عبد الظل - الفصل 1823
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 1823 : الوحل
امتدت السهول القاحلة بقدر ما يمكن للعين أن ترى تحت السماء الغارقة بالغيوم. كان الأفق مغطى بستارٍ مهتزٍ من المطرِ البارد، وتحولت الأرض إلى امتدادٍ لامتناهي من الوحل.
شق وادٍ السهل مثل ندبةٍ عميقة، مصدراً أصوات بكاءٍ غريبة. وسرعان ما سيتحول إلى نهرٍ هائج، ولكن في الوقت الحالي، كانت المنحدرات العمودية تغرق في الظلام فقط.
وكانت امرأة شابة تتحرك عبر السهل، وتجر خلفها زلاجةً مؤقتة… ومع ذلك، كان من الصعب التعرف عليها كإنسان من النظرة الأولى. مغطاةً بالوحلِ من رأسها إلى أخمص قدميها، بدت وكأنها غوليم نحيلٌ مصنوعٌ من الطين. التصق الوحل بجلدها وملابسها، مما جعل المرأة تبدو كجزءٍ من الأرض القاحلة قد عاد إلى الحياة بطريقة ما.
كان وجهها وشعرها مغطيين بطبقاتٍ من الأوساخ أيضًا. فقط عيناها السوداوتان الغائرتين كانتا تظهران، مشتعلتين بعزمٍ شرس.
… في النهاية، صمدت رَين لأكثر من يوم. في الواقع، صدمت لمدة ستة أيام، متحملة الجهد غير الإنساني والإجهاد الساحق لفرارهم اليائس ضد كل الصعاب..
وصلت إلى نقطة الانهيار منذ وقت طويل. ولكن، بطريقة ما، تمكنت من الاستمرارِ حتى بعد أن أنكسرت. وفيما بعد، واجهت حدًا آخر، أعمق بكثير… لم تكن رَين متأكدة ما هو، ولم تستطع تذكره بوضوح. كل ما كانت تعرفه هو أنها ما زالت واقفة.
كان هذا هو كل ما يهم.
كانت الناقلة الأصلية قد انهارت منذ فترةٍ طويلة. وبالطبع مازالت العباءة المسحورة بحالة جيدة، ولكن الإطار الخشبي قد تشقق وتحطم. وكانت رَين تستمر في إصلاحه بأفضل ما تستطيع، ولكن في مرحلةٍ ما، لم تتمكن إلا من التخلص من الفروع المكسورة واستبدالها.
بنت الإطار الجديد من عظام مخلوقات الكابوس الذين هاجمتهم في منتصف الليل.
كان الرنين العذب لبلورات الجوهر وهي تصطدم ببعضها في أعماق روحها يصم الآذان تقريبًا الآن، يملأ أذنيها. وأصبحت رؤيتها غامضة وضيقة. كان معظم وعيها مستهلكًا بإحساس جوهر الروح وهو يدور على شكل دوامةٍ هائجة، يتخللُ كل خليةٍ من جسدها. وكان الباقي مملوءًا بالإرهاقِ والألم.
خطوة. خطوة. ثم خطوة أخرى.
كلما توجهوا جنوبًا، أصبح الطقس أكثر كآبةً. وانهمر المطر البارد من السماء الرمادية أكثر وأكثر تكرارًا، وازداد شدةً. ولكنها لم تمانع. ليس فقط لأن هذا يعني أنهما لن تعانيا من العطش، بل إن جر الناقلة عبر الوحل كان أسهل مما على الأرض الجافة.
بالطبع، كانت هذه صفقة محفوفة بالمخاطر. فلربما كانت رَين قد ماتت لولا بدلة الجسد العسكرية التي ترتديها — فالبلل يعني فقدان الحرارة، والحرارة هي الطاقة. ومع المجهود الذي كانت تبذله، كانت الطاقة مورداً ثمينًا لا يمكنها أن تجرؤ على إهداره.
كان جسدها قد بدأ يستهلك نفسه بالفعل، لذلك كانت الطاقة سلعة حيوية.
أما تمار، فلم تكن حالتها أفضل بكثير.
لم يكن عليها أن تجهد نفسها جسديًا، وكانت جروحها تُشفى. ولكن أُضيفت جروحًا جديدة إلى القديمة بعد ذلك الهجوم الليلي.
فقدت الإرث الشابة الكثير من الدماء، وعلى الرغم من أنهم قتلوا الرجسات في النهاية، إلا أن ذلك لم يأتِ بدون تكلفة.
كانت رَين قلقة بشأن الفتاة الأصغر سنًا.
لم يكن لديهما الكثير من الفرص للتعرف على بعضهما البعض بشكل أفضل خلال الأيام الستة الماضية — فقد استغرق السير المرهق بلا نهاية معظم وقتهما، وعندما كانتا ترتاحان ليلاً، كانتا متعبتين للغاية للتحدث.
ومع ذلك، شعرت رَين بأن رابطًا غير مرئيًا قد تشكل بينهما. وكيف لا، بعد أن مرّتا بكل هذه الصعاب معًا؟، السهل الموحل، السماء الباكية، الرغبة المشتعلة في النجاة… لن يعرف أحد أو يتذكر هذهِ المحن، لكنهما ستفعلان.
كان هناك صوتٌ جذب انتباهها فجأةً.
وبالكاد تمكنت من سماعه خلف حفيف المطر، وهدير المياه المندفعة عبر الوادي، ولحن جوهر روحها، وصمت أفكارها المخدرة.
“ني!، راني!، را…”
ارتعشت واستعادت وعيها. في اللحظة التالية، ورأت عدة ظلال سريعة تندفع نحوهما عبر المطر.
مخلوقات كابوس.
‘اللعنة عليهم…’
ودون إضاعة أي وقت، ارتمت رَين على الأرض.
وخلفها، كانت تمار قد جلست بالفعل على الناقلة. تحمل قوسًا في يدها، وتضع سهمًا على وتره باليد الأخرى.
وبينما كانت رَين تحاول بشكل محموم فك نفسها من الحزام المصنوع من السبائك، أطلقت الإرث الشابة السهم. اخترق السهم المطر الغزير وأصاب أحد الرجسات في كتفه. وعلى الرغم من ضعفها، إلا أن تمار قد تمكنت من الحفاظ على دقة ملحوظة — ولكنها لم تكن كافية تمامًا. تعثر المخلوق وسقط على الأرض، ولكنه سرعان ما نهض مجددًا واستمر في الركض.
على الرغم من أنه تلقى جرحًا عميقًا، إلا أنه لم يتم تدمير أي من أعضائه الحيوية.
‘اللعنة.’
كان هناك ثلاثة رجسات، كل منها بحجم ذئب. ومن مظهرها، كانت مستيقظة فقط… في الواقع، كان حظ الاثنتين جيدًا بعدم مواجهة مخلوق كابوس ساقط بعد. ومع ذلك، كان الرجس المستيقظ مميتًا بالتأكيد. خاصةً في وضع مثل هذا، عندما كانت المبادرة في صالحهم.
‘أنا متعبة للغاية…’
بقيت رَين مستلقيةً على الأرض لبضعة لحظات، ثم نهضت على ركبتيها وسحبت سكين الصيد الخاص بها. أمسكت بمقبض الخنجر المسحور بيدها الأخرى ووقفت، ممسكةً بكلا النصلين في وضعٍ دفاعي.
وبحلول هذا الوقت، كانت تمار قد أطلقت سهمًا آخر، وأخيرًا أسقطت الرجس المصاب. كان وجهها شاحبًا، والجرح القبيح الذي امتد عبر كتفها وصدرها قد انفتح، نازفًا الدماء. كان الضغط الناتج عن سحب القوس المسحور القوي أكثر مما يمكنها تحمله.
ومع ذلك، كانت بالفعل تسحب الوتر للمرة الثالثة.
كانت مخلوقات الكابوس على وشك الوصول إليهما.
اندفع كلا الرجسين للأمام في وميضٍ من المخالب والأنياب والعيون الهائجة.
وفي تلك اللحظة، أصاب سهم تمار أحد المخلوقات في رأسه، مما أدى إلى قتلهِ فورًا.
قفز الآخر على رَين. فانزلقت تحت مخالبه ودفت نصليها الاثنين إلى الأمام. وبالكاد اخترق سكين الصيد جلد الرجس القاسي وانزلق من قبضتها، ولكن غاص الخنجر الطويل في لحمه حتى المقبض.
سقط المخلوق على رَين وأسقطها على الأرض. بالكاد تمكنت من دفع الرجس بعيدًا، مرسلةً إياه طائرًا من فوق رأسها.
وسقطا معًا.
‘هذا يؤلم.’
سقطت رَين على ظهرها، ولكنها استدارت ونهضت على ركبتيها على الفور تقريبًا. ثم اندفعت نحو الرجس الذي كان يكافح، وثبتته على الأرض بثقل جسدها وبدأت في طعنه مرارًا وتكرارًا. كانت ضرباتها موجهةً إلى جميع النقاط التي ينبغي أن تكون فيها الأعضاء الحيوية.
وبعد فترة، توقف الوحش عن الحركة.
زحفت رَين بعيدًا عن جثته بضعف واستلقت على الوحل.
بعد تلك الانفجارات العنيفة من القوة، شعرت وكأنها لن تكون قادرة على الوقوف أبدًا.
ومع ذلك… طوال ذلك بأكمله، لم يتوقف الرنين العذب أبدًا. حتى أثناء اندفاع المخلوق المزمجر نحوها، وصراعها معه على الأرض، وغرس نصلها في لحمه، لم تتوقف رَين عن تدوير جوهرها.
وفي مكان ما عميقًا داخلها، تشكلت حبة أخرى مشعة من الرمل.
ابتسمت بتعب.
‘قريبًا… قريبًا…’
كانت قطرات المطر تتساقط بغزارة على وجهها المحترق.
ترجمة أمون