عبد الظل - الفصل 2452
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 2452 : البِركة الحمراء
كان مذاق القهوة سماويًّا. وهو ما بدا غريبًا حقًّا… عانى صني من الأرق منذ فترة، فبدأ يعيش على الحبوب المنومة، ومع ذلك طاردته الكوابيس كلّما غفا. ربما لذلك بات كل شيءٍ بلا طعمٍ في فمه — إلا أنه لم يكن قادرًا على مقاومة القهوة التي تقدّمها له الطبيبة.
“من أين أبدأ؟”
فتحت دفتر ملاحظاتها لتسجل بصمت، بينما تنهد صني.
“لا أرى تلك الكوابيس المتكررة كثيرًا بعد الآن…”
كان يراها كل مرة ينام فيها، لكنه بالكاد ينام أصلًا، فلا يمكن وصف ذلك بكثيرًا.
“العالم مزعجٌ نوعًا ما، لكنني لم أعد أغضب بلا سبب. أشعر أنني أكثر تحكمًا في نفسي.”
كان قد حطّم جهاز التلفاز هذا الصباح، لكن غضبه كان مبررًا تمامًا. هناك الكثير من الأسباب الوجيهة لكراهية مجموعة فالور ومديرها التنفيذي.
“…ولا أظنني شعرت بجنون العظمة منذ آخر جلسة. لذا… أعتقد أن هذا يُعد تحسنًا؟”
كان قد خطّط للطريقة المثلى لقتل الرجل السكران – المزعوم – هذا الصباح، في حال حاول مهاجمته. لكن ذلك لم يكن جنون عظمة، بل خبرة. وسيكون صني أحمقًا إن لم يحذر لمن حوله.
واصل صني سرد أنصاف الحقائق بثقة ليُعطي الطبيبة الانطباع بأنه شخصٌ سليم، متّزن، قادر على الاندماج في المجتمع. شخص يجب أن تمنحه تقريرًا صحيًّا نظيفًا ولا تراه ثانية. لم يكن متأكدًا إن كانت الممثلة الجميلة قد صدّقته فعلًا، لكنها لم تشكك في كلامه ولو مرة.
لم يعرف إن كانت قد آمنت بكلامه… أم أنها ببساطة لم تهتم.
بعد مدة، وجد نفسه يحدّثها بأفكاره دون كثير من التظاهر.
“أنا أشعر بالملل. أشعر بقلق مستمر… أريد أن أعود للعمل. حاولت القيام بما يفعله الناس الطبيعيون في وقت فراغهم، كالتنزه أو الذهاب في نزهة. لكن لم يتوقف المطر طوال الشهر اللعين. البقاء في الداخل جنون بسبب كل الهراء في الأخبار، ولا يمكنني الذهاب إلى حانة، هاه؟ أخبرتِني ألّا أخلط الحبوب المنومة بالكحول. أشعر أنني… أفتقد شيئًا لم أملكه يومًا. لذا…”
تردد لبضعة لحظات، ثم سأل:
“ألا يمكنكِ فقط أن تمنحيني التصريح، يا دكتورة؟ نحن الاثنان نعلم أنني هنا فقط لأن القاضي أمر بذلك. والقاضي لم يرسلني إلى هنا إلا ليرضي من دفعوا ثمن إجازته في المنتجع.”
بالطبع، لم يُفصح صني عن بعض الأمور الجوهرية المتعلقة به لطبيبته الجميلة.
مثل أنه أحيانًا يشعر أن كوابيسه… هي الحقيقة.
أو أنه في بعض الأحيان يعتقد أنه الوحيد الحقيقي في هذا العالم.
أو أنه يهلوس أحيانًا بأصوات، وصور، وأحاسيس غريبة، كما لو أن له أجسادًا متعددة. ربما يكون ذلك بسبب نوبات النوم المصغر الناتجة عن الأرق، والتي تحدث غالب الأوقات.
تفاصيل بسيطة كهذه.
نظرت إليه الطبيبة بتعبيرها اللامبالي المعتاد.
“هل ترى نفسك لائقًا نفسيًّا للعودة إلى العمل، أيها المحقق؟”
ضحك صني، مخفيًا الرجفة الحرفية التي سببتها نبرتها الرنانة الساحرة. كان من حسن الحظ أن معالجته لا تتحدث كثيرًا… فصوتها لا يقل خطرًا عن مظهرها، بل ربما يفوقه فِتنة.
هزّ رأسه.
“أنا؟ لائق نفسيًّا؟ يا الهـي ، لا. لكن من يكون كذلك أصلًا؟ أعني… في هذا العالم، ألن يكون الأمر أغرب لو كنت طبيعيًّا تمامًا؟ سأركض هاربًا لو صادفت شخصًا يبدو سعيدًا، سليمًا، وعاقلًا تمامًا.”
تأملته للحظة، ثم أومأت برأسها وأغلقت دفترها.
“حسنًا، أيها المحقق. بصراحة، أنا لا أحب الجلسات الإلزامية للعلاج النفسي. لكن، رغم الظروف، فقد أظهرتَ تقدمًا ملحوظًا في الأشهر الماضية. لذا أنا مستعدة لأن أكتب تقريرًا بأنك مؤهل للعودة إلى الخدمة… بشرط واحد.”
رفع صني حاجبه بدهشة. هذه أطول جملة سمعها منها على الإطلاق.
“وما هو؟”
تأملته مجددًا، ثم قالت بصوتها البارد المعتاد:
“أريدك أن تستمر في العلاج حتى بعد عودتك إلى العمل… في الحقيقة، أصرّ على ذلك. أنت مريضي، وأنا أكره ترك الأمور غير مكتملة. أكره ذلك جدًا.”
ضحك صني.
“إذًا… إن لم أستمر في رؤيتكِ، فلن أعود إلى العمل؟ كيف يختلف هذا عن العلاج الإلزامي؟”
هزّت كتفيها.
“بإمكانك الرفض.”
صمت لثوانٍ، ثم سخر:
“أعتذر يا دكتورة، لكن يبدو أنك تغفلين شيئًا مهمًّا. كانت الجلسات السابقة على حساب شرطة مدينة السراب. إن واصلنا العلاج بعد انتهائها، سأضطر للدفع من جيبي. ويؤسفني قول هذا… لكنكِ خارج ميزانيتي بكثير.”
لا يُسمح لرجل مثله حتى بالاقتراب من هذا المشفى الفاخر، ناهيك عن تلقي العلاج فيه.
نظرت إليه الطبيبة بنظرة خالية من التعابير، ثم تنهدت وأخرجت بطاقة فاخرة من جيبها، وقدّمتها له بحركة أنيقة.
“هذا رقمي الشخصي. يمكننا التفاهم.”
أخذ صني البطاقة بذهول، ونظر إليها.
‘…القديسة؟ هذا لا يعقل، هل هذا اسمها الحقيقي؟’
الطبيبة القدّيسة اسمها القديسة فعلًا. عند معرفته ذلك، شعر صني بأنه مجنونٌ بحق.
فضلًا عن أنها أعطته رقمها…
طرد الأفكار الغبية من رأسه، نظر إلى الجميلة الهادئة ونقى صوته.
“حسنًا، سأتصل بكِ عندما تهدأ الأمور، يا دكتورة.”
ثم وضع بطاقتها في محفظته ونهض.
“شكرًا على كل شيء… على ما أظن.”
أومأت بلا مبالاة، وبدأت بالفعل تعبئة الأوراق المطلوبة.
“لا تنسَ أن تأخذ الحبوب المنومة من الصيدلية. النوم الجيد هو أساس الصحة النفسية، أيها المحقق. اعتنِ بنفسك.”
بعد ثوانٍ، وجد صني نفسه خارج مكتبها، مشوش الذهن قليلًا. لم يكن يتوقع أن يحصل على تقرير اللياقة بسهولة كهذه.
‘انتهى الأمر على ما يُرام، أليس كذلك؟’
هزّ رأسه، وتوجه إلى الصيدلية في الطابق السفلي من المشفى لصرف الوصفة.
…وبينما كان ينتظر الصيدلاني، مصغيًا لصوت المطر الذي يقرع النافذة، دوّى صوت ارتطام شيء ثقيل في مكان قريب.
ثم، صرخةٌ دمرت الصمت.
استدار صني، فرأى عددًا من الممرضين الضخام يركضون نحو مصدر الصوت، ووجوههم عابسة.
“أسرعوا!”
“لقد هربت مجددًا!”
“كيف بـحق الجحيم تفعلها…”
تردد قليلًا وهو يراقبهم مختفين خلف بابٍ ثقيل، ثم انفصل عن الحائط الذي كان يتكئ عليه وتبعهم.
خلف الباب، كانت إحدى المناطق التي يُمنع دخول الزوار العاديين إليها. وكان الممر المظلم فوضويًّا تمامًا، وقد تجمّع فيه عدد من الأشخاص يحاولون الإمساك بمن لم يستطع صني رؤيتها بعد.
أمامه مباشرة، رأى كرسيًا متحركًا مقلوبًا، لا تزال إحدى عجلاته تدور…
وبِركة من الدماء الحمراء، الزاهية، واللامعة… تتسع ببطء على الأرض.
وفي مركزها، ممرضة راكعة، تبكي بصوت عالٍ، وتضغط على وجهها بكلتا يديها، بينما تسيل خطوط من الدم بين أصابعها وتصبغ زيّها الأبيض بلون قرمزيٍّ فاقع.
في تلك اللحظة، طار أحد الممرضين الضخام نحو الحائط، وارتطم به بقوة جعلت الأرض تهتز.
“الـ… سحقا! من أين لها هذه القوة؟!”
“ثبتوها، سحقا!”
“لا تؤذوها، أيها الحمقى! إن أصابها مكروه، فسنصبح في خبر كان!”
أخيرًا، تمكن صني من رؤية سبب الفوضى.
الشخص الذي كان أربعة من الممرضين المفتولي العضلات يكافحون للسيطرة عليه… كان امرأةً نحيلة ذات شعر أسود مموج، ووجه جميل لكنه بارد وحاد. كانت ترتدي سترة تقيد ممزقة، تقاومهم بقوة لا يمكن تصوّرها من جسد مثل جسدها، وكانت بوضوح… مختلّة عقليًا. ‘1’
لكن أغرب ما فيها…
كانت حقيقة أن عيناها ذات لون أحمر فاقع، نابض بالحياة.
تمامًا كلون الدم على الأرض.
لم يكن من المفترض بالبشر أن يمتلكوا عيونًا حمراء بهذا الشكل… لكن لم يبدُ أن أحدًا انتبه لذلك.
في تلك اللحظة، تمكّن الممرضون أخيرًا من طرح المرأة أرضًا، وبدأوا يعيدون ربط أكمام سترتها بالقوة. كانت لا تزال تقاوم… حتى التقت عيناها بعيني صني.
تجمّد في مكانه.
‘لماذا… لماذا تبدو مألوفة؟’
اتسعت عينا المرأة الحمراء قليلاً حين رأته.
ثم… ضحكت.
دوت ضحكتها في الممر، تعالت وتعالت حتى غطّت على أنين الممرضة المصابة.
بدا عليها أنها وجدت شيئًا في غاية الإمتاع. بدت وكأنها تمر بأفضل لحظات حياتها.
تراجع صني خطوة إلى الخلف، وعبس، ثم استدار.
‘مجرد مختلة أخرى.’
هناك كثيرٌ منهم هذه الأيام.
لكن وهو يبتعد عن الباب، اخترقت ضحكتها أذنه، متبوعة بكلماتها:
“اقتله! يمكنك قتله هنا حقًا! وابحث عن… أثينا!”
هزّ صني رأسه، وأغلق الباب خلفه محاولًا تهدئة ضربات قلبه الهائجة.
لا تزال رائحة الدم عالقة في أنفه، ويداه ترتجفان.
وذلك المشهد…
“اللعنة.”
مع أنه يعرف أن مزج الحبوب بالكحول فكرة كارثية… إلا أنه فجأة اشتهى كأسًا من المشروب بشدة.
***
1: سترة مقيدة (straitjacket) هي ملابس يتم إلباسها للمختلين عقليًا.
ترجمة آمون