عبد الظل - الفصل 2435
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 2435 : القمر المكتمل
تذكُّر أمر كان يعلمه مسبقًا تجربة غريبة، لكن ما زعزع صني حقًا هو أن يعرف من جديد ما فعلته آيكو عند بوابات باستيون.
صرّ على أسنانه.
‘علّمت آيكو… الصغير لينغ كلمةً نابية؟!’
بم كانت تفكر؟!.
صحيح أنها كانت قد كشفت عن حقيقة مروعة بشأن سائر الجلود، ودفعَت نطاق البشر بأكمله نحو أحضان الأحكام العرفية لبضعة أسابيع، ومنعت عدّة مدن من تكبد خسائر فادحة أو السقوط تمامًا. لكن هذا كله ليس هو المهم!.
‘إنه في السادسة فقط، بـحق التعويذة! أي نوع من عديمي الذوق والتربية تصاحب، لتتفوه بمثل تلك الكلمات أمام طفل؟!’
غلى الدم في عروقه لبضعة لحظات، ثم أخذ نفسًا عميقًا وهزّ رأسه.
‘لا، لا يهم الآن. سأتولى أمر آيكو لاحقًا — ثمة أمور أكثر إلحاحًا يجب أن أتعامل معها في الوقت الحالي.’
وعاقدًا العزم، عبس صني وأكمل طريقه.
لكنه لم يخطُ سوى بضع خطوات، حتى طفت ذكرى أخرى على سطح ذهنه.
تجمد في مكانه.
“نيفيس فعلت… في الواقع، لا بأس. هذا بالضبط ما كانت لتفعله نيفيس. لِمَ أندهش؟”
وأطلق ضحكة خاوية، ثم رفع بصره وأكمل سيره.
“إذاً، ذهبت للصيد في البحيرة بدوني، هاه؟ يا لقسوة قلبها.”
***
قبل ذلك بعدة أسابيع، كانت نيفيس جالسة على حافة جزيرة العاج، تتأمل بحرًا من النجوم يتلألأ في السماء المظلمة فوق باستيون. في تلك الليلة، كما في الليلة التي سبقتها، كانت أجزاء من المدينة مضاءةً بضوء المصابيح الكهربائية.
كانت سعيدة لرؤية شعبها يخطو خطوةً أخرى نحو الازدهار في عالم الأحلام. لكن في المقابل، بدت النجوم أبهت مما كانت عليه من قبل، وهو ما ملأها بشعور خافت من الأسى.
ربما أصبحت النجوم أبعد، لكن قرص القمر المكتمل، وهو يشق طريقه ببطء فوق سطح البحيرة الهادئة، بدا أقرب من أي وقت مضى.
كانت تلك الليلة الثالثة والأخيرة التي يظهر فيها القمر المكتمل فوق باستيون في هذا الشهر. وخلال هذه الليالي الثلاث، كان الإبحار في البحيرة ممنوعًا، وكان الناس يُبعدون عن ضفافها.
ذلك لأن القمر المكتمل كان يُضعف الحاجز بين الواقع والوهم هنا في باستيون، مما يسمح للرعب المحبوس في أنقاض القلعة الحقيقية بأن يحاول مدّ تأثيره المريع من خلال الانعكاسات. لذا، كان على نيفيس أن تبقى في المدينة أثناء اكتمال القمر لتحرسها. والغريب أن هذه الليالي الثلاث، رغم ما تحمله من خطر، كانت تشكل لها وقتًا للراحة والشفاء.
فهي تقضي معظم وقتها على ساحات القتال، تقود قوات البشر ضد طوفان الكوابيس التي تهدد بابتلاعهم جميعًا.
ورغم وجود شيطان ملعون مختبئ، فإن منظر القمر المكتمل كان يحمل وعدًا بالسكينة والطمأنينة. ولكن… لم تكن معتادة على قضاء هذه الليالي المقمرة وحدها.
كان صني عادةً معها، إما إلى جانبها أو مختبئًا في ظلها. وكانت قد اعتادت على حضوره من غير أن تدرك… والآن وقد غاب، بدا غيابه غير طبيعي بشكل غريب.
وفوجئت بنفسها تفتقده، رغم أنه لم يغِب سوى يوم واحد فقط.
‘من كان يظن أنني سأختبر مشاعر كهذه يومًا ما؟’
غريبٌ بالفعل. فليس من طبعها على الإطلاق.
لكنها لم تكره هذا الشعور. بل على العكس، الألم الحلو الذي يجلبه الاشتياق جعلها تشعر بالأمل. جعلها تصدق بأن في قلبها المحروق الجاف لا يزال شيء من الحياة. لذا، حاولت أن تستمتع بذلك الحزن الخافت الغريب.
كان صني قد اضطر إلى الرحيل بسبب تعقيدات غير متوقعة – وهذا إن لم تكن مفاجئة تمامًا – في قلب الغراب. التجسيد الذي أرسله إلى هناك، وكذلك كاي، كانا مفقودين. والأسوأ من ذلك، أن طاغوتًا ملعونًا ومسخين قد هربوا من سجن صاغه لهم شيطان الرعب، ليقعوا في سجن آخر بعد لحظات بفضل سرعة بديهة سيشان.
لكن لا أحد يعلم ما الذي قد يخرج من لوح اليشم المشؤوم لاحقًا، لذا كان على السياديين التوجه إلى قصر اليشم. ذهب صني أولًا، وأخذ كاسي معه. أما نيفيس، فستتبعهم حالما تنقضي ليالي القمر المكتمل.
‘غدًا.’
غدًا، ستراه مجددًا.
نظرت إلى انعكاس القمر المتلألئ فوق سطح البحيرة، وتساءلت: هل ستشعر بشيء عند لقائه؟.
هل ستشعر بالسعادة؟ أم بالرضا فقط؟.
هل لن تشعر بشيء على الإطلاق؟.
هل سيزول ذلك الحزن الغريب من قلبها؟.
في تلك اللحظة، تموّجت المياه تحتها. وفجأةً، بدا القرص الشاحب مشوهًا ومريبًا، يحدق بها من الأعماق كعين مستديرة تغشاها المياه البيضاء.
تحركت البحيرة، وتوالت موجات تزداد ارتفاعًا، تزحف صعودًا على الشاطئ.
أمالت نيفيس رأسها، تراقب ما يحدث بجلالٍ حزين.
‘إذًا، اختار هذه الليلة ليكشف عن نفسه.’
يا لها من مصادفة بائسة. بائسة لدرجة أن نيفيس كانت ميالة لتصديق أنها ليست مصادفة على الإطلاق. هل انتظر الشيطان الملعون حتى لم يتبقّ في المدينة سوى سيادية واحدة، ليحاول الهرب؟.
على أي حال، كان التوقيت سيئًا للغاية.
فالبشرية غارقةٌ في الكوارث، محاطة بالأخطار والأعداء من كل الجهات.
في عالم اليقظة، تزداد البوابات ظهورًا كل شهر، وبالكاد تصمد مراكز السكان في وجه سيل مخلوقات الكابوس.
والربْع الشرقي يترنح على شفير كارثةٍ تامة. ولا تسير الحرب ضد سائر الجلود على ما يرام – العدوى تنتشر، والبشر يضطرون للانسحاب أكثر فأكثر، متخلين عن أراضيهم ومستوطناتهم ومدنهم بأكملها.
وفي عالم الأحلام، لم تكن مطاردة القلاع الجديدة مثمرة كما كانت تأمل. بدأت أحشاد المستيقظين بتطهير دواخل ملاجئ النطاقين الشاسعة من الرجسات، ويستكشفون أقاصي الشرق، وجحيم الغرب المتجمد، والمحيط الملبد بالضباب في الجنوب… أما في الشمال، فيقوم فيلق الظلال بالمثل في الغابة المحترقة المتفحمة.
ولا يزال مكان موردريت مجهولًا. وآستيريون لغزًا مثيرًا للقلق.
والآن، هذا.
كل ذلك كان يثقل على نيفيس، يدفعها إلى الأرض. كان وزن العالم بأسره – بل العالَمين – يستقر على كتفيها، جاعلًا إياها تكافح لتبقى واقفة.
ثم هناك همسات الأرواح الكثيرة التي تتوهج كنجومٍ في اتساع نطاقها. يغمرها شوقهم ليلًا ونهارًا، وضغطه أحيانًا… لا يُحتمل.
ضمت شفتيها.
لم يكن صني بجانبها. ولا كاسي. وكاي مفقود، وذهبت إيفي إلى الربع الغربي لتواجه أزمة بوابة من الفئة الرابعة هناك.
لم يكن هناك من تثق به ليحمي ظهرها في معركة ضد شيطان ملعون في باستيون… على الأقل، ليس هذه الليلة.
إذاً…
كان عليها أن تواجهه وحدها. أن تحمل هذا الثقل وتتابع السير، خطوةً تلو الأخرى، مهما بلغت المشقة.
تنهدت بصمت، ثم نهضت ببطء ونظرت إلى البحيرة الداكنة، والنيران البيضاء تتراقص في عينيها.
تجلّى خلفها جناحان أبيضان ساحران، طاردين عتمة الليل.
“.إنه مجرد شيطان ملعون.”
ما الذي يدعو للقلق؟.
بابتسامة باهتة، باردة، قد ارتسمت على شفتيها.
استدعت النعمة، وخطت خطوةً إلى الأمام… ثم غاصت في الظلام.
ترجمة آمون