الصياد البدائي - الفصل 1
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
كان صباح يوم إثنين مملّاً آخر، مثل غيره من الصباحات التي مرّ بها جيك. أشعة الشمس المتسللة بعناد عبر الشقوق الضيقة في الستائر لم تؤدِ إلا إلى إضاءة الغرفة بخفة؛ فلم تستطع حتى أن تزعج نومه العميق. غير أن هذا السكون السحري لم يدم طويلاً، إذ دق جرس المنبّه كعادته، مشوِّشًا حلمًا ممتعًا لم يكتمل.
انتفض جيك من غفوة الأحلام، فزِعًا ومذهولًا، وبدأ يمدّ يده على أمل العثور على هاتفه، حتى التقطه أخيرًا. بعد تنهيدة تضجّر، شرع في مغادرة السرير، لينغمس في روتينه الصباحي المعتاد، ويستعد ليوم عمل جديد.
بعد الاستحمام بماء دافئ، تناول جيك إفطارًا خفيفًا وسريعًا، ثم ارتدى ملابسه وجمع أغراضه، وخرج من المنزل. في أقل من نصف ساعة، أنهى طقوس الصباح المتكررة وخرج من الباب في طريقه إلى العمل.
وفيما كان يهبط الدرج المؤدي إلى سيارته، غمره شعور غريب بأن هذا اليوم يحمل شيئًا مختلفًا. لم يجد تفسيرًا واضحًا لهذا الشعور، إذ بدت الأمور طبيعية حتى تلك اللحظة، لكن هناك شيئًا لم يتمكّن من تجاهله. ربما أحضر أحدهم الكعك إلى المكتب؟
كانت حركة المرور في أسوأ أحوالها، كعادة الأيام في هذه المدينة الكبيرة حيث يُحبَس الجميع في طوابير طويلة من الازدحام. أثناء جلوسه خلف المقود، وهو يتابع سيل السيارات المتكدسة، تساءل عما إذا كان عليه تجربة التنقل على دراجة أو حتى الركض للعمل؛ لكن فكرة اضطراره للاستحمام وتغيير ملابسه في المكتب بدت مزعجة. وهكذا، بقيَ عالقًا في طوابير لا نهاية لها من المركبات.
وأخيرًا، وصل جيك إلى موقف السيارات، ونزل من السيارة حاملًا حقيبته، ودخل إلى مبنى الشركة حيث عمل خلال العامين الماضيين. كان المبنى ضخمًا، مكونًا من عدة طوابق وواجهة زجاجية لامعة، محاطًا بأبنية شاهقة مشابهة.
حالما دخل إلى البهو، استقبلته جوانا، موظفة الاستقبال. كانت امرأة في منتصف العمر، تُعرَف بأقراطها الكبيرة التي تتمايل مع كل حركة منها، وتضع كميات من المكياج كافية لتغطي فصلاً دراسيًا كاملًا من فتيات المدارس الثانوية. لو طُلب من جيك وصفها ببساطة، لقال إنها تُشبه “أم كرة قدم عالقة في أزمة منتصف العمر الدائمة”. كان مكتب الاستقبال يبعد بضعة أمتار عن المصاعد، مما جعل تحيتها جزءًا من روتين الصباح للموظفين.
“صباح الخير يا جيك، كيف كانت عطلة نهاية الأسبوع؟” سألته بحماس مبالغ فيه في هذا الوقت المبكر من الصباح.
رد جيك بأدب، قائلًا: “كما هو الحال دائمًا. وماذا عنكِ؟” وهو يتوقع تمامًا ما سيأتي من تفاصيل.
بدأت جوانا في الحديث بحماس، ساردة تفاصيل دقيقة عما فعله زوجها مايك، ما جعل جيك يشعر بشعور قوي من “الديجا فو”، إذ بدا وكأنها تكرر نفس القصة التي قصّتها عليه في الأسبوع الماضي.
بعد حديث طويل حول أمور عادية، وصل المصعد أخيرًا ليكون طوق النجاة الذي حمله إلى الطابق الرابع عشر بعيدًا عن حديث جوانا.
عند خروجه من المصعد، وجد جيك أمامه مساحة هادئة ومفتوحة. “يبدو أنني من أوائل من وصلوا اليوم”، فكر في نفسه، متجهًا إلى مكتبه. جلس على مقعده، شغّل جهاز الكمبيوتر، وبدأ يتصفح رسائل البريد الإلكتروني التي تراكمت خلال عطلة نهاية الأسبوع.
أمضى جيك أكثر من عامين في هذا المكتب. ورغم أن عمله وُصف غالبًا بأنه ممل، إلا أنه وجد فيه راحة فريدة، حيث كان يندمج في جداول البيانات والتقارير المالية. عمل في القسم المالي، واعتبر نفسه متمكنًا من وظيفته.
كانت وظيفته تتعلق بمجال الاستثمارات، وحمل اللقب الرسمي “محلل أعمال”. كان يتميز بحدسٍ قوي في اختيار الأسهم المناسبة وتجنب الخيارات السيئة، مما ساعده على تحقيق النجاح في عمله.
شيئًا فشيئًا، بدأ المكتب يمتلئ بالموظفين الذين أخذوا أماكنهم بعد تحيات صباحية مختصرة. ومع مرور الوقت، هدأ المكان تدريجيًا مع انغماس الجميع في مهامهم. خيب جيك أمله لعدم وجود أي كعك كما توقع، فدون ملاحظة داخلية ساخرة لنفسه.
أخذ يمضي في عمله، منغمسًا في المهام العاجلة حتى بدأ التعب يتسلل إليه مرة أخرى، مما جعله يدرك أنه لم ينل قسطًا كافيًا من النوم. وكان زملاؤه قد اعتادوا تجنّب الأحاديث الطويلة معه، إذ عرفوا أنه ليس من هواة الأحاديث الجانبية، وتركوه يواصل عمله في هدوء تام، كما كان يفضّل.
كان جيك دائمًا شخصًا يميل إلى الاسترخاء والتأني، حذرًا وانطوائيًا بعض الشيء. غالبًا ما يفضل العزلة والأنشطة التي لا تتطلب تفاعلات اجتماعية كثيرة. عندما أصر عليه والده للالتحاق بنشاط رياضي لإخراجه من غرفته، اختار جيك رياضة الرماية لكونها نشاطًا يمكن أن يمارسه بمفرده.
كان جيك راضيًا بحياته إلى حد كبير. فحياته المهنية مستقرة، وعائلته جيدة، وشقته جميلة، وزملاؤه في العمل لطيفون، ومستقبله يبدو مشرقًا. لم يكن شخصًا بارزًا، بل مجرد وجه عادي في حشد من الناس، وكان يستمتع بكونه كذلك. كان يدرك أن التميز يجلب اهتمامًا غير مرغوب فيه، وكان يفضل الابتعاد عن أي لفت للنظر.
وبينما كان جيك يغوص في أفكاره، دخل رئيسه يعقوب إلى مكتبه بابتسامة واسعة على وجهه.
“أهلاً، يا صديقي! أنا وبعض الزملاء قررنا الخروج لتناول الغداء، هل ترغب في الانضمام إلينا؟” قال يعقوب بحيوية.
تردد جيك قليلًا قبل أن يجيب: “بالطبع، يبدو خيارًا جيدًا.”
كان جيك يكن ليعقوب احترامًا خاصًا؛ فهو يمتلك شخصية قيادية بالفطرة، بمهارات اجتماعية ممتازة وقدرة بارعة على قراءة الناس، ويجعل الجميع يشعرون بالراحة من حوله. يعقوب كان أحد القلائل الذين يعتبرهم جيك أصدقاء حقيقيين.
برفقة يعقوب كان هناك رجل يُدعى بيرترام. يتمتع بيرترام بهيئة ضخمة وحضور هادئ يضفي عليه بعض الغموض، لكنه في الواقع كان شخصًا لطيفًا للغاية. جيك كان ينظر إلى بيرترام وكأنه كبير الخدم أو الحارس الشخصي ليعقوب، وكان قد سمع من قبل أن بيرترام اعتنى بيعقوب منذ سنوات طفولته.
علم جيك أن عائلة يعقوب كانت ثرية جدًا، وكان يستغرب كيف أن يعقوب لم يتحول إلى شخص متعجرف، بل ظل ودودًا ولطيفًا مع الجميع. كان يعقوب محبوبًا بين الزملاء في المكتب، وخصوصًا من العملاء، ولا سيما النساء.
لا شك أن يعقوب كان يمتلك جاذبية خاصة؛ طوله، ووسامته، وأناقة ملابسه التي تبدو دائمًا ملائمة ومثالية، مع ابتسامة لطيفة لا تفارق وجهه. كل هذه الصفات كانت تزيد من شعبيته بين من حوله.
رغم قلة حب جيك للحديث المطول، استطاع يعقوب بفضل مهارته الاجتماعية توطيد علاقة ودية معه؛ كان يعقوب يستطيع الحديث بحرية حتى مع شخص قليل الكلام مثل جيك. وكانت العلاقة بينهما مريحة لأن جيك كان موظفًا يقدم نتائج جيدة ومثمرة دون مشكلات، مما يسهل الأمور على الجميع.
لهذا السبب وافق جيك على دعوة الغداء؛ لأنه مع يعقوب، كان يشعر بأن الوجود لن يكون محرجًا كما قد يحدث مع آخرين.
وقف جيك وتوجه نحو المصعد برفقة يعقوب وبيرترام، بينما كانوا يتبادلون الحديث حول العمل وخططهم لاجتماع مهم بعد استراحة الغداء.
وفي المصعد، انضمت إليهم جوانا وزوجها مايك. سرعان ما امتلأ المصعد بوجود ثلاثة أشخاص آخرين كانوا بانتظار النزول.
كانت من بين هؤلاء زميلة تُدعى كارولين، تعمل في قسم الموارد البشرية. كارولين كانت أصغر من جيك بسنة، نحيلة وذات شعر أشقر، وكانت بصراحة تناسب ذوقه تمامًا. جيك كان يفكر في أن مشاعره نحوها قد تكون نتيجة للتفاعل المتكرر بينهما، لكنه لم يكن راغبًا في التصرف بناءً على هذه المشاعر لأسباب متعددة، من بينها تجاربه السابقة الفاشلة في العلاقات.
فكر جيك في تجربته الأخيرة في العلاقة وقال لنفسه بسخرية: “حسنًا، خيانتها لي مع أفضل صديق لي ليست مجرد فشل بسيط، أليس كذلك؟”
اكتفى جيك بإعطاء كارولين إيماءة خفيفة مع عبارة “صباح الخير” رغم حلول الظهيرة، وتلقاها بارتياح عندما اعتبرت كارولين الموقف مزحة عابرة.
كان جيك يعلم جيدًا أن كارولين بالكاد تعتبره صديقًا، وأنها على الأرجح تنظر إلى يعقوب بإعجاب. لم يكن جيك يلومها على ذلك؛ يعقوب كان شخصًا رائعًا من جميع النواحي، وجيك لم يكن يشعر تجاهه بالغيرة أو الاستياء، على الرغم من اعتباره منافسًا غير مباشر في هذه المسألة.
جيك كان يمتلك مظهرًا متوسطًا؛ ليس نحيفًا للغاية ولا بدينًا، بشعر بني قصير وعيون بنية عادية. لم يكن يعتبر وسيمًا ولا قبيحًا. ربما كان الشيء الوحيد الذي يميزه قليلًا هو لياقته البدنية الجيدة، والتي يحافظ عليها من خلال ممارسته للرماية ومواظبته على الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية.
*دينغ!*
أعاد صوت إغلاق باب المصعد جيك إلى الواقع، حيث بدأ المصعد بالنزول نحو الطابق الأرضي. بينما كانت أفكاره تدور حول ما سيختاره للغداء، توقفت تلك الأفكار فجأة.
*دينغ!*
صوت آخر مشابه لصوت المصعد يملأ رأسه، وفي نفس اللحظة تظهر كلمات أمام عينيه، في عقله. بالكاد استطاع قراءتها قبل أن يفقد وعيه:
*تم تأكيد بدء الكون الثالث والتسعين. بدء السلسلة المقدمة والدروس التعليمية.*
χ_χ