عبد الظل - الفصل 2370
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 2370 : قدرٌ قاسٍ
انهارت الجبال، فتكوّنت وادٍ شاسع. تحولت المنحدرات الخضراء إلى صحراء بُنية من الصخور المسحوقة… والآن، تحولت الصحراء إلى نهرٍ أحمر.
كانت عباءات جنود الإمبراطورية الحمراء كالدم، تجتاح الأرض كموج قرمزي وهم يتقدمون في صفوفٍ متراصة، فتتلألأ رؤوس رماحهم تحت ضوء الشمس.
فوق بحر المحاربين المتقدم، كان صقر يحلق بانسيابية على نسيمٍ عليل. فتح منقاره وأطلق صرخة، ثم حرّك جناحيه ليطير بعيدًا. لقد فعلها في الوقت المناسب – فبعد لحظة، اخترق سهمٌ ذهبي السماء، مارًا بمكانه كوميضٍ مفاجئ.
طوى الصقر جناحيه وهبط بسرعة، ثم بسطهما مجددًا لينزلق هاربًا من نظرةٍ باردة لرامٍ مخفي.
طار بعيدًا، فوق تلالٍ مغطاة بأشجار الزيتون ومدنٍ فاتنة. عبر بحرٍ بلون النبيذ، تنتشر فيه جزر تفيض أزهارًا زاهية بين صخورٍ بيضاء. فوق غاباتٍ عميقة عامرة بالحياة، حيث تستريح الوحوش المقدسة في ظلال أشجار الزمرد، فوق محاجرٍ يُستخرج منها الرخام النقي، وضريحٍ ساكنٍ هادئ.
طاف فوق عالمٍ مسالم، على وشك أن تلتهمه أنياب الحرب.
وفي النهاية، بلغ الصقر مدينةً شاسعة تمتد حول تلةٍ عالية، وحطّ في ساحة منزلٍ متواضع، متحولًا إلى امرأةٍ يكسو كتفيها جلدُ غزال. كانت بشرتها الزيتونية تغرق في العرق، وأنفاسها متسارعة، يعلو وجهها إنهاكٌ جليّ من الرحلة الطويلة التي قطعتها في وقتٍ وجيز.
“سيدتي!”
أسرعت الوصيفات نحوها، يحملن الماء والفاكهة الطازجة، وأعينهن تشع بالدهشة والتبجيل.
شربت المرأة بغزارة من جرةٍ منقوشةٍ بألوان زاهية، ثم أشارت للفتيات بالابتعاد. وحين وقعت عيناها عليهن، غرقت عيناها بحزنٍ لم يدم سوى لحظة.
ثم أخفت ذلك الحزن.
“لا وقت لهذا. أين الأمير؟ يجب أن أراه.”
نظرت الوصيفات لبعضهن، فتجعد جبينها.
“ما الأمر؟”
أشارت إحداهن نحو التل، حيث يقف معبدٌ قديم، وأعمدته البيضاء قد تآكلت بفعل الزمن.
“إنها العرّافة… لقد استُدعيتِ. وكذلك الأمير.”
تنهدت المرأة بمرارة، ثم مسحت الماء عن شفتيها.
“ها هن يتكلمن أخيرًا، هاه؟”
أغلقت عينيها لثوانٍ، ثم اعتدلت في وقفتها وحدّقت في الوصيفات الصغيرات مرةً أخيرة.
ضحكت الفتيات بخجلٍ تحت نظرتها، فاشتدّ وجه المرأة قسوة. التفتت وذهبت، دون أن تنظر للخلف.
كان جوّ المعبد غريبًا حين وصلت. ذلك المكان الذي غالبًا ما بقي خاليًا، أصبح الآن يعجّ بالبشر.
فرأت وجوهًا معروفة.
كان هناك شابٌ نبيل، في عينيه حكمة وهدوء. وفتى بشعرٍ أحمر – لونٌ نادر في هذه الأرض. وامرأةٌ مثقفة ذات ضفيرة سوداء طويلة، بهاؤها هادئٌ وساحر.
كان هناك أيضًا محاربٌ ضخم، كتفاه عريضتان، وطوله المهيب يُصغّر من حوله. ورجلٌ نحيل في ملابس أنيقة، يشبه نحاتًا. وقبطانُ سفينةٍ احترق جلده تحت الشمس حتى أصبح برونزيًا، وعيناه بلون البحر. شاعرٌ أعمى، أغانيه مشهورة في أنحاء المملكة. وامرأةٌ، لا يُعرف أهي كاهنةٌ أم سافلة… أو ربما كلاهما.
كان كل واحد منهم، باستثناء الفتى، مشهورًا لسبب أو لآخر. بعضهم يمتلك قوةً عظيمة، وآخرون أقلّ، لكن جميعهم مميزون.
في المجمل، كان حشدًا غريبًا من الناس.
وحين دخلت المرأة ذات جلد الغزال حول كتفها، أصبح عددهم تسعة.
تأملت وجوههم بعبوس، لكنها اختارت ألا تقول شيئًا.
كان المحارب أول من تكلّم، بصوته المدوي يتردد تحت سقف المعبد القديم:
“ما الأخبار؟”
أجابته المرأة بصرامة:
“كما توقعنا. الإمبراطوريون قد بدأوا مسيرهم.”
نقر المحارب لسانه بضيق.
“سحقا! عليّ أن أجمع المواطنين في جيش، وليس أن أضيع وقتي هنا.”
نظر إليه الشاب النبيل بهدوء.
“لقد تم استدعاؤنا.”
رغم فرق الطول، بدا المحارب مرتبكًا، فخفض رأسه.
“عذرًا، سيدي الأمير. تجاوزت حدودي.”
سرعان ما أُدخلوا إلى حرم المعبد الداخلي. وهناك، خلف حجابٍ رقيق، جلست ثلاث نساء.
طفلةٌ صغيرة، وامرأةٌ ناضجة، وعجوزٌ شمطاء…
كلهن كنّ عمياء، لكن أبصارهن فاقت كل مُبصر.
كنّ هنّ العرّافة.
ركع الشاب أمامهن.
“أنا، يوريس، أحييكن. لقد جئنا تلبية لندائكن.”
ابتسمت النساء الثلاث وأجبن، بأصواتٍ امتزجت في صوتٍ واحد:
“مرحبًا، يا أخي!”
“مرحبًا، يا بني.”
“مرحبًا، يا صغيري.”
أخذ الشاب – الأمير يوريس – نفسًا عميقًا.
“وطننا في خطرٍ عظيم، أيتها العرّافة… لذا، نناشدكِ… أرشدينا إلى سبيل خلاصنا.”
بدا الحزن على الفتاة. بينما بقيت المرأة ساكنة. وضحكت العجوز.
“أتعلمتَ الأدب أخيرًا، أيها الشقي؟”
بقي الشاب صامتًا لثوانٍ، ثم كرر كلامه:
“نناشدكِ.”
تحركت الطفلة كأنها تريد عبور الحجاب ولمس الأمير، لكن أوقفتها المرأة. ثم أدارت رأسها نحوه وقالت بهدوء:
“أنا آسفة يا بني. لكن هذا ليس سبب استدعائنا لكم.”
شحب وجوه الثمانية الآخرين خلف الأمير، وعضّ الأمير شفتيه.
تابعت النساء الثلاث، وأصواتهن تتداخل:
“هذه الأرض…”
“لا يمكن إنقاذها.”
“نسيجُ القدر شاسعٌ، لكنه قاسٍ أيضًا.”
“لن تُردع الإمبراطورية.”
“مدننا…”
“ستحترق.”
“وشعبنا سيُستعبد.”
“مملكتنا ستسقط، ويُنسى اسمها.”
“ولا نستطيع إيقاف ذلك.”
“لكن…”
سادت لحظةُ صمت، قبل أن تُكمل العرّافة:
“بوسعنا أن ننتقم.”
“أنتم التسعة قادرون.”
“أنتم التسعة من سيأخذ بالثأر.”
“إمبراطورية الحرب…”
“يجب أن تُدمّر.”
رفع الأمير بصره نحو العرّافة، بعينين يسكنهما ظلامٌ عميق.
في النهاية، خفض نظره.
“يا للعجب… وكيف لتسعةِ أشخاصٍ أن يُدمّروا إمبراطورية؟ إنها محميةٌ من قبل سَامٍ.”
عمّ الصمت لثوانٍ، ثم مالت الطفلة للأمام.
فتردد صوتها الطفولي في صمت المعبد القديم، يتردد صداه تحت سقفه:
“إذاً… فعليكم أن تقتلوا السَاميين.”
ترجمة آمون