عبد الظل - الفصل 2077
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 2077 : شظايا الحرب (14)
أندفع جيش السيف على المعبرين مثل موجةٍ عاتية.
وكما هو الحال مع الموجات، فقد تراجعوا مرارًا وتكرارًا دون أن يتمكنون من اختراق الحاجز المنيع. وحتى وصول جزيرة العاج لم يتمكن بعد من اختراق دفاعات جيش الأغنية الراسخة – على الأقل ليس بعد. ارتفع عدد القتلى بين المدافعين بشكل حاد، وكلفهم كل هجوم المزيد.
ولكن الخسائر بين المهاجمين لم تكن أقل كارثية.
أصبح الحصار مأزقًا. مات عدد لا يحصى من الجنود من كلا الجانبين، و تزايدت الخسائر. ومع ذلك، لم يتمكن أي جانب من سحق الآخر… أستمر الوضع في التصاعد بلا نهاية، مما جعل الجميع يشعرون أن نقطة الانهيار قد اقتربت.
أولئك الجنود الذين كانوا محظوظين بما يكفي للبقاء على قيد الحياة كانوا يُصقلون ليصبحوا محاربين لا يهابون شيئًا. فالحرب بمثابة بوتقة تنتج أقسى السبائك، ولكن يمكن أن ينكسر الفولاذ الصلب بسهولة.
ولكل شخص حدوده، وكثيرون كانوا يقتربون من حدودهم.
لم تكن رَين تعلم ما الذي كان يحدث في معسكر جيش السيف، ولكن هنا في المعقل الأعظم، كانت معنويات الجنود تلامس الحضيض. على الرغم من أنهم كانوا يعانون أقل من أولئك البائسين الذين اضطروا لمهاجمة جدران الحصن تحت وابل من السهام، إلا أنهم كانوا يعانون بشكل مروع. فالكثيرون يموتون، والكثيرون يصابون بجروح مروعة.
لم يكن هناك ما يكفي من المعالجين المستيقظين لرعاية الجميع، لذلك كان على العديد من الجرحى أن يتلقوا علاجًا تقليديًا. وكان المستشفى الميداني لجيش الأغنية يعاني للتعامل مع تدفق المرضى، وكانت قاعاته المزدحمة مشبعة برائحة الدم واليأس.
عرفت رَين ذلك لأنها تطوعت كممرضة في المستشفى عندما كان لديها وقت فراغ. ولم يكن ذلك بدافع طيبة قلبها فقط، ولكن أيضًا لأنها شعرت بمرارة العجز. فلم تكن جندية جيدة جدًا بعد الآن، خاصةً مع عدم قدرتها على توجيه ضربات قاتلة للأعداء… حتى لو كان هؤلاء الأعداء يقتلون رفاقها بوحشية.
لذلك أرادت رَين أن تكون مفيدة لرفاقها الجنود بطريقة أخرى. كان هناك الكثير من الأشياء التي يمكن القيام بها في جيش كبير مثل جيش الأغنية ليعمل بشكل صحيح، العديد منها لا علاقة له بالقتال. لم تكن مستعدة لطلب نقل رسمي من تمار – والذي كانت صديقتها ستقوم به بلا شك إذا لزم الأمر– لأنها لم تكن جاهزة تمامًا للتخلي عن فوجها. ولكن قضاء بضعة ساعات في أداء مهام بسيطة هنا وهناك كان أمرًا مقبولًا.
كان المستشفى الميداني أشبه بحفرة من الاستسلام واليأس.
…ولم يكن الوضع أفضل بكثير في أجزاء أخرى من الحصن.
فالروح المعنوية منخفضة، والجنود منهكين – عقليًا وجسديًا. ولإحباطهم، لم يكن هناك أي نهاية تلوح في الأفق لهذا الحصار المروع. استمر الأمر يومًا بعد يوم، بينما كان العدو يتعلم من كل هجوم فاشل ويطبق استراتيجيات أكثر فعالية في المرة التالية.
بالطبع، كان جنود جيش الأغنية يتعلمون أيضًا. فقد أصبحوا أفضل في تدمير الجسور المؤقتة، ومنع جنود جيش السيف من رفع السلالم الحربية، والدفاع عن أنفسهم ضد جنود الصدمة الذين يسقطون في ساحة المعركة من جزيرة العاج، وغير ذلك الكثير.
وكل درسٍ دُفع ثمنه دمًا.
تم دمج بقايا سنتوريا تمار مع سرية أخرى وتم تخصيص ثكنة خشبية لهم. كان الجنود يستريحون هناك بين المعارك، التي تحدث مرة كل بضعة أيام – والتي كانت الأخيرة منها مروعة بشكل خاص، لذا تعافى الجميع ببطء.
وكما لو أنهم كانوا يستطيعون التعافي أصلًا.
دخلت رَين الثكنة وألقت نظرة حولها، مراقبةً زملاءها الجنود.
بعضهم كان متجمعًا في الزاوية، يلعبون الورق. اللعبة التي من المفترض أن تكون صاخبة ونشيطة، ولكنها بدت آلية وبلا حياة بدلًا من ذلك.
والبعض الأخر يعتنون بمعداتهم أو يضمدون الجروح الطفيفة. نظراتهم كانت كئيبة وبعيدة.
ولكن معظمهم كانوا فقط مستلقين على أسرتهم، غير قادرَين على النوم، ولكن أيضًا مرهقين جدًا للقيام بأي شيء آخر. محدقينَ في السقف بأعين خاوية، غير مبالين بما كان يحدث حولهم.
على الأقل كانت ثكناتهم أفضل حالًا من معظمها. تمتلك تمار ذكرى تبريد في ترسانتها، ولذا لم تكن شديدة الحرارة كما كانت ستكون خلاف ذلك… كان ينبغي لرَين أن تستمتع بالراحة من الحر الخانق، ولكنها وجدت نفسها غير مبالية بمثل هذه الراحة الصغيرة هذه الأيام.
تقدمت إلى سريرها وأزالت الأجزاء الجلدية من كفن محرك العرائس وسقطت عليه بثقل. لحسن الحظ، كان سريرها في الأسفل – حسنًا، بالطبع كان كذلك. بعد كل شيء، لم تكن رَين تستطيع السير على الهواء مثل تمار.
نظرت إليها فلور – التي كانت تتعافى من إرهاق الجوهر – من السرير المجاور في الصف. وبقيت الفتاة الرقيقة صامتة لفترة، ثم تنهدت.
“راني… هل كنتِ في الحمامات؟”
أومأت رَين برأسها.
“نعم. سمعت أن الهجمات على قوافل الإمدادئ توقفت، لذا لم يعودوا يشددون على توفير الماء كما كانوا. إنه تغيير جميل.”
ظهرت ابتسامة رقيقة على وجه فلور.
“أنتِ هادئة جدًا.”
نظرت إليها رَين بارتباك.
“أنا، هادئة؟، يا للغرابة. ربما خلطتِ بيني وبين شخص آخر.”
هزّت فلور رأسها بضعف.
“لا… لا أستطيع حتى أن أحشد ما يكفي من الدافع للنهوض. والبقية في نفس الحالة تقريبًا. أما أنتِ فتواصلين روتينكِ كما لو كان كل شيء طبيعيًا.”
ترددت رَين قليلًا، ثم هزت كتفيها بلا مبالاة.
“ربما هي مجرد عادة. في قلب الغراب، كنت أكافئ نفسي بنقع مريح في الحمامات بعد الصيد – لديهم هناك مرافق حقيقية بالطبع، وليس مجرد دُش مؤقت. ومع ذلك، لا يزال من الجميل أن أفعل نفس الشيء بعد المعارك.”
ابتسمت فلور بشكل أوسع قليلاً، ثم نظرت بعيدًا.
بعد فترة، سألت:
“هل تعتقدين أننا سنعود؟، إلى المنزل؟”
تمدّدت رَين على سريرها وتنهدت.
“بالطبع. عندما تنتهي الحرب.”
عند سماع ذلك، استدار جندي على بعد أمتار قليلة، ونظر إليها بحدة، ثم سخِر.
“حمقاء… سنكون جميعًا موتى بحلول الوقت الذي تنتهي فيه هذه الحرب اللعينة.”
نظرت إليه ببرود، غير سعيدة على الإطلاق لأنه أحبط محاولتها لرفع معنويات فلور.
ولكنها لم تعرف كيف ترد أيضًا.
‘هذا الأحمق…’
ولكن كان لكلماته بعض الصدى.
رفعت رَين حاجبها.
“ماذا تعني…”
ولكن قاطعها الجندي في منتصف الجملة.
“ما الهدف من الحرب أصلاً؟، لا معنى لها. ذلك الوغد، ملك السيوف، ادّعى أنها باسم نجمة التغيير التي كادت أن تموت على يد قتلة الأغنية. ولكن السيدة نيفيس نفسها كانت ضد الحرب من البداية!، وما زالت كذلك. فقط أفراد العائلة الملكية هم الذين يتوقون للدماء.”
حدق جندي آخر فيه بنظرة قاتمة.
“ما الذي تقوله بحق؟، لا يمكن أن يكون هؤلاء القتلة من نطاق الأغنية. كانت مجرد ذريعة استخدمتها عشيرة فالور لبدء الحرب. فماذا كان من الملكة أن تفعل؟، تستسلم وتسمح لهؤلاء الأوغاد بنهب أراضينا؟، لم تكن تريد أن يحدث هذا!”
صمت الجندي الأول لبضعة لحظات، ثم سخِر.
“لا أعرف إذا كانت تريد الحرب أم لا. كل ما أعرفه هو أن السياديين بدأوها، ومع ذلك نحن البشر الضعفاء نموت فيها. إذا كانوا يريدون القتال بشدة، فلماذا لا يتقاتلون فيما بينهم؟، ما الفائدة من استنزافنا؟”
استدار ونظر إلى رَين.
“ما رأيكِ، راني؟، هل لهذا أي معنى؟”
توقفت قليلاً، ثم تنهدت.
“هل هذه مشاعر البقية أيضًا؟”
تمتم بعض الجنود. لم يجيب البقية، واكتفوا بالنظر إليها بتعب وظلال كئيبة في أعينهم.
هزت رَين رأسها.
“رأيي… هو أن عليكم إبقاء أفواهكم مغلقة. هذا فوج ملكي. إذا سمعتكم تمار، فالأمر على ما يرام، ولكن إذا كانت واحدة من أخوات الدم قريبة عندما تقولون هذه الأشياء، ستحدث المشاكل.”
إذا كانت المعنويات بهذا السوء في واحد من الفيالق الملكية السبعة، فلم تكن تريد حتى أن تتخيل كيف كانت حال الألوية الأخرى.
نظرت رَين إلى السقف وتنهدت بعمق.
‘…ماذا سيحدث لنطاق الأغنية؟’
كان من الصعب البقاء متفائلة.
أو حتى متعاطفة، في الواقع… الكثير من الأشخاص أرادوا فقط أن تنتهي الحرب، وفقدوا الاهتمام سراً بمن سينتصر، أو حتى إن كان هناك منتصر. ولكن لم تُظهر الحرب أي علامات على التباطؤ.
بل بدت وكأنها تتسارع أكثر فأكثر.
هل سيموتون جميعًا هنا حقًا؟.
لعن الجندي المحارب باستياء قاتم.
“ماذا، حتى الكلام ممنوع الآن؟، رائع. هذا رائع!، يبدو أنهم يتوقعون منا أن نموت بصمت، أليس كذلك… كيف نختلف عن الحجاج إذًا؟”
كان هذا سؤالاً جيدًا.
هل كانوا مختلفين حقًا؟.
أطلق الجندي سخرية محبطة، واستدار بعيدًا وغطى نفسه ببطانية. حدقت رَين في صورته الظلية الغامضة بشفقة.
“ذلك الأحمق. سيُشوى تحت تلك البطانية.”
كانت ذكرى تمار المبردة رائعة، ولكنها لم تكن رائعة إلى هذا الحد.
استمع بقية الجنود إلى نصيحتها وتركوا الموضوع.
ولكنها استطاعت أن ترى ذلك في أعينهم…
الإحباط.
كانوا أشخاصًا شجعانًا، وكانوا مستعدين للموت من أجل حماية وطنهم.
ولكن هناك فرق بين الموت من أجل قضية نبيلة والموت بلا جدوى.
وهذه الحرب…
كانت تفقد معناها يومًا بعد يوم.
ترجمة امون