عبد الظل - الفصل 2397
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 2397 : إلى اللهب
تجمّد صني.
لم يكن يتعرض لهجومٍ مرعب، ومع ذلك، لم يُخفف ذلك من ذعره. بل في الواقع، شعر بأنه أكثر اضطرابًا مما لو أن محرك العرائس قد صبّ كل قواه المدنّسة في هجوم ساحق.
لأنه، رغم أن العالم قد تغيّر، ورغم أن صني نفسه أصبح أقوى بكثير مما كان عليه سابقًا، بقيت حقيقةٌ واحدة ثابتة منذ أيام شبابه المُضطربة، أنه من بين كل أهوال تعويذة الكابوس، لم يكن هناك ما هو أشدّ خبثًا ورعبًا من أولئك الذين يتحدثون كالبشر.
‘اللعنة.’
رفع بصره وتأمّل محرك العرائس الساكن، الذي كان يعلو فوقه كجرفٍ حشري أسود مخيف.
‘لا تُجب، لا تُجب، لا…’
ثم تحركت شفتاه من تلقاء نفسها:
“من المُتكلم؟”
سادت لحظات من الصمت، ثم دوّى صوتٌ ناعم من العدم – وكأن الرياح ذات نفسها هي من كانت تُجيب:
“أنا العثة.”
ضيّق صني عينيه، محتارًا مما ينبغي قوله. كان الطاغية الملعون يتحدث إليه. كانت العثة المخيفة التي تعتلي قمة الجبل تخاطبه، بل وتحدثه بلطف وتهذيب.
‘ما هذا بـحق الجحيم؟’
زفر ببطء.
“لكن، لماذا تتحدث إليّ؟”
بقيّ محرك العرائس صامتًا للبرهة، ثم أجاب بسؤالٍ مختلف:
“ولِمَ لا أفعل؟”
لم يستطع صني منع نفسه من إطلاق ضحكةٍ مكتومة.
“هذا سخيف.”
ومع ذلك، أجبره عيبه على الإجابة.
“لأنك رجس. مخلوق كابوسي. أنت وأنا أعداء، أليس كذلك؟”
حرّكت العثة العملاقة قرني استشعارها بخفة.
“أنحن أعداء؟ لماذا؟”
ضحك صني.
“لماذا؟ في الواقع، هذا سؤالٌ وجيه. أنتم، مخلوقات الفساد، يسيطر عليكم هوس مجنون بإبادة كل ما هو طاهر وخيّر. لا أعرف السبب حقًا، لذا بما أن لديّ الفرصة الآن، دعني أسألك بدوري، لماذا بـحق الجحيم أنتم، أيها الأشرار الحقيرون، مصممون إلى هذه الدرجة على تدميرنا نحن البشر؟”
سكت محرك العرائس لوهلة أطول هذه المرة. وفي النهاية، بدا وكأنه تنهد.
“الكلمات تملك قوة، أيها المُحرِّر. وقوة الأسماء أعظم بعد. ومع ذلك، أنت تستخدم هذه القوة بعنف. تفرضها على العالم.”
أمالت العثة العملاقة رأسها للأسفل، ناظرةً إلى صني بعينيها السوداوين الهائلتين.
“الفساد، مخلوق كابوسي، شرير، حقير. طاهر، خيّر. هذه الكلمات التي نطقتها قد لا تُشكّل الوجود بذاته، لكنها تشكّلك أنت. وتشكل كل ما تمسه أيضًا. بل وتشكلني أنا.”
عوت الرياح، واهتزت خيوط الحرير السوداء اللامعة التي تكسو الجبل كغطاءٍ بالٍ.
وتحدث الطاغية الملعون مجددًا:
“ما تسميه الفساد هو تأثير الفراغ. هو لا يُفسد الأشياء — بل يغيّرها فحسب. وهذه الأشياء التي يغيّرها ليست شريرةً أو مقيتة، تمامًا كما أن الأشياء التي لا يغيّرها ليست طاهرةً أو خيّرة. إنها فقط مختلفة. ومع ذلك”
عندما تحدث مُحرك العرائس مرةً أخرى، بدا صوته الناعم حزينًا قليلًا:
“توجد بالفعل مفارقةٌ بين أولئك الذين مسّهم الفراغ، وأولئك الذين لم يمسّهم. وتلك المفارقة تلد الصراع. أولئك من جنسي ممّن هم صغارٌ وضعفاء ليسوا مقيتين… بل بائسين. فهم لا ينتمون إلى الفراغ، ولا إلى الشعلة. ينتمون إلى كليهما، لكن لا يُرحَّب بهم في أي منهما.”
حرّكت العثة العملاقة جناحيها بخفة، فاندفعت رياحٌ عاصفة عبر الجبل المغطى بالحرير. رفع صني ذراعيه ليحمي وجهه من الثلج المتطاير، وقطّب جبينه.
‘هذا الشيء ضخم فعلًا.’
تابع محرك العرائس:
“وجودهم ساحة معركة، والحرب التي يخوضونها ضد أنفسهم تدفعهم إلى الجنون. وفي تلك الحالة الموجعة، يتوهون ويُعمون. كل ما يمكنهم فعله هو البحث عن الخلاص بيأس، مثل إنجذاب العثِ إلى اللهب. مُستهلكون برغبةٍ ضارية إما في امتلاك هذا اللهب أو إطفائه. تسيطر عليهم رغبةٌ مضلّلة لإنهاء تلك المفارقة المجنونة وتصحيح كل ما هو خاطئ – في العالم، وفي أنفسهم. فقط حينها يعرفون العزاء.”
ابتسم صني بسخرية قاتمة:
“العزاء؟ سبب كل هذه المعاناة هو أنهم يبحثون عن العزاء؟ يا لها من مفارقةٍ بالفعل. لا عجب أن أحدهم قال لي ذات مرة إن العزاء خطيئة.”
تحرك محرك العرائس.
“هو كذلك، في أعماق الشعلة. الحياة حرب، والسلام موت. هذه هي القوانين التي نقشتها تجسيدات الشعلة في الوجود.”
بدأ صني يشعر ببعض الارتباك. الطريقة التي يتحدث بها محرك العرائس، والأسماء التي يستخدمها، كانت غريبة. الشعلة… بما أن محرك العرائس وصف الشعلة بأنها نقيض الفراغ، فلا بد أنه كان يقصد الكون الشاسع الذي أنشأه السَاميين – الوجود ذاته. أو ربما كان يقصد الرغبة الأصلية، تلك التي وُلد منها السَاميين من لهيبها؟ من المحتمل أنه يقصد الاثنين معًا. لا يوجد تفريق بينهما بالنسبة لكائن مثل محرك العرائس. إذًا، فإن تجسيدات الشعلة التي ذكرها لا بد أنهم السَاميين.
وأثناء تفكيره في دلالة هذه الكلمات، أتى الصوت الناعم مجددًا، وهذه المرة تخفى فيه أثر من العداء:
“يا له من عالم بشع وقاسٍ صنعوه. في هذا العالم، العزاء بالفعل خطيئة. بل أكثر من ذلك، إنه كذبة. فلا عزاء ليُجد – لا لك، ولا لي. أولئك البؤساء من بني جنسي الذين أعماهم وهج الشعلة لا يرون الحقيقة. أما أنا، فأنا مختلف. لستُ أعمىً، ولستُ منجذبًا إلى الشعلة. ولا رغبة لي في أن أتحول إلى رماد.”
قطّب صني جبينه، وحدّق في العثة السوداء العملاقة بتعبير غريب.
“إذًا، ما تعنيه هو أن فقط الرجسات الأضعف لا تستطيع مقاومة الرغبة التي لا تُقاوَم في التهام وتدمير كل ما لم يمسّه الفساد. أما أنت، فأقوى بكثير، وأسمى من الجميع، لدرجة أنك تستطيع كبح تلك الرغبة. في الواقع، أنت لا تخضع للفساد أصلًا.”
لم يجب محرك العرائس على الفور. بل بقي صامتًا لفترة، ثم سأل فجأة، وقد تسللت إلى صوته الهادئ لمحةٌ من شيءٍ غريبٍ ومُخيف:
“أنت لم تعرف سوى الشعلة، أيها المُحرِّر، لذلك لا تشكك في مبادئها. لكن دعني أُجيب على سؤالك بسؤالٍ آخر. لماذا يجب أن نكون أعداءً؟ أهو بسببي، أنا الكائنُ الذي مسّه الفراغ؟ أم بسببك، أنت الكائن الذي وُلد من اللهب؟ من الشعلة…”
حيث كانت الحياة حربًا.
ترجمة آمون