت روح كل فاني تيارًا واسعًا ملونًا من الضوء، لم تبث روح جيريديا شيئًا، بدلاً من ذلك شربت روحه نور الآخرين من حوله، مما جعل حتى والدته تكره رؤيته دون وعي عند ولادته، لأنه لم يستطع أن يعطي شيئًا للعالم سوى أن يأخذ.

لم يكن معروفًا ما إذا كان قد تعلم في المستقبل كيفية تنمية هذا الجزء المفقود من نفسه أو تزييفه بما يكفي ليتمكن من عيش حياة طبيعية نسبيًا، لكن مصيره تقرر في اللحظة التي ولد فيها وهذا الفراغ الذي امتلكه استدعى السم داخل روحه الذي سكن سلالته لمدة تقرب من سبعمائة ألف عام.

لقد تغذى على فراغه، وكان يتغذى منه أيضًا. حلقة مفرغة كأفعى تأكل ذيلها، لا تشبع أبدًا. كانت الطبيعة البدائية لثعبان أوروبوروس مُمثلة داخل جسد جيريديا، لكنه كان فانيا ولم يستطع التأقلم مع طبيعة ثعبان أوروبوروس، ولم يستطع التحكم في فراغه، فاستهلكه.

عندما لم يعد هناك ما يملأه، فكر جيريديا أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعل هذا الأمر من أجله ربما يكون السلطة، لذلك انضم إلى المقاومة، وخاض العديد من المعارك ضد مضطهديهم، لكن السلطة لم تحقق رغباته، والفراغ نما فقط على نطاق أوسع، وهكذا وجد جيريديا دون علمه الشيء الوحيد الذي يمكن أن يجعل تحمل الفراغ أمرًا قابلاً للإدارة بعض الشيء، إنها الكراهية.

كان يُسعده معاناة الآخرين، إذ كان يعتقد في تلك اللحظات أنهم يشعرون بفراغه، وأنه يستطيع التواصل معهم. كان يُحب أن يرى الأمل في عيون الآخرين يتلاشى في اليأس، لأنه كان يرى أحيانًا وميضًا عابرًا في عيونهم، جزءًا صغيرًا من فراغه، وتلك اللحظات جعلته يشعر بالحياة، ولم يعد وحيدًا.

كان يكره كل شيء في الوجود، ويريد أن يشعر الجميع بالفراغ بداخله، لكنه لم يكن يعرف سبيلًا لذلك، فذهب جيريديا، في كراهيته المتزايدة التي كانت تتحول بسرعة إلى وحشية، إلى البحر حيث أبحر بعيدًا عن أي أرض، وكان يلعن السماء والأرض يوميًا، ويلعن سلالته، ويتمنى الظلام لكل ما هو حي. حوّلت كراهيته دمه إلى دم أسود.

مزق جيريديا جسده بأصابعه وحوّل دمه الأسود البحر إلى سم، وفعل ذلك لسنوات دون حساب.

وعلى الرغم من تكوينه كمستكشف سامي، فإن الإساءة التي فرضها على جسده طوال القرون العديدة التي أبحر فيها على المحيط أضعفته إلى حالة الموت، والظل الذي كان يتبعه طوال هذه القرون والذي ظن أنه ليس سوى خياله جاء إلى شكله المحتضر وانحنى بجانبه.

غمرت أنفاسه الباردة، التي كانت تفوح منها رائحة عصور لا نهاية لها من الذبح والتهام الموتى، وجه جيريديا، وللمرة الأولى منذ ولادته، اهتز الفراغ في قلبه، وتراجع أمام شر أعظم.

ففتح إرديا فمه ضعيفا وقال: “أنت ساميَ”.

ظل الظل صامتًا لفترة طويلة قبل أن يرد: “أنا لست ساميك، ولا يمكنك العثور عليه لأنني قتلته”.

أضاءت عينا جيريديا، “هل أنت هنا لتقتلني أيضًا؟ لتأخذني إليه لأرتاح في حضنه.”

ضحك الظل، وبالنسبة لأي شخص آخر، سواء كان صاعدًا أو كارثة، فإن عقله سيكون قد تحطم بسبب هذا الصوت، لكن جيريديا كان فارغًا وكان الجنون بمثابة عزاء، لذلك انتظر إجابته بصبر بينما ضحك الشر،

“ساميك ليس من النوع الذي يرتاح بسلام، حتى الآن في موته، يرتجف جلده على سطحي كالديدان، وأمعاؤه تشد حبلًا حول عنقي ببطء، لكنه ميت، وبقاياه لا تحتاج إلا إلى تذكير. هل تفهم ما أقوله ولماذا أقوله لك؟”

وتوقف جيريديا في التفكير، فبالرغم من أنه كان مجنونًا، إلا أنه كان دائمًا حاد الذهن، ولم يكن لديه ذرة من الخوف في قلبه، وهكذا أمام هذا الشيء الذي من شأنه أن يجعل كل سامي تحت السماء يجن عند رؤيته، أخذ جيريديا وقته للتفكير في السؤال، وأخيرًا، تحدث، وساد الصمت الصورة من الصدمة.

كانت الكلمات التي نطق بها جيريديا بسيطة، فقد قال: “إذا أردت أن تدفنه، فأنا سأكون يدك”.

ضحك الظل بعد لحظة صمت طويلة، “لولا كراهيتي له وطبيعته السامة، لكنت وضعت ظلامه بجانب ظلامي. أنت فاني غريب، لا أريدك أن تكون اليد، ستكون نعشه.”

الترجمة : كوكبة