عبد الظل - الفصل 2410
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 2410 : متاهة النجوم
كان العالَم مكوَّنًا من النار. وأشتعل عددٌ لا يُحصى من الأشجار، منهارةً بأنينٍ حزين. حجب الرماد السماء، وأذابت حرارةٌ لا تُحتمل عقول الذين ما زالوا يقاتلون داخل هذا الجحيم اللامحدود.
ركض وحشٌ مقدّس وسط النيران – أيل أبيض رائع ذو قرونٍ من ذهبٍ خالص، وهالته المقدّسة تُهدّئ اللّهب منقذةً شتلةً الصغيرة لم تستسلم بعدُ للحريق الماحق. وأينما لامست حوافره الأرض نبتت الزهور والأعشاب النضِرة.
لكنّ حوافره عاجيّة لم تَعُد طاهرة، إذ لطّختها الدماء، واختلط بها غبار الياقوت، حين سحقت دون رحمةٍ جماجمًا لا تُعدّ من جنود جيش الشِيطَان.
وفجأةً، انقضَّ عليه من الظلال والدخان شكلٌ ضارٍ – كان فهدًا أسود ضخم، عيناه تلتهبان بغضبٍ قاتل. كان أصغر حجمًا من الوحش المقدّس، لكنَ حجمه لم يعني شيئًا – فقد أنطبق فكّاه على عنق الأيل الأبيض، فانهمرت أنهارٌ من الإيكور الذهبي. تصارع وتقلب الوحشان معًا وسط ألهبةِ النار، محطمين مئات الأشجار.
تمكن الأيل من إلقاء الفهد عن جسده ونهض واقفًا، ثم خفض رأسه ليطعن مفترسه بقرنيه العظيمين. كان الإيكور يتدفّق من عنقه الممزّق، ورغم ذلك، فقد بقي مفعمًا بالحياة والقوة الهائلة. أما الفهد، فكان قد أُنهك تمامًا، نازفًا من عشرات الجراح الرهيبة، جراحٌ لم تشفى من قبل هذه المعركة. والآن، بات شبه عاجزٍ عن الدفاع عن نفسه أمام الأيل المهاجم.
لكن فجأةً، تموّج شكل الفهد الأسود، وفي لمح البصر، تحوّل إلى أيلٍ هو الآخر – لكن هذا الأيل كان أسودًا كلون الليل، نسخةُ شبه مطابقة من الوحش المقدّس أمامه.
تصادم الوحشان، وتشابكت قرونهما. طرح الأيل الأسود الأبيض أرضًا وتحوّل مرةً أخرى، هذه المرة إلى خنزيرٍ بري. فانغرسا ناباه في بطن الأيل الأبيض، فسال المزيد من الإيكور على الأرض الرمادية. وفي النهاية، انتهت المعركة.
ذُبح الوحش المقدّس فوق كومةٍ من الخشب المشتعل، وأمام جسده الممزق وقفت امرأةٌ ترتدي درعًا جلديًا ممزقًا، كان وجهها البديع ملطّخًا بالدماء والرماد. وكست الجراحٌ المروّعة جسدها، وحملت عيناها فراغًا سائدًا.
التهمت النار العالم، وما زالت المعركة مستعرةً من حولها، لكنها بدت غافلةً عن المذبحة. تمايلت بتعبٍ إلى الخلف وسقطت أرضًا. وحين حاولت النهوض بإصرار، غمرت دماؤها الرماد، وزحفت ألسنة اللّهب نحوها شيئًا فشيئًا.
لكن، قبل أن تلتهمها، ظهر أحدهم من بين أنين الأشجار المحتضرة، ناظرًا إليها بصمت. كان جسده طويلًا، مغطى بعباءةٍ ضبابية، وعلى وجهه قناعٌ مخيف مصنوعٌ من خشبٍ أسود مصقول. جَسدَ القناع وجهًا مزمجرًا بشراسة، إلا أن نظرة الغريب ذاته كانت باردةً بما يكفي لإخماد نيران الجحيم من حوله.
انبعث صوتٌ من خلف القناع، بدا وكأنهُ مزيجٌ من لعناتِ الموت، مخاطبًا المرأة:
“انظري إليكِ. أنتِ تموتين. ما أحقركِ. ما أتعسكِ. هل هذا كل ما تستطيعينه؟ هل هذا كل ما أنتِ عليه؟ كم أنتِ ضعيفة، كم أنتِ رخيصة. كيف تجرئين أن تكوني بهذه الوضاعة، وأنتِ خصمي؟”
لم تكن هناك إجابة.
خرجت يدٌ خزفية من طيات العباءة الضبابية. وأمسكت سبعة أصابع مَخلبية بتلابيب درعها الممزق ورفعتها بعنف على قدميها.
انبعثت زمجرةٌ مرعبة من خلف القناع، فجعلت اللّهب يتراجع مذعورًا.
“هل تذكرين حتى اسمكِ، أيتها الكائنة البائسة؟”
حدّقت المرأة في القناع الأسود بشرودٍ، ثم لمع في عينيها بصيصُ إدراكٍ.
تحركت شفتيها، وقالت بصوتٍ أجش:
“أنت، أنا قتلتُك.”
ضحك المقنّع:
“حقًا؟ هل ظننتِ حقًا أن كائنًا مثلكِ يمكن أن يقتلني؟ وأنكِ مؤهلةٌ لقتلي؟ أنا؟ شيطان القَدَر؟”
رمى ويفر المرأةَ على الأرض، وتوقف ساكنًا، محدّقًا فيها بانفعالٍ مُرعبٍ لا يمكن تفسيره.
ثم انحنى الشيطان الهائل قربها، وهمس بأصوتٍ متعدّدة، مليئةٍ بالمكر:
“حسنًا، ربما فعلتِ. ربما أنتِ قادرة. ربما ستفعلين. هذا قدركِ، بعد كل شيء. وأنتِ… مُقدّرة. لذا، أخبريني.”
تحوّل صوت ويفر إلى تراتيل من الزمجرات المُرعبة، ملأها الازدراء والغضب:
“.مَن أعطاك الإذن بالموت؟ لا يُسمح لكِ أن تموتي بعد، أيتها الوضيعة. أنا وأنتِ لم ننتهِ بعد. حتى لو انتهى الوجود كله، عليكِ أن تتذكّري قدركِ. عليكِ أن تتذكريني.”
تحرّكت اليد الخزفية، خانقةً الجحيم من حولهما. اختفى اللّهب مذعورًا، واندثرت فكرة وجوده بذاتها، فقد مُحي من نسيج القَدَر إلى الأبد.
“يمكنكِ نسيان كل شيء آخر، كل شخصٍ آخر – حتى اسمكِ. لكن إيّاكِ أن تنسي اسم ويفر، شيطان القَدَر. لا بد أن نلتقي مجددًا، أنتِ وأنا. لذا… تعالي إلى عالم الظل. تعالي وشاهدي، هل كيانٌ مثلكِ يستطيع فعلًا أن يقتل ويفر. عندها فقط، بعد أن تعرفي المعنى الحقيقي لليأس… عندها فقط سأسمح لكِ بالموت، أورفني من التسعة.”
عندما سمعت اسمها، بدت المرأة – أورفني – وكأن شيئًا من قوتها عاد إليها. استعاد بصرها تركيزه، ونظرت إلى الشيطان الغامض بنيةِ قتلٍ قاتمة مشوبةٍ بالذعر.
ضحك ويفر ونهض، معطيًا ظهره للصائدة النازفة.
“هكذا أفضل!”
نظر شيطان القَدَر إلى الأسفل، ثم زفر ببطء.
هوت كتفاه، وتردد صوته الغريب من خلف القناع المرعب:
“.هل أنت هناك؟”
اعتدل ويفر ونظر إلى الأعلى، كما لو أنه يرى شيئًا لا يستطيع أحد سواه رؤيته. كما لو كان يخاطب أحدًا لا يسمعه سواه.
“هل تراقب؟”
ضحك شيطان القَدَر بخشونةٍ.
“راقب جيدًا، إذًا، يا خَليفتي الأدنى. سأريكِ… كيف يموت السَاميين.”
…وعندها، استعاد صني وعيه فجأة.
‘مهلًا… هل كان ويفر يتحدث… إليّ؟’
كان أمامه لحظة واحدة ليشعر بصدمةٍ لا تُقاس. ثم، تحطّم العالَم المشتعل.
وبدلًا من ذلك، اجتاح ذهنه طوفانٌ من المشاهد العشوائية، أعظم من أن يفهمها. ولم يستطع صني أن يميّز سوى عددٍ قليل من الصور المروّعة:
شجرةٌ لا يمكن تصورها، كانت جذورها أساس العالم، وأغصانها تحمل ثقل السماء، وقد التهمتها النيران فيما التف حول جذعها شكلٌ مشتعل، قاطعًا إياها بلا رحمة.
تحطم القمر، وأنطفئت النجوم، أثناء ضرب كائنٍ لا يُدرَكهُ العقل بمخالبه أبراجَ قلعةٍ بيضاء بديعة، والمدينة من تحتها تغرق تحت الطوفان، وسكانها يصرخون ويفنون.
ظلٌ هائل يُظلّل جيشين عظيمين على رمال صحراءٍ دامية، وصوت المعركة المروع ينقطع فجأةً إلى صمتٍ تامٍّ مريع.
تنينٌ أحمرٌ ضخم يهوي نحو الأعماق، والإيكور الذهبي ينزف من عنقه المبتور، غارقًا في قاع بحرٍ بهيّ، فيما تحطّم العالم بسكراتِ موته، ملعونًا بالغرق في الضباب والشفق إلى الأبد.
جيشٌ هائل يتجمّع عند حافة الهاوية، مستعدًا بحزن ليشنّ حربًا على الموت ذاته. ورغم ذلك، فقد غرقت الجيوش الغازية تحت مدٍّ لا ينتهي من الظلال، وأُريقت دماؤها فوق غبار السجّ.
تصادمت أشكالٌ لا توصف وسط عواصف الجوهر الثائرة في المعركة الأخيرة لحرب الهلاك، هازةً أُسس الوجود ذاته.
ثم، في نهاية كل شيء، شكلٌ ضبابي داخل عباءةٍ ممزقة يسير في الظلام بخطواتٍ مترنحة، وقناعُه الخشبي متصدّعٌ.
أمام ذلك الشكل المهترئ، في قلب عالم الظل، كان هناك شيءٌ يبعث على القلق، لا يُفهم، ولا يُمكن تصوّره، فمجرّد النظر إليه مزّق عقل صني إلى ألف شظية، جعله أعمى، أصم، عاجزًا عن التفكير.
ومع ذلك، كان ما يزال يرى.
زحف ويفر بجسده الممزّق، فيما الشَيَاطِين يخوضون آخر معركةٍ يائسة ضد السَاميين من حوله. وخلف شيطان القَدَر، تركت خطواته أثرًا من الإيكور، يشع بوهجٍ ذهبيٍ في الظلمة الباردة.
“حمقى… جميعهم، حمقى.”
انبعثت ضحكةٌ من خلف القناع المتصدّع، بينما وصل ويفر إلى وجهته أخيرًا – قلب عالم الظل، وإلى الرعب الذي لا يمكن وصفه القابع هناك. بوابة الفراغ.
كانت بوابة الفراغ مفتوحةً على مصراعيها الآن.
بسبب كون صني أعمى، لحسن الحظ، لم يرَ ما رآه ويفر عندما نظر إلى ما خلف البوابة.
ضحك شيطان القَدَر مجددًا.
“والآن… خدعتي الأخيرة.”
لكن، قبل أن يتمكّن هذا الشيطان الماكر من تنفيذ شيءٍ، اخترق نصلٌ عظميٌّ ظهره، فمزّق جسده، وقطع ظله، ثم خرج من صدره في نافورةٍ من الإيكور.
ترنّح ويفر ونظر إلى الخلف.
هناك، رأى امرأةً في درعٍ ملطخٍ بالدماء تمسك بمقبض خنجرٍ عظميّ، والحياة تتسرّب من عينيها المظلمتين. كان وجهها مخفيًّا خلف حجابٍ ممزّق، لكن الشيطان عرفها رغم كل شيء.
“أنتِ.”
سقط الاثنان في اللحظة نفسها. فامتزج كلٌ من الإيكور الذهبي والدم القرمزي قبل أن يبتلعهما غبار السجّ.
انحرفت شفاه المرأة لتشكل ابتسامةً شرسة خلف الحجاب الممزق. أدارت الخنجر بيدٍ مرتعشة… ثم وقفت ساكنة، مبتسمةً. ومن ثم خفتت عيناها، ثم أصبحّتا زجاجًا خاويًا.
لقد ماتت.
ولم يكن شيطان القَدَر ليبقى حيًّا طويلًا أيضًا.
خرجت تنهيدةٌ عميقة من خلف القناع.
وناظرًا إلى المرأة الميتة، استجمع ويفر نفسًا أخيرًا وشاقًّا.
“…لقد وصلتِ في الوقت المناسب.”
وآخر شيءٍ رآه صني جعله مصدومًا ومتربكًا، لأنه لم يكن منطقيًّا أبدًا.
وجد نفسه في فراغٍ أسود لا متناهي، تلمع فيه نجومٌ لا تُحصى. بعض تلك النجوم كانت صغيرةً وخافتة، وبعضها عظيمٌ ومضيء. كان البعض منها مرتبطًا بخيوطٍ من النور الفضي، بينما كانت الأغلبية معزولة وسط ظلمةٍ شاسعة.
ثم، تغيّر شيءٌ ما.
اشتعلت سبعة نجومٍ متألقة فجأة في الفراغ، ومن كلٍّ منها امتدّت خيوطُ فضية إلى عددٍ لا يُعد من النجوم. وبسرعة، تكوّن نَسِيجٌ من النور الفضي. مرتكزًا على تلك النجوم السبعة، توسّع النسيج، وابتلع عددًا لا يُحصى من النجوم الصغيرة.
ثم مدّ خُيُوطه إلى النجوم العظيمة التي كانت تتلألأ بسطوعٍ يضاهي سطوع النجوم السبعة التي شكّلت الشرارة لانفجار الخيوط الفضية. كانت هناك أحد عشر كوكبةً منها، وبحلول الوقت الذي بلغت فيه خُيُوط النور الفضي تلك الكوكبات… كان الأوان قد فات.
حينها، كان النسيج قد اتسع أكثر من أن يُقاوَم، بعد أن ابتلع عددًا لا يحصى النجوم الصغيرة – وربما جميعها – لذا، لم تستطع الكوكبات المقاومة. ومع ذلك، فقد حاولت.
لكن، في النهاية، التفت الخيوط الفضية حولها وابتلعتها، ودمجتها في نسيج النور.
وأُلقيت التعويذة على الفراغ.
شهق صني.
ثم… تسرّبت إليه حقيقةٌ أخيرة، تسللت إلى لحمِه وأعادت كتابة جوهره على المستوى الأُسس. وكانت تلك الحقيقة الأخيرة جزءًا من إرث ويفر.
‘اللعنة.’
وأصبح الألم… فضيعًا.
[نهاية الجزء الأول: لعبة الموت].
ترجمة آمون