عبد الظل - الفصل 2453
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 2453 : من اللاشيء
عندما غادر صني مستشفى الأمراض النفسية، كان العالم لا يزال غارقًا في المطر. كانت السماء تُفرغ سيلًا لا ينتهي من الماء، وكأنها تريد إغراق المدينة في الأسفل.
كانت المزاريب تغصّ بالماء، والمشاة يتشبثون بأطراف الأرصفة، خائفين من أن يتبللوا بالماء البارد التي ترشه السيارات المسرعة عليهم.
رفع صني رأسه وأغمض عينيه، وترك وجهه للمطر، شاعرًا بالماء الجاري يغسل رائحة الدم من أنفه.
‘على الأقل، ستكون المدينة أنظف بسبب المطر.’
لكن بعدها، ستأتي الحرارة والرطوبة. لا تصل الحرارة أبدًا إلى جذور المدينة، مع ذلك — هناك، في الظلام الرطب، كل ما جرفته المياه سيبدأ بالتعفن. وسينجب العفن أسرابًا هائلة من القوارض…
وقف صني هناك وعيناه مغمضتان، ثم ابتسم.
‘أسراب من القوارض، هاه.’
وكأن هذه المدينة لم تكن موبوءة بالفعل بأسوأ أنواع القوارض على الإطلاق.
الناس ذاتهم.
تزدهر القوارض البشرية أيضًا في الأماكن المظلمة، ومثل النفايات تمامًا، تكون قد تعفنت كليًا بعيدًا عن النور.
هزّ رأسه وسار نحو سيارته عابرًا البرك. وأثناء ذلك، طَفَت صورة المرأة الضاحكة ذات العينين القرمزيتين في ذهنه. لماذا يشعر وكأنه قد رآها من قبل؟.
بالنظر إلى زبائن المستشفى المعتادين، لا بد أنها سليلة عائلة ثرية. نادرًا ما يختلط صني بأمثال هؤلاء، لذا كان من الصعب عليه أن يتخيل أين يمكن أن يكون قد التقى بها… إلا إذا كان قد رآها في كابوس.
شخص بعينين حمراوين زاهيتين يطابق تمامًا ما قد يراه في أحلامه. لكن كيف لامرأة لم يسبق له أن التقاها أن تظهر في أحلامه؟.
‘يا تُراه، من كانت تريدني أن أقتل؟’
تنهد صني.
عادة ما ينتهي الأثرياء في المصحات لسببين — إما أن عائلاتهم تريد التخلص منهم، أو لأنهم مدمنون. وبالنظر إلى سنّ المرأة وسلوكها المضطرب، فالاحتمال الثاني هو الأرجح. صحيحٌ أنها قد تكون قد خضعت للأدوية نتيجة إدخالها المصحة، لا العكس… لكن ذلك لا يعنيه بشيء.
‘ابحث عن أثينا؟’
ألم تكن أثينا إلـهة وثنية من نوع ما؟ أين يمكنه حتى أن يجد شخصًا كهذا؟.
‘هيا، لا تخبرني أنك تفكر حقًا في كلام مجنونة مختلة.’
ضمّ صني شفتيه صاعدًا إلى سيارته.
كان شبه متأكد من أنه يهذي مجددًا — ربما لذلك بدت عينا المرأة حمراء بهذا الوضوح. الأرق وحبوب النوم يجعلان من الصعب عليه أحيانًا التمييز بين الأحلام والواقع، ورؤية الدم كانت دائمًا محفّزًا قديمًا له.
فهل يملك أصلًا الحق في أن يصف أحدهم بالمجنون؟.
بينما كان يدير مفتاح التشغيل، رنّ هاتفه. نظر إلى شاشته المتشققة والمحطمة، وابتسم بقتامة، ثم أجاب على الاتصال.
“نعم. أجل… ماذا، هل ظن أنه سيتخلص مني بهذه السهولة؟ آسف لإحباطه، إذن. سأكون هناك اليوم.”
ثم توقّف لحظة، وتغير نبر صوته تغيرًا طفيفًا.
“إذًا، هناك جثة جديدة… يا الهـي . كأن أحدهم يريد الترحيب بعودتي.”
أنهى المكالمة وألقى بالهاتف على المقعد، ثم نظر أمامه بتعبير قاتم.
“…انتظر فقط قليلًا بعد، أيها اللقيـط. سأجدك.”
أصدرت السيارة صوتًا خافتًا وانطلقت، ثم خاضت في المطر.
***
“لا بد أنك فقدت عقلك فعلًا، أيها المحقق. لا، أنت حقًا مجنون. كيف بـحق الجحيم اجتزت التقييم النفسي؟ هيه، أيها الأحمق الصغير. انظر إليّ. هل أنا مزحة بالنسبة لك؟”
كان صني، الجالس في مكتب قائد قسم جرائم القتل، ينظر إلى الرجل العجوز الأشيب أمامه مبتسمًا.
“قليلًا، نعم.”
حدق الرجل به مصدومًا.
“ماذا قلت للتو؟ اسمع، يا صني… كان بإمكاني أن أرميك في السجن بسبب ما فعلته في ذلك الوقت. وأنت تعلم ذلك، صحيح؟ أيها الحقير، أنت تجلس هنا الآن فقط احتراما للقائدة السابقة، التي كانت تكن لك تقديرًا لا أفهمه. أما الآن فأنا المسؤول. لذا، ستعاملني باحترام. هل تفهم؟”
أومأ صني.
“قلت إنك، بالفعل، نوعًا ما مزحة بالنسبة لي. ولا أعلم إن كان بوسعك أن ترسلني إلى السجن. وأجل، أفهم.”
حدق في القائد الجديد بصمت.
كان ذلك الرجل من قدامى شرطة مدينة السراب… لكنه تولّى قيادة قسم جرائم القتل مؤخرًا، ولم يكن ذلك بسبب سجل باهر أو كفاءة عالية. بل لأنه رجل يعرف حدوده، ويُوثق به في تسهيل الأمور على من هم في المراتب العليا.
بعبارة أخرى، يعرف كيف يغض الطرف حين يُطلب منه ذلك. لم يكن فاسدًا دومًا، لكنه يستطيع أن يكون كذلك إن أتت الأوامر من الأعلى.
في ذلك الحين، كان صني قد أحدث فوضى كان يمكن أن تزج به في السجن. غير أن تلك القضية كانت علنية للغاية، والتخلص منه كان سيعني كارثة سياسية. لذا، وُضع هذا العجوز في الكرسي الشاغر وأُمر بأن يُسكت الضجيج بهدوء. وحتى لو كان يريد التخلص من صني تمامًا، لم يكن ليستطيع.
ولم يكن صني، في المقابل، يهتمّ بأيٍّ من ذلك.
“على أي حال، سأكرر طلبي. الجثة التي وُجدت قرب النهر هذا الصباح؟ اجعلني المسؤول عن هذه القضية، من فضلك… سيدي.”
صرّ الرجل العجوز على أسنانه.
“ولماذا بـحق الجحيم أعطيك هذه القضية، من بين كل الناس؟! هل جننت تمامًا، أيها الوغد الصغير؟!”
نظر إليه صني لثوانٍ بصمت، مما جعل القائد يرتجف قليلًا، ثم ابتسم ابتسامة عريضة.
“أنا لست مجنونًا. لديّ ورقة تثبت ذلك، في الواقع. أما عن سبب إعطائك لي هذه القضية — فأنت تعرف الجواب جيدًا… سيدي. لأنه، بخلاف بقية مرؤوسيك المطيعين، أنا الوحيد الذي سيحلّها فعليًا. لا بد أنك تتعرض لضغوط هائلة للإمساك بذلك اللقيـط، أليس كذلك؟ وحين تصل الأخبار إلى الصحافة بأن هناك ضحية سابعة، ستزداد تلك الضغوط فقط.”
نظر القائد إليه بقتامة.
كانت مدينة السراب مدينة مختلين في أفضل أحوالها، لكنها مؤخرًا ابتُليت بمرض جديد، خبيث ومروع…
ذلك المرض كان قاتلًا متسلسلًا مخبولًا، لكنه ماكر، يترك خلفه جثثًا مشوهة ويتفادى القبض عليه كالشبح.
اللاشيء.
ترجمة آمون