عبد الظل - الفصل 2297
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 2297 : ليلةٌ في باستيون
كانت الشمس قد بدأت تغرب فوق باستيون حينما عادت نيفيس إلى غرفتها الفسيحة في قمة برج العاج. كان الأفق متوهجًا بتوهّجٍ مدهش من الألوان الحمراء والذهبية، فيما تحوّل السماء فوق بحيرة المرآة إلى درجة عميقة من اللون النيلي، تتلألأ فيها نجوم لا تُعدّ ولا تُحصى على قماشها الحريري كأنها جواهر فضيّة.
وكان قرص البدر الشاحب قد بدأ في الارتفاع هو الآخر…
ازدادت الظلال عمقًا وغموضًا؛ مُعانقةً العالم.
بينما كانت نيفيس تسير نحو الشرفة ناظرةً للأسفل، خرج صني من ظلها وعانقها من الخلف، مستندًا بذقنه على كتفها.
“أكان يومًا طويلًا؟”
استنشقت نيفيس نفسًا عميقًا، ثم أطلقت تنهيدة طويلة.
راقب كلاهما انعكاس القمر وهو يتحرك على سطح الماء في صمت. وبعد لحظات، شدّ صني عناقه قليلًا.
“بإمكانكِ أن ترتاحي الليلة. أنا من سيتولى الحراسة.”
في الحقيقة، لم تكن نيفيس تقيم دائمًا في باستيون. معظم وقتها كانت تقضيه في ساحات المعارك المختلفة – في المياه الغامضة لبحر العاصفة، في المناطق المرعبة جنوب قبر السَّامِيّ، وفي الجحيم المتجمد القاتل غرب قلب الغراب. وإن لم تكن هناك، فكانت تقود البشرية إلى الحرب في عالم اليقظة، حتى وإن كان العالم ذاته يكبت قواها ويرفض حضورها.
كانت تُكافح بشدة لتؤجل انهيار الحضارة البشرية على الأرض، وتُعدّ عالم الأحلام لاستقبال حشود اللاجئين الذين سيفرون من عالمهم المحتضر. وفوق كل ذلك، كانت تبحث بلا هوادة عن المزيد من القِلاع – تلك التي لم تُكتشف ولم وتُغزو بعد، كل ذلك من أجل تقوية نطاق البشرية إلى أقصى حد، وتمهيد الطريق للسياديين البشريين الذين سيأتون بعدها.
أما صني، فكان يقاتل هو أيضًا، وإن كان ذلك بطريقة أكثر خفية.
لكن في كل شهر، عندما يكتمل القمر ويعلو فوق باستيون، كان لا بد لنيفيس وصني أن يكونا هنا. وذلك لأن الشيطان الملعون الذي أطلقاه في بحيرة المرآة الحقيقية لإيقاف موردريت لا يزال هناك، مختبئًا في الانعكاسات. كان يبقى محبوسًا بأمان في الجانب الآخر من المرآة العظيمة معظم الوقت، لكن في هذه الأيام القليلة التي تصبح فيها الحدود بين النسختين من باستيون رقيقة، كان تأثيره المظلم أحيانًا يتسلل من انعكاس القمر.
ولهذا كان عليهما أن يبقيا في حالة يقظة.
وضعت نيفيس يديها على يديه، واتكأت قليلًا إلى الخلف في عناقه القوي، متيحة لنفسها أن تتكئ على جسده.
“لستُ متعبة لهذا الحد. فقد نمتُ جيدًا الليلة الماضية…”
باعتبارهما فائقين، لم يكن عليهما النوم كل ليلة، أو حتى كثيرًا… نظريًا.
مع ذلك، كانت نيفيس تعاني من ضغط دائم بسبب عيبها، لذا شجعها صني على الراحة والتعافي قدر ما يسمح به جدولها المزدحم إلى حد لا يُصدّق.
ومع آخر خيوط النور التي كانت تغرق في الظلمة المنتشرة، سألت:
“كيف سارت معركتكما؟”
ضحك صني قليلًا.
“سارت الأمور على ما يرام، على ما أظن. تمكنت من قتل أحد الطغاة، لذا سأصل إلى أعشاشهم قريبًا. لكن… تم تفكيك قشرتي بسرعة. كنت عاجزًا تمامًا. مع أنني كنت أقوى من أي رجس منفرد هناك، ولم يكن لأيٍّ منهم إرادة أصلب من إرادتي، فإن الإرادة الجماعية للسرب كانت أشبه بتسونامي مظلم. كلما تحركتُ أكثر، كلما شعرتٌ كأنني أغرق في مستنقع. وكأن وزنًا هائلًا يسحبني إلى الأسفل، يجعل خطواتي أبطأ وذراعي أضعف. حتى وإن استطعت أن أجرحهم، فقد كنت أجد صعوبة في توجيه ضرباتي.”
بقيت نيفيس صامتة لفترة، ثم قالت بتأمل:
“ربما لأن إرادتك حادة.”
رفع صني حاجبا.
“ماذا تقصدين؟”
تأملت كلماتها للحظة.
“لم أدرك ذلك إلا مؤخرًا، لكن الإرادة… ليست قوةً موحدة. بل، كل شخصٍ يستخدم نسخته الخاصة منها. وإرادتُك، يا صني، منحازةٌ بشكل خاص. إنها مبنية بالكامل حول نيتك في القتل – لستُ متأكدةً حتى إن كان هناك فرق بين الإثنين. لذا، أنت تستخدم إرادتك كسلاح.”
ضحك بخفوت.
“وما الخطأ في ذلك؟ ماذا حدث لعبارة ‘جوهر القتال هو القتل’؟”
ابتسمت نيفيس أبتسامةً خافتة.
“الجوهر هو القتل، لا السلاح ذاته. فالسيف الذي تمسكه مهم، لكن كذلك اليد التي تمسك به. في النهاية، السلاح الحقيقي هو جسدك… ما أعنيه هو أنه عليك أن تُغلف إرادتك بجسدك كله، لا أن تُشبِع بها سيفك فقط. بذلك، قد تجد من الأسهل أن تتحرك حتى في مواجهة خصم ساحق.”
فكر صني في الأمر.
كانت الإرادة قوة، ومثل أي قوة أخرى، هناك فرق بين استخدامها ببساطة واستخدامها بفعالية. ذلك الفرق هو التقنية. كلاهما، هو ونيفيس، كانا مبتدئين في هذا المجال، لذا كثيرًا ما كانا يتشاركان رؤاهم ويساعدان بعضهم البعض على التحسن.
‘يبدو أنني لا يجب أن أكون منحازًا كثيرًا نحو القتل لأصبح قاتلًا أفضل، هاه؟’
ابتسم صني، متسليًا من هذا التناقض.
“سأجربها في المرة القادمة التي تتاح لي فيها الفرصة.”
ثم جذب نيفيس بلطف إلى الخلف.
“تعالي إلى الداخل. حتى لو لم تنوي النوم، تأملي قليلًا على الأقل. مع ما يحدث في الربع الغربي، من المرجح جدًا أن تضطري للعودة إلى الشرق. ونحن نعلم جيدًا كم هو مرهق أن نبقى في المنزل.”
عادا إلى الغرفة، وسرعان ما وجدا نفسيهما على أريكة، ويداه لا تزالان ملتفّتين حول خصرها. استرخت نيفيس، وأغلقت عينيها، بينما كان صني يحدّق في الحائط.
وبعد بضع دقائق من الصمت المُريح، سألت:
“عمّ تفكر؟”
ضحك صني.
“أنا؟ آه. كنت فقط أفكر كم أصبحت حياتنا مُملة.”
تحركت نيفيس ونظرت إليه، وعيناها الرماديتان تتلألآن بشيء من التسلية.
“مُملة؟ حياتنا؟”
أومأ برأسه.
“صحيح أننا ربما أكثر شخصين انشغالًا في العالم – أو في العالمين حتى. باستثناء كاسي، طبعًا. لكن عندما أتذكر كيف كانت حياتي قبل أن أُصبح مستيقظًا، أعتقد أنها كانت مليئة بالتسلية أكثر. خبز وسيرك، صحيح؟ طعام مجاني وتسلية – كانت تلك دائمًا معادلة تهدئة الشعوب القلقة، منذ ما قبل العصور المظلمة. والآن، أصبحت معجونًا غذائيًا وكوميكس عبر الشبكة، على ما أظن. تصرفت الحكومة بحكمة حين جعلت كلاهما في متناول الجميع، حتى سكان الضواحي.”
تنهد صني.
“لكن متى كانت آخر مرة قرأنا فيها كتابًا ممتعًا، أو استمتعنا بكوميكس، أو انغمرنا في دراما، أو شاهدنا فيلمًا؟ لا أستطيع حتى التذكر. معظم هذه الأشياء لا يمكننا حتى القيام بها في عالم الأحلام… مع أن، على ما يبدو، صار لدينا كهرباء الآن. فمن يدري؟ ربما ستكون هناك صالة سينما في باستيون قريبًا، أو على الأقل محطة إذاعية.”
تأملته نيفيس لبرهة، ثم ابتسمت وأغلقت عينيها مجددًا.
“قد لا تكون هناك صالة سينما في باستيون، لكن هناك الكثير من المسارح. وهناك أيضًا مطابع في معظم القِلاع الآن – صحيح أن لا أحد نشر رواية بعد، لكن توجد بالفعل صحف ومجلات. بعضها بدأ بنشر القصص المتسلسلة. آه… وسيكون هناك مشهد الأحلام هنا قريبًا أيضًا. طالما استطعنا إيجاد طريقة لإبعاد الأهوال الذين يواصلون غزوه.”
توقفت لحظة، ثم أضافت بنبرة فيها شيء من الحنين:
“لكنني أفهم ما تعنيه. لأكون صريحة، لا أذكر آخر مرة استمعت فيها للموسيقى فحسب. محطة إذاعية… وجود محطة إذاعية سيكون أمرًا رائعًا…”
ضحك صني بهدوء.
“ثلاثة مليار شخص يسكبون أشواقهم عليك، لكنهم لا يعلمون أن كل ما تتمناه سَاميتهم هو أن تهتف لمحبوبيها المفضلين بسلام من جزيرتها السماوية الآمنة…”
ابتسمت نيفيس بنعاس.
“نعم… سيكون ذلك رائعًا…”
بقي صني ساكنًا لفترة، ثم فكّ ذراعيه برفق من حولها، ومد يده إلى الظلال. لكنه لم يُخرج سيفًا هذه المرة، بل مزمارًا أسود.
رفعه إلى شفتيه، ونفخ فيه بحذر، ثم وضع أصابعه على جسده الأملس.
وسرعان ما انتشرت لحن هادئ في الغرفة، يبعث على النعاس، حتى غطّت نيفيس في النوم.
وحلّ الليل على باستيون. واصل صني العزف على الناي بينما كان يراقب المدينة من تحته.
في مكان ما من المدينة، كانت رَين تغطّ في نوم عميق، بعد أن هجرت سرير المهجع إلى غرفة الضيوف الفخمة في قصر عائلة تمار.
كانت بيث وكوينتين يتناولان عشاءً رومانسيًا على سطح قارب مطعم.
وكانت إيفي وزوجها يضعان ليتل لينغ في فراشها.
أما أفكار صني، فكانت هادئة وكسولة.
قد لا أكون الليل من الليل والعاصفة، لكن إن كانت ترغب في الاستماع إلى الموسيقى، يمكنني تحقيق أمنيتها!.
وبالحديث عن كاي…
في عالم اليقظة، كان على وشك لقاء القديس الوسيم لأول مرة منذ زمن طويل.
ثم سينطلقان في مغامرة.
“آه، ستكون كالأيام الخوالي. لا شيء سيء أو مريع سيحدث، أنا متأكد…”
-المؤلف- فصل واحد اليوم، ثلاثة غدا.
ترجمة آمون