عبد الظل - الفصل 601
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 601 : مملكة الأمل
حلم ساني بسماءٍ زرقاء لا حدود لها.
أسفلها، كانت مجموعةٌ من الجزر تطفو في الهواء، موضوعةً على خلفيةٍ من السواد المخملي وكأنها فسيفساءٌ جميلة. كانت بعض الجزر خضراء مزدهرة، وبعضها قاحلة وفارغة، وبعضها مغطاة بأطلالٍ قديمة، وحجارتها المهترئة مكسوةٌ بالطحالب.
وكانت جميعها مربوطة بسلاسل حديدية هائلة، تصدر طنينًا عاليًا بينما ترتفع وتهبط، حائمةً فوق الهاوية، حيث تتلألأ مجموعةٌ من النجوم الشاحبة في مكانٍ بعيد… بعيدٍ جدًا في الأسفل. وفي مركز هذه الفسيفساء، كان هناك شقٌ قبيح يتسع في الفضاء، تمزّقٌ شاسع لا يحتوي إلا على الفراغ.
كانت جزيرةٌ وحيدة تحلق فوق ذلك الشق، مع سبع سلاسل ممزقة تتدلى من منحدراتها، وعلى سطحها تقف باغودا بيضاء جميلة، يكسوها غطاءٌ من الغيوم.
وفجأة، تراجعت الشمس إلى الخلف، ثم اختفت خلف الأفق الشرقي. أظلمت السماء، ثم أُنيرت مجددًا حين عبرها قمرٌ مشرق بسرعة، لدرجة أنه بدا كأثرٍ باهت من الضوء. وبعد لحظةٍ، عاد النهار، ثم حلّ الليل مجددًا.
مُزّقت السماء بين النور والظلام، وأخذ الزمن يجري إلى الوراء بسرعةٍ مرعبة. راقب ساني الجزر تحته تتغير ببطء، تشكّلت الأطلال من الأرض وارتفعت لتصبح هياكلًا ثابتة، وازدادت النجوم المشتعلة في الهاوية سطوعًا أكثر فأكثر، وولدت نجومٌ جديدة كل لحظة، حتى غمر النور الأبيض الغاضب الفراغ بأسره.
جزيرةً تلو الأخرى، بدأت الجزر الساقطة ترتفع من ذلك النور المُهلك، والسلاسل التي كانت تربطها ببقية الفسيفساء بدأت تُصلح نفسها. وسرعان ما اختفى الشق في المركز، وبدلًا منه، ظهرت أرضٌ قاحلة رمادية من جزرٍ محترقة. ونزل البرج العاجي من الأعالي، ليأخذ مكانه في قلب تلك الأرض القاحلة.
وفي لحظة، اختفى الرماد، كاشفًا عن مدينة طائرة آسرة تمتد فوق عشرات الجزر، وكلها متصلة بجسور مقوسة وقنوات مياهٍ تفيض من حجارةٍ بيضاء نقيّة، وأعلامٍ نابضة ترفرف في الرياح، وشلالاتٌ براقة تهوي إلى الهاوية في الأسفل.
ببطء، جُذب نظر ساني إلى الغرب، نحو حافة الجزر المقيدة. هناك، كانت إحدى السلاسل العظيمة تربطها بالأراضي الممتدة خلفها، وكان حصنٌ عظيم ينتصب على حافتها، يشبه معاقل الحدود الأخرى التي رآها من قبل. أما الجزيرة المجاورة له، فبدت كوعاء حجري ضخم، مع صفوفٍ من المقاعد منقوشة في منحدراتها البيضاء المتآكلة، وفي أسفلها ساحةٌ مستديرة مطلية بلونٍ أحمر باهت.
وأبعد من ذلك، كانت هناك جزيرة يعبرها نهرٌ غريب، يتدفق بلا نهاية، مشكلًا دائرة حول تمثالٍ قديم لامرأة جميلة تمسك رمحًا بيد، وقلبًا بشريًا نابضًا باليد الأخرى، وكان جسدها مغطىً فقط بجلد وحش مربوط على فخذيها، ووجهها غارقٌ في الظلال.
وكانت تلك الجزيرة التي وجد ساني نفسه فيها.
…وبالطبع، تم رميه مباشرة في النهر اللعين.
‘الـ-سحقا! لماذا يحدث لي هذا دائمًا؟!’
كان غضب ساني شديدًا لدرجة أنه لم يشعر بأي ذعر، على عكس المرتين السابقتين حين قررت التعويذة أن تستقبله بطريقة باردة ومبتلّة — أولًا في الشاطئ المنسي، ثم في ملاذ نوكتس.
على الأقل، هذه المرة كان يعرف أين هو، وفي أي اتجاه عليه أن يسبح إن أراد الوصول إلى السطح.
شدّ ساني عضلاته ليقاوم التيار القوي…
ثم أدرك أخيرًا أن هناك شيئًا خاطئًا… خاطئًا جدًا.
رفض جسده الاستجابة… أو بالأحرى، استجاب، لكن بطريقة غير منطقية على الإطلاق. لم تتحرك أطرافه كما أراد، وبدلًا من السباحة، بدأ يتخبط، ويغوص أعمق وأعمق في الماء البارد والمظلم. وكانت حواسه مشوّشة بالكامل، فلم يستطع حتى فهم ما الخطأ الذي حدث.
‘مـ-ما هذا؟! اللعنة..’
والآن، بدأ ساني يشعر بالذعر حقًا.
كان هذا أبعد بكثير مما خاضه في الكابوس الأول. حينها، الجسد الذي منحته له التعويذة كان يشبه جسده الحقيقي تقريبًا… أما الآن، فكان غريبًا جدًا عنه!.
هل هذا ما حذّرته منه السيد جيت؟.
حاول ساني أن يهدأ ويواصل السباحة، لكن، لم يكن التحرك داخل المياه، خاصة مع تيار بهذه القوة، أمرًا سهلاً. كان يتطلب تنسيقًا دقيقًا وتوازنًا جيدًا، وهذان الأمران لم يمتلكهما في الوقت الحالي. وكل محاولة منه لم تكن إلا تفاقمًا للمشكلة.
كان يغرق… أعمق فأعمق في النهر.
بدأت رئتاه تحترقان من قلة الأكسجين… وشعر بغربةٍ عنهما مثل معظم جسده. وبدأ بصره يضعف…
عصر ساني أسنانه، فأرسل ذلك موجة ألم في فمه وفكّه، ثم توقف عن المقاومة، وترك التيار يسحبه. بعدها، ركّز على حاسة الظل… وما إن لامس جسده قاع النهر الصخري، حتى انتقل عبر الظلال ليظهر بجوار التمثال الحجري.
سقط ساني على العشب. وهو يسعل بشدة، حاول أن يتنفس الهواء النقي، لكنه اكتشف أن حتى ذلك كان معركة. رفضتا رئتاه العمل كما يجب، وحتى مع اجتهاده في الشهيق، لم يكن كافيًا لطرد شعور الاختناق.
‘ما… الذي يحدث… بـحق الجحيم!’
تمدد ساني على الأرض وأغمض عينيه، قاطعًا حواسه جميعًا ليركّز على محاولة السيطرة على فوضى جسده الجديد.
‘لا تفكّر. سيزيد التفكير الأمر سوءًا. لا بد أن لهذا الجسد غرائز… والآن أصبحت غرائزك أنت…’
أفرغ ذهنه من أي أفكار عن التنفس أو الأكسجين، وسرعان ما تولّت غرائزه المهمة بالفعل. تمامًا مثل قصة أم أربعة وأربعين التي سُئلت كيف تمشي، فسقطت عاجزة عن الحركة. وما إن توقف ساني عن التفكير في التنفس، حتى بدأ جسده يتنفس من تلقاء نفسه.
وفجأة، امتلأت رئتاه بهواءٍ عذب، وعاد إليه نشاطه وقوّته.
‘أوه… يا الهـي …’
لم يتحرك ساني لبضعة لحظاتٍ، متنفسًا بعمق، ثم حاول أن يفهم ما نوع الوعاء الذي اختارته له التعويذة بالضبط…
لكن قبل أن يتمكن من ذلك، انطلق فوقه صوتٌ جميل، مفعم بالفضول والمرح:
“يا لك من مخلوقٍ غريب…”
فتح ساني عينيه وحاول الوقوف، مستديرًا بسرعة نحو مصدر الصوت.
وعندما فعل… تجمّد.
أمام عينيه، راكعةً قرب التمثال، تواجدت ربما أجمل امرأة رآها في حياته. بشرتها ناعمةٌ، ووجهها رقيقٌ فاتن، وشعرها الكستنائي يتدلّى على كتفيها كخيوط حريرٍ لامعة. عيناها مشعتان بالنور، تتلألآن بهدوء مثل نجمين فضيين.
لقد رأى ساني العديد من الجميلات الفاتنات في حياته، لكن لا أحد اقترب حتى من هالة الجمال الصامتة والمهيبة التي أحاطت بهذه الغريبة. لمحة واحدة منها كانت كفيلة بجعل قلبه ينبض، ووجهه يحمرّ. كانت أقرب إلى جنية من أن تكون بشرية…
وربما… كانت كذلك فعلًا.
كانت المرأة الجميلة ترتدي سترة حمراء بسيطة مكشوفة الكتفين، ولم تحمل أي سلاح. ومع ذلك، كان حضورها شاسعًا بما يملأ الجزيرة بأسرها. وكأن خصل العشب تنحني قليلاً لتقترب منها، وأشعة الشمس تغيّر مسارها لتلامس بشرتها. وكأنها ليست جزءًا من العالم… بل العالم يدور حولها.
وشيءٌ ما… شيءٌ ما فيها بدا مألوفًا بشكل غريب.
فتح ساني فمه، مدهوشًا، وقال:
“أه… مرحبًا؟”
…أو على الأقل، حاول أن يقول ذلك. لكن ما خرج من فمه كان زمجرة خشنة وحيوانية.
‘ما الذي…؟’
حاول التحدث مجددًا، لكن فمه أخرج زمجرة تهديد منخفضة.
قطّبت المرأة حاجبيها.
“أحد مخلوقات إلـه الظلال… يا لفضولي. لم أكن أعلم أن منكم أحد ما زال هنا، في مملكة الأمل.”
حدّق ساني بها، مذهولًا. ثم أنزل عينيه أخيرًا ونظر إلى نفسه.
‘آه… هراء…’
على الأقل، تحقق أحد أمانيه. لم يعد ساني قصير القامة. في الواقع، كان طوله الآن لا يقل عن مترين.
أما المشكلة، مع ذلك…
أنه لم يكن بشريًا.
كانت بشرته رمادية فاتحة، بلون الحجر. وساقاه طويلتان معقوفتان إلى الخلف، تنتهيان بمخالب حادة وقوية. كان لديه أربع أذرع، كل منها أطول وأقوى من ذراع البشر، وذيل طويل ملتف. كان وجهه يشبه وجه شيطان، ذو ملامح حادة وفم مليء بالأنياب المرعبة. وكان ينبت من جبهته قرنان مقوّسان، وشعره طويل، أسود، وخشن.
وكانت عيناه سوداوين بالكامل، بلا قزحية، تتوسطهما حدقتان عموديتان غاضبتان.
…والأسوأ من ذلك، أن ساني لم يكن يمتلك حبالًا صوتية بشرية.
فلم يكن قادرًا على الكلام.
‘آه، سحقا!’
نظرت إليه المرأة الجميلة، وابتسمت.
كانت ابتسامتها آسرة وبديعة الجمال، لكنها جعلت ساني يشعر بالقشعريرة والخوف، لسببٍ ما.
“ما كان يجب عليك أن تغزو أراضيّ، أيها المخلوق الصغير. لكن لا تقلق… سأهديكَ موتًا مجيدًا. هذا وعد أقطعه أمام الآلـهة.”
نهضت شامخةً أمام التمثال القديم.
“فأنا، سولڤان، لستُ إلا رحيمةً…”
{ترجمة نارو…}