عبد الظل - الفصل 2210
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة 
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 2210 : سونغ، فال
جيشان يواجهان بعضهما البعض على سهلٍ من العظام.
على جانب، تألق الفولاذ ورفرفت الراياتُ القرمزية في مهب الرياح. وعلى الجانب الآخر، وقفت في صمت كتيبةٌ من الموتى أمام الجنود الكئيبين، وعيونٌ لا تحصى تفيض بالفراغِ، والخوف، وترقبٍ قاتم.
لم تكن أعين محاربي نطاق السيف مختلفة كثيرًا، إذ كانت ممتلئة بالرهبة والاستسلام اليائس.
أنارت ستارةٌ من السُحب الرمادية السماء البعيدة ببريقٍ متوهج، وجعل النور الساطع سهل العظام يتلألأ كسطح مقلاةٍ بيضاء ملتهبة. انتشر الحر الخانق كاتمًا الأنفاس، مما جعل محاربي الأغنية يتوقون إلى عواصف قلب الغراب الثلجية، بينما تمنى محاربو فالور مياه بحيرة المرآة الباردة.
فهل سيرون موطنهم مجددًا؟.
لا أحد يعلم، وكان معظمهم خائفًا جدًا حتى من التساؤل.
وقف الفيلق الملكي السابع في قلب جيش الأغنية. كانت سيشان في مقدمة جنودها، تنظر عبر ساحة المعركة بوقار.
مع كاسي بجانبها، صامتةً بلا حراك، مقيدةً بأوتارٍ غير مرئية لقوة الملكة.
أما أخوات الدم – اللواتي ما زلن على قيد الحياة منهن – فقد كن متناثراتٍ بين الجنود، وثيابهن الحمراء تبرز بين بحر الفولاذ والجلد والحراشف. كانت فيليز بينهن، تخفي مزيجًا معقدًا من المشاعر في أعماق عينيها الجميلتين.
لم تكن رَين، تمار، راي، وفلور بعيدين عن المكان الذي وقفت فيه الخادمة السابقة، ملتزمين الصمت كما كان حال بقية الجيش. استقرت على سهل العظام سكينةٌ مشؤومة، وكأن الجميع كانوا إما غير راغبين أو غير قادرين على إصدار صوت.
في مكانٍ آخر من تشكيل جيش الأغنية، تواجد قديس الحزن حاضرًا، وكذلك دار من عشيرة ماهارانا، والقديسة سيريس، والقديسة سيورد – من بين العديد من الأبطال المتسامين الآخرين. بدت وجوههم متعبةً ومثقلةً بالكآبة، تمامًا مثل وجوه الجنود المستيقظين.
على جوانب تشكيل المعركة الشاسعة، وقفت حشودٌ من مخلوقات الكابوس المستعبدة تنتظر أمر سيدتها. تواجدت سيدة الوحوش نفسها بينهم، مع يدها تستقر على حراشف رجسٍ بشع. وبدا وجهها الفاتن أشد شحوبًا من المعتاد، بجمراتٌ داكنة تشتعل في عينيها الساحرتين.
كانت تحدق في بحر المحاربين الأعداء في الأفق.
كان تشكيل جيش السيف أكثر تنظيمًا وفخامةً من تشكيل جنود الأغنية. وقف فرسان فالور في مركزه، بينما كانت جزيرة العاج تحوم في السماء فوقهم.
وقف السيد بلا شمس وآيكو على العشب الزمردي، يحدقان في الأسفل بصمت.
في الأسفل بعيدًا، اتكأ لورد الظلال بلا مبالاة على أوداتشيه المهيب، وشعره الأبيض يتحرك قليلاً مع الرياح. لم يظهر قناعه الشيطاني أي تعبير، ولم يكن هناك شيء سوى الظلام في شقوق عينيه المخيفة.
على بُعد مسافة، وقت نيفيس أمام صفٍ من كتيبة منظمة لجنود مدرعين للغاية. لم يكن قوامها الرشيق محجوبًا سوى بالقماش الرقيق لسترة خفيفة، وسيفها الطويل مستقرٌ بسهولة على كتفها. عكس شعرها نور الشمس، متدفقًا في الرياح كجدولٍ جميل من الفضة المتوهجة.
كان حراس النار خلفها مباشرةً. من بينهم، كانت سِيد تعاني بصمت من الحرارة القاسية. تنهدت، وفتحت قنينة الماء الخاصة بها، وشربت منها بشراهة، ثم هزت القارورة عدة مرات وأسقطتها على الأرض.
وليس بعيدًا عنهم، تواجدت عشيرة الريشة البيضاء مستعدةً للمعركة. كانت القديسة تريس والقديس روان في مقدمة محاربيهم المستيقظين، بينما كانت ابنتهم تيل بينهم. بدا الثلاثة هادئين، لكن الرياح في تلك البقعة من ساحة المعركة كانت مضطربة، كاشفةً عن مشاعرٍ خفية.
كان القديسون الآخرون في جيش السيف متوترين بالمثل. بدا أن القديس ريفالين فقد بعضًا من وقاره الشجاع، محدقًا عبر ساحة المعركة بعبوس. في مكانٍ آخر، كان جيست مستندًا إلى عصاه، يحدق في الأرض بتعبيرٍ قاتم.
للمرة الأولى منذ زمنٍ طويل، شعر أنه مسنٌ جدًا لمواجهة متطلبات العالم الذي تحكمه تعويذة الكابوس.
كان حفيده، السيد ميرسي من عشيرة داغونيت، بين جنود جيش السيف. كما كان ابن ريفالين، تريستان، هناك أيضًا.
وكذلك عددٌ لا يحصى من الآخرين.
أنتظرت أرواحٌ لا حصر لها بدء المعركة على جانبي سهل العظام البيضاء، مرتجفةً من الرهبةِ والتوجس.
منتظرين أنشودة أبواق الحرب. لتبدأ المعركة.
ولتصل الحرب نهايتها.
لكن لم يصدر الأمر بالهجوم أبدًا.
بل بالمقابل، ظهرت شخصيتان من بين صفوف الجنود، تسيران بهدوء على سطح العظام القديمة بينما كانت الجمجمة العملاقة تلوح في الأفق، تراقبهما بصمت.
واحدٌ منهما كان رجلاً طويل القامة، ذا شعرٍ داكن وعينين باردتين كالفولاذ. كان يرتدي درعًا ثقيلًا داكنًا، تشعّ منه هالةٌ خانقة من الهيمنة والقمع. مع عباءةٍ قرمزية ترفرف خلفه كالأمواج، ولونها الزاهي في تناقض صارخ مع نظرته القاتمة عديمة الرحمة.
وهو أنفيل من فالور، ملك السيوف.
أما الآخرى، فكانت امرأة فاتنة الجمال، ترتدي فستانًا أحمر ملكيًا، وتسير عبر الامتداد الشاسع للعظام بخطواتٍ هادئة وآسرة. بدت بشرتها شاحبةً كالجثة، بابتسامة خفيفةٌ ترتسم على شفتيها القرمزيتين. أما شعرها الأسود الغرابي، فكان يتدفق كشلالٍ من الظلام المتلألئ، وعيناها الساحرتان تخبئان شيئًا غريبًا، مثيرًا للرعب والاشمئزاز الغامض.
وهي كي سونغ، ملكة الغربان… ملكة الديدان.
سار السياديان عبر ساحة المعركة دون عجلة، وبدا مظهرهما البشري صغيرًا وتافهًا مقارنةً بالجيوش الهائلة خلفهما… لكنه في الوقت ذاته، بدا أكبر من العالم نفسه.
وأخيرًا، التقيا في المنتصف.
على أحد الجانبين، ارتفع الجدار الأسود الشاهق للجبال الجوفاء نحو السماء، وغرقت قممه المسننة في الضباب الأبيض. وعلى منحدراتهِ الضبابية، استقرت جمجمةٌ عملاقة، تحدّق بهما وكأنها نذيرٌ للشر.
إلى الجانب الآخر، امتدّ قبر السَّامِيّ في الأفق. وبات الآن سطحه، الذي كان فيما مضى مغمورًا بالأدغال القرمزية، ناصعَ البياض، مطهرًا من الرجسات الفظيعة بفضل جهود الجيشين العظيمين.
تبادل أنفيل وكي سونغ النظرات بصمت لبضعة لحظات. حافظ الملك على تعبيره البارد القاسي، بينما كانت الملكة تبتسم بخفّة.
وفي النهاية، كانت هي من كسرت الصمت أولًا. لكن هذه المرة، لم تستخدم أصوات الشبان الموتى، بل تحدثت بصوتها الخاص.
“فال.”
رد أنفيل بهدوء:
“سونغ.”
التزمت الصمت لوهلة، ثم ضحكت فجأة.
“آه… تخيّلتُ هذه اللحظة كثيرًا، أتعلم؟ تساءلتُ كيف سأشعر، وما هي الكلمات التي سأقولها. لكن الآن، بعدما حلّت اللحظة بالفعل… أجد أنه لا شيء لدي لأقوله لك على الإطلاق.”
اكتفى أنفيل بالتحديق بها ببرود.
“لا أستطيع القول إنني أوليتكِ الكثير من التفكير، بذاتي.”
ابتسمت كي سونغ.
ثم، وهي تبعد نظرها، تنهدت بصوت خافت – أو على الأقل، تظاهرت بذلك، وهي تتحكم في دميتها بمهارة لا تشوبها شائبة.
وبعد لحظة قصيرة، سألت فجأة:
“هل تذكر، بالمصادفة… أول مرة التقينا فيها؟”
تأمل للحظات، ثم هزّ رأسه قليلًا.
“لا أذكر ذلك تحديدًا، لا. هل كان في الأكاديمية؟”
ألقى كي سونغ نظرة خاطفة عليه.
“لا. أظنه كان في الحفل المقام تكريمًا للشعلة الخالدة، صحيح؟ كنا أطفالًا آنذاك. مرت كل هذه السنوات، وحدثت أشياءٌ كثيرة. تغيّر العالم كثيرًا منذ ذلك الحين… من كان ليتنبأ كيف سينتهي أمر أولئك الأطفال؟ وكيف سينتهي أمر عشيرة الشعلة الخالدة، كذلك.”
توقفت للحظة.
“هل علمت أن جدران الأكاديمية قد اخترقت، بالمناسبة؟ للمرة الأولى منذ تأسيسها… ولم يكن ذلك على يد مخلوق كابوسي. فقد صمدت أمام مخاطر تعويذة الكابوس طوال ستة وثلاثين عامًا. لكنها لم تصمد أمامنا.”
ابتسم أنفيل ببرود.
“لماذا؟ هل تشعرين بالحنين؟”
تأملت كي سونغ ملامحه للحظات، ثم ابتسمت.
“ألا يحق لي؟ أنت آخر صديق لي في هذا العالم، بعد كل شيء. وبعد اليوم، لن يكون لي أي صديق.”
نظر إليها فقط بهدوء.
“هل كنا يومًا أصدقاء؟ لا أعتقد. وعلاوةً على ذلك، ستكونين ميتةً فعلًا بعد اليوم، ولا يحتاج الموتى أصدقائًا. لذا، لا تشعري بالحزن الشديد.”
ضحكت كي سونغ.
“أهذا كل شيء؟ بعد كل هذه السنوات، بعد كل ما فعلناه، ليس لديك ما تقوله حقًا؟”
هز أنفيل كتفيه بلا مبالاة.
“الكلمات بلا معنى. باتت بلا معنى الآن، على الأقل… قال كلانا كل ما لديه بالفعل. فما الذي تبقّى ليقال؟”
تنهدت كي سونغ.
“حسنًا، لستَ مخطئًا. استعد للموت إذن. فأنت لم تعُد مختلفًا عن الجثة، لذا قتلك سيكون مجرد رحمة.”
عند سماع تلك الكلمات، ابتسم بسخريةٍ قاتمة.
“من المضحك سماع شيءٍ كهذا منكِ، أنتِ بالذات.”
توقفت قليلًا، ثم ابتسمت بدورها.
“…نعم. معك حق، إنه لأمرٌ مضحكٌ قليلًا.”
وما إن نطقت بتلك الكلمات… حتى ارتجف العالم.
ترجمة آمون