عبد الظل - الفصل 2407
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 2407 : موتٌ معين
تردّد القديس الحجري.
كانت روح الشك راكعةً على الأرض المحطمة أمامه، كانت أجنحتها السوداء مكسورة وممزقة. كانت عثةً غريبة، عظيمة ومروّعة. لكنه هو الآخر كذلك. لقد كان عملاق اليشم، وكانت عباءة العالم السفلي تُثقل كاهله. ولو أراد قتل ذلك الكائن الملعون، لما كان له خيار سوى الموت.
حتى في هذه اللحظة، لم يكن محرك العرائس يحافظ على حياته إلا بإبطائه تدفق الزمن إلى حد يكاد يجعله ساكنًا. لكن التدخل في قانون مطلق بهذا الشكل كان عبئًا لا يُحتمل، حتى لكائن مثله. لم يكن بمقدوره أن يُبقي الزمن ساكنًا طويلًا، فضلًا عن أن يفعل ذلك إلى الأبد. لذا، إن أراد القديس الحجري قتل روح الشك، لاستطاع.
لكن، هل أراد ذلك؟.
ولماذا قد يفعل، حقًا؟.
نظر القديس الحجري إلى العثة العملاقة بنظرة باردة، وقد شعر بدافع غريب لأن يُجيبها بصدق.
“لست متأكدًا. غير أنني أشتعل بشعلة السمو، وأنت مخلوق كابوسي من الفراغ. ألسنا أعداءً، أنا وأنت؟ ألسنا مقدّرين لأن نُشوّه ونقتل بعضنا؟ إنني أحمل سيفًا، وأنت راكعٌ على ركبتيك. أليس هذا سببًا كافيًا لأقتلك؟”
تلألأت عينا محرك العرائس السوداوان الهائلتان مثل جواهر فاتنة، عاكسةً نسخًا لا تُحصى من القديس الحجري وسيفه الذي لا يرحم في عمقها المركّب.
ثم تكلمت بهدوء:
“آه، لكن انظر حولك، يا محارب العالم السفلي. انظر من الذي جثاني على ركبتي. الذئب، الصائدة، العملاق، والتنين. إنهم ظلال الموت، وهو بشير الليل. خَدَمُ السَاميين يُحيطون بنا، أنت وأنا. السَاميين أنفسهم الذين يخوض أميرك حربًا ضدهم. أليسوا هم أعداءك الحقيقيون، بدلًا عني؟”
نظر إليه القديس الحجري بنظرةٍ باردة.
‘يخوض حربًا ضدهم.’
اشتعل اللهيب الضاري في صدره، ممتلئًا بالكبرياء والعداوة.
كانت روح الشك محقةً. السَاميين كانوا أعداء أمير العالم السفلي، وبالتالي أعداء أبناءه. فكم من الأرواح تحطّمت في ساحات الحرب التي لا تُعد، وكم من الأرواح سقطت.
وكم من الأرواح لا تزال ستسقط. لم يبقَ سلام في أي مكان في العالم. ولم يبقَ رحمة أيضًا. أصبح الاستسلام مستحيلًا، ومن يخسر لن يُرحم. لن تنتهي هذه الحرب إلا بسقوط السَاميين، أو سقوط الوجود كله.
تدفقت همسات محرك العرائس الناعمة إلى أذنيه كالعسل:
“أنت طفلٌ لنيذر، ومن ثمّ من نسل السَامي المنسي، ذاك الذي يحلم في الفراغ، ويحلم بالفراغ. وأنا كائن من الفراغ، وإن كان بيننا صراع، أليس تافهًا إذا ما قورن بصراعنا مع من يخدمون السَاميين المقيتين؟ افلسنا أقرب لبعضنا مما نحن بعيدون؟ افلسنا حلفاءً قبل أن نكون أعداءً؟”
‘حلفاء.’
رمق القديس الحجري العثة الراكعة بصمت، ثم حوّل بصره إلى صور رفاقه المتجمّدة في الزمن. فتعمّق عبوسه. الظلال الثلاثة. التنين الفاتن ذو الحراشف بلون منتصف الليل، وعيناه تلتهبان مثل نجومٍ فضية.
‘خَدَمُ السَاميينَ.’
السَاميين المقيتين، الحقودين، القاسيين.
لماذا كان يُقاتل إلى جانب العدو؟.
نظر القديس الحجري إلى روح الشك.
“قد تكون محقًا.”
كان في كلام العثة الماكرة بعضٌ من الحقيقة.
ثم ابتسم ابتسامةً باردة خلف قناع خوذته.
“لكن، يا روح الشك، ألم تقُلها بنفسك؟”
جمع القديس الحجري إرادته، شاعرًا بثقل نطاق الثلج يسحقه.
“أنكَ عقدت صفقةً مع ويفر.”
تغيّر شيء ما في عيني محرك العرائس.
لكن كان الوقت قد فات.
لم يترك للعثة السوداء الغريبة فرصة للرد، بل أطلق إرادته وسلطته إلى الخارج.
“وإن كان السَاميين حقًا مقيتين، فلا أحد أشد خِسّة ودناءةً من الخائن، شيطان القدر. لقد أعنت ويفر، يا روح الشك.”
غمرت إرادته الجبل المتشقق، مصطدمةً بسلطة محرك العرائس.
“ولأجل ذلك، سأقتلك.”
لم يبقَ أي تردّد في سيفه بعد الآن. لا شك. لا رحمة. فقط يقينٌ وحتمية. فقط الموت.
سكبّ القديس الحجري عزيمته التي لا تقهر في الهجوم على نطاق الثلج، متحديًا سيطرته على الجبل. لم يكن قويًا بما يكفي ليستولي على سلطة العثة الملعونة، لكنه لم يكن بحاجة لذلك.
فهو من نجا من ساحات المعركة المروّعة التي لا تحصى للحرب، من قاد الجيوش، وانتصر على دنود السَاميين. وُلد في المعركة، وكان ماهرًا في كل فنون الاستراتيجية والتكتيكية.
كان سيدًا للحرب، ولذلك عرف كيف يكسر العقبات الحصينة، عبر ضرب مواضع ضعفها.
وعرف كيف يكسر خصمًا يأبى أن يُكسر.
وبالنسبة لروح الشك، كان ذلك الموضع هو الثقل الرهيب، الضعف القاتل، الذي تتحمله لتفرض سلطتها على الخلل المطلق.
لم يستخدم القديس الحجري قوته لسحق سلطة الطاغية الملعون. بل أضاف قوته إلى الضغط المهول للزمن الذي يطمح لأن يتدفّق بحرية، وشاهد السدّ الذي شيّدته محرك العرائس وهو يتشقق.
وفي الثانية التالية، انهار.
وحقيقة أنّه قد انهار، تجلّت في كون الزمن نفسه تغيّر بين لحظة وضحاها.
وفي اللحظة التالية.
حدث كل شيء بسرعة. عاد الزمن إلى مساره. وكانت العثة العملاقة قد اندفعت بالفعل، ساقاها السليمتان تتحركان بسرعة مرعبة.
اخترقت إحدى الساقين درع القديس الحجري وكأنّه ورق، مطبقةً عليه. أما الأخرى، فقد أطاحت بسيفه، ثم دفعت ذراعه إلى الأسفل وكسرته.
غمره ألمٌ رهيب، فأظلمت رؤيته.
وأصبحا فجأة وجهًا لوجه، لا يفصل بين قناع العقيق المرعب لعُدّته وبين عيني العثة السوداوين إلا أمتار قليلة.
رأى القديس الحجري صورته منعكسة في آلاف الأحجار السوداء، والغبار القرمزي يتدفّق من درعه كأنه أنهار.
شدّت محرك العرائس ساقها الشبيهة بالمنجل، مستهدفةً إطفاء اللهيب المشتعل في صدره.
رفع القديس الحجري يده الحرة فوق رأسه، كما لو أنه يستعدّ لإنزال قبضته على العدو بيأس.
لكن بدلًا من ذلك، التقط الترس الدائري الهائل القاتم، الذي كان قد قذفه في السماء من قبل.
وأسقطه بثقل جبل.
هشّمت حافة الترس عنق محرك العرائس واخترقته، قاطعةً رأس الطاغية الملعونة دفعةً واحدة.
ارتجّ جسد العثة الضخم، ثم خمد.
تدحرج رأسها على الأرض، محدقًا في السماء الخالية من النور دون بصر.
اهتزّت خيوط الحرير السوداء وهي تتساقط، وفي خشخشتها…
ظنّ القديس الحجري أنه سمع صدى صوت ناعم، يحتضر:
“لقد كذبت عليّ، يا ويفر…”
لقد كانت تلك الروح تتوق فقط لأن تكون حرّة.
وغاصت بقايا الشمس المنصهرة في بحر من السُحب القرمزية، وحلّ الظلام على العالم.
النَفس الملعونة، روح الشك، محرك العرائس، لم تعد موجودة.
ترجمة آمون