سلالة المملكة - الفصل 583
📏 حجم الخط
✍️ نوع الخط
🎨 الخلفية
🖥️ عرض النص
دعم سلالة المملكة لزيادة تنزيل الفصول :
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
الفصل 583: واحدٌ من كثيرين
أرك: لعنة بلية الملك
انتهى الاستجوابُ الملحّ، فانتحى كلٌّ من ‘فيليسيا’ و‘رافائيل’ خارج الردهة، بينما استمر ‘تاليس’ قابعاً في مكانه لا يريم، يحدق عبر الزجاج إلى الغرفة الخاوية في الجانب الآخر، ونظراته ثابتةٌ لا تتزعزع رغم لُجّة العواطف التي تعتمل في صدره.
‘حانة الغروب’… ‘جالا’…
كلما طافت بمخيلته تلك الأسماءُ الأليفة، تلاطمت في وجدانه أمواجٌ عاتية من الشجن. وبصفته أميراً تُثقل كاهله أماناتٌ عظام، كان يحاول وأد تلك المشاعر الكئيبة في غيابات قلبه منذ محادثته مع ‘جيلبرت’.
وظل على حاله تلك حتى تلك اللحظة.
وبدون وعي، أحكم ‘تاليس’ قبضته. وعلى الرغم من غياب أي تهديد خارجي لـ ‘خطيئة نهر الجحيم’، إلا أنها كانت لا تزال تتدفق وتزأر في عروقه.
“سموّك، هل يتكرم جلالتكم بدفعة أخرى؟”
كان صوت ‘مورات’، بنبرته الهادئة المسترخية وأزيز كرومه السوداء العليلة، هو ما انتشل ‘تاليس’ من لُجّة أفكاره المعقدة إلى أرض الواقع. لكن ذلك الصوت لم يزده إلا ضيقاً واضطراباً.
التفت ‘تاليس’ ليواجه ‘العراف الأسود’ بتمهّل، لكنه لم يحرك أنملة لمساعدة العجوز في تحريك كرسيّه المقعد الملوث بالأدران.
‘لماذا؟’ ‘لماذا تعيّن أن يحدث هذا هنا…؟’ ‘أمام الشخص الذي يرهبه أكثر من أي كائن آخر؟’
“أعمدتَ إلى جلب ‘فيليسيا’ هاهنا، بين يديّ؟”
كان صوت ‘تاليس’ جليدياً خالياً من أي تعبير. فوضع العجوز القابع على الكرسي كأسه من الشاي جانباً، واستدار بلا مبالاة.
“ليس فقط لتريني عواقب أفعالي.”
ركزت عينا ‘تاليس’ الباردتان مباشرة على ‘مورات’، وأردف: “أنت تعلم علم اليقين من تكون هي وما هي خلفيتها.” “وأنت خبيرٌ بخبايا أمري أيضاً.” “لذا جعلت ‘رافائيل’ يثير ذكر ‘حانة الغروب’ عمداً.” “وأنا أسمع.”
بصره ‘العراف الأسود’ بنظرةٍ اخترقت أغواره، وانبسطت أسارير وجهه المليء بالتجاعيد عن ابتسامة عريضة. “كيف وجدتم الأمر، يا صاحب السمو؟ أليس في ذلك مفاجأة سارة؟”
لسببٍ ما، بدت تلك الابتسامة ملتويةً جداً في عيني ‘تاليس’. كانت… ابتسامة ظفر. شريرة. وممقوتة. وتتوارى خلفها مآربُ مستترة.
“ما الذي تروم قوله بالضبط؟ وما هو مأربك؟” توقدت عينا ‘تاليس’ بنار الغضب وهو يرمق ‘مورات’ بنظراتٍ حادة لا تلين. “أيها العجوز.”
تغير الجو في غرفة الاستجواب فجأة، فاستحال إلى حالة من القمع والثقل، وبدأت الكروم ذات العروق السوداء على كرسي العجوز وحجره تتلوى في قلق، وبسرعة، مع صوت يشبه القرض.
أطلق ‘العراف الأسود’ ضحكة شريرة خافتة في تلك الأجواء القاتمة الصامتة. ثم أدار كرسيه بتؤدة ليواجه ‘تاليس’ رداً على سخط الأمير وتقريعه.
“حسبتُ أن الغبطة ستغمرك حين ترى مدى تفاني ‘الدائرة السرية’ في إنفاذ أمانيك، لاسيما في موافاتك بأنباء عن خِدنِ الطفولة.”
ألقى ‘مورات’ نظرة ماكرة على الشاب الواقف أمامه: “أيها الأمير…” “‘تاليس’؟”
تعمد الصمت برهةً طويلة بين الكلمتين، مما جعل الشاب يقطب جبينه.
بدا وكأن الزمان قد عاد بهما القهقرى إلى تلك الظهيرة في ‘قاعة مينديس’، حيث التقى ‘تاليس’—الشحاذ، والطفل الوغد، والفتى الذي يكتنز الأسرار ومستقبلاً مجهولاً—بأكثر رؤساء استخبارات ‘مملكة كوكبة’ ترويعاً ومكراً، والذي كان يقتفي أثر ‘البلية’ المحرمة لأول مرة.
كانت ‘جينس’، و‘جيلبرت’، وحتى ‘يودل’ إلى جانبه في ذلك الوقت، وتلك العجوز الشمطاء ‘سيرينا’ أعانته أيضاً. لكنه الآن هنا، في عقر دار ‘الدائرة السرية للمملكة’.
لا أحد يملك القدرة على إغاثته. كان وحيداً يواجه مصيره.
“آنذاك، جئتُ إليك طالباً العون، فقلتَ لي،” رمق ‘تاليس’ العجوز بنظرة باردة: “إنني لا أستطيع الحديث عن حمايتهم حتى أشتدّ عوداً وتتعاظم قوتي.” “وإلا فسيصبحون مجرد… نقطة وهنٍ لي.” كانت نظرته معادية وهو يكمل: “يعيقون مسيري.”
أصدر ‘مورات’ صوتاً خفيفاً بلسانه: “جيد، لا تزال تذكر.” انخفضت درجة الحرارة في الأرجاء فوراً حين استحال تعبير ‘العراف الأسود’ إلى جليد. “إذن، لماذا لا تزال تطلب من الكونت ‘جيلبرت كاسو’ البحث عنهم باستمرار طوال هذه السنين؟” “حتى إنك التمست العون من ‘رافائيل’، وتجشمت الصعاب لتضليل بصري وسمعي؟”
سرت قشعريرة في جسد ‘تاليس’. لقد كان يعلم.
راقب دوق ‘بحيرة النجوم’ وجه ‘مورات’ المتهلل؛ وكان من الجلي أن العجوز كان على دراية تامة بمسألة تكليفه لـ ‘جيلبرت’ بالعثور على شخص ما. كما هو ديدنه دوماً.
‘ولكن…’ ‘جالا.’ ردد الاسم في نفسه وكأنه يناديها. ‘كلا.’ لا يمكنه السماح لـ ‘العراف الأسود’ بالعثور عليها. فللفتاة شأنٌ يتجاوز كونها ‘جالا’ فحسب. إنها ‘جالا شارلتون’. ‘زهرة السفاحين’.
“أرأيت؟ هذا هو لبّ القضية، وهو سبب شقاقك مع ‘الدائرة السرية’ لسنوات،” ثبتت نظرات ‘مورات’ الباردة والحادة عليه بيقين تام: “لقد كنا دوماً نصنع ما نراه دونما تواصلٍ بيننا.”
وعند ركبتيه، انكمشت الكروم ذات العروق السوداء مرة أخرى، وهي تحفّ في شؤم كأنها سربٌ من الأفاعي تجتمع في بقعة واحدة، مثيرة للرهبة والخطر.
كزّ ‘تاليس’ على أسنانه. ألم تمزيق القناع وانكشاف المشاعر الدفينة في ‘قصر النهضة’… غصة الذنب الناجمة عن معاينة المآسي التي لا تُحصى في غرفة الاستجواب… الإحباط والسخط الطويلان تجاه العثرات التي تواجه ‘الدائرة السرية’… والقلق على ‘جالا’ والشحاذين—كل هذه الآلام انصهرت في عروق ‘تاليس’ في تلك اللحظة بالذات، وتدفقت مع ‘خطيئة نهر الجحيم’ إلى أعصابه المعذبة.
محدثةً جلبة في صدره. مواجهاً العجوز الذي أمامه.
“لقد قلتها من قبل: كفّ يدك عما لا يعنيك ولا تتدخل في شؤوني.” قالها ‘تاليس’ من بين أسنان مطبقة: “أم أنك قررت بالفعل استخدامهم كأوراق مساومة لتهديدي؟”
انفجر ‘العراف الأسود’ ضاحكاً: “يا صاحب السمو، لقد كنت في وضع مهلك في ‘أرض الشمال’.” “لذا لا أعجب أن تؤدي كل تلك الهواجس إلى ريبة في مقاصدنا.” “في الواقع، فإن نهجك الحذر والمتأمل في كل شيء هو أمر محمود…”
قاطعه ‘تاليس’ بسخرية: “إذن لماذا لزمت الصمت لست سنوات؟ لماذا انتظرت حتى عودتي لتطرح هذه القضية أمامي؟”
توقف ‘مورات’ لبرهة، وكأنه يغوص في فكرة. “أنت على حق، يا صاحب السمو.” “لقد بدأنا نولي هذا الأمر اهتماماً وثيقاً…” كانت نبرة العجوز صارمة: “تحديداً لأنك قد عُدت.” “لأنك الآن، بصفتك دوق ‘بحيرة النجوم’—أو بالأحرى، منذ اللحظة التي أفصحت فيها عن استيائك من كرسيي—أوشكت أن تصبح ‘قوياً’ حقاً.”
نقل ‘مورات’ بصره إلى الجانب الآخر، نحو غرفة الاستجواب: “لهذا السبب جعلناك تعاين المشهد للتو.” “مكمن ‘وهنك’.”
الوهن. انتفض ‘تاليس’ كأنما باغته ذعر. “ماذا تعني؟”
انبسطت أسارير ‘العراف الأسود’ عن ابتسامة عريضة. “يا صاحب السمو، إن رجاحة عقلك تتجاوز سنيك. لست بحاجة إليّ لأوضح لك لماذا أمرك جلالته بالقدوم إلى هنا.” “فيما يتعلق بـ ‘الفوضى’ التي رأيت،” استدار العجوز لينظر إلى الغرفة الخالية وراء الزجاج، والكروم ذات العروق السوداء تتمايل جيئة وذهاباً كأنها ترقب ‘تاليس’ بلا انقطاع. “ما هي خواطرك؟”
الفوضى. كان عقل ‘تاليس’ خاوياً. قال ‘مورات’ بتمهّل، دون انتظار رده: “عمال المعاصر الذين أضحوا بلا عمل…” “طلب السيوف في دكان الحداد…” “احتجاج النبلاء من ‘تلة حد الشفرة’…”
كان ‘تاليس’ يغيب في ذهول مع كل كلمة ينطق بها العجوز. “جريمة قتل من أجل الخس…” “وكذلك فتيات الشمال في ‘شارع المربع الأحمر’…”
هذه… كل هذه كانت… ارتجفت شفتا ‘تاليس’ قليلاً، لكنه لم يستطع إخراج كلمة واحدة.
“أعلم،” قال ‘مورات’ بنبرة مهدئة: “تشعر بالظلم، والأسى، والحزن، والشقاء.” “في الحقيقة، لم تكن تنوي حدوث أي من هذا.” “لكن هكذا هو سلطان السلطة.”
سلطان السلطة. لم يجد ‘تاليس’ ما يجيب به.
استمر ‘العراف الأسود’ في التحديق فيه بابتسامة عريضة، لكن عينيه كانتا باردتين كالثلج. “قبل هذا، أنا واثق أن الجميع حذرك—سواء كان الكونت ‘كاسو’، أو السيدة ‘جينس’، أو حتى جلالته—من أن خياراتك كأمير لـ ‘كوكبة’، ودوق لـ ‘بحيرة النجوم’، ووريث لهذا التاج، لها عواقب مديدة وأصداء لا حدود لها.”
استنشق ‘تاليس’ نفساً عميقاً وقال: “أعلم، وسأجد سبيلاً لجبر الخواطر…”
بيد أن ‘مورات’ رفع صوته فجأة، طامساً كلماته: “الحقيقة الأكثر قسوة—والتي ربما لم يخبروك بها—هي أن ما تفعله لا قيمة له في ظل ‘المقام’ الذي تشغله.” “ومهما حاولت الجبر، فكل ذلك هباء.”
رفع ‘تاليس’ رأسه بصدمة. “ماذا؟” لا قيمة له؟ هباء؟
دفع العجوز كرسيه نحوه، وصوته يشوبه الحشرجة: “لأن ‘أفعالك’ ذاتها لها وقعٌ أعظم من فحواها وجوهرها الفعلي.” “المهم ليس ما تفعله، أو ما إذا كنت تفعله أم لا، أو ما إذا كنت تفعله صواباً أو خطأ، بل المهم هو أنك ‘هناك’.”
كانت عينا ‘العراف الأسود’ كبئر لا قاع لها يُجذب إليها ‘تاليس’. “إنه مقامك ووجودك.”
‘المهم ليس ما تفعله…’ ‘بل مقامك ووجودك…’
قطب ‘تاليس’ جبينه ونظر إلى العجوز. لكن ما طرأ على ذهنه كانت كلمات شخص آخر: “‘تاليس’، العالم لا يكرهنا… ما لا يمكن غفرانه ويصعب قبوله، ليس أفعالنا…” “بل وجودنا.”
“أنت في مقام مختلف عن الآخرين حين تملك السلطة، وهذا يخلق فجوة. عندها، وبغض النظر عما تفعله في أعلى مراتب السلطة، فإن ما قُدّر له أن يحدث سيحدث دوماً.”
نظر ‘العراف الأسود’ بعيداً عبر ‘تاليس’ بتعبير منفصل وعينين غائمتين: “تُحدث رذاذاً طفيفاً، فتستحيل سيلاً عرماً.” “تقلل من شأن الأمر، ومع ذلك تكون كلماتك حيةً وقوية.” “تتحدث بنبرة ناعمة ورقيقة، ومع ذلك يتردد صداها عالياً وجلياً.”
تنهد ‘مورات’ ببطء نادباً: “السلطة، إنها تهدر كالسيل الجبلي العارم وتجتاح كل ما في طريقها—بدءاً منك ووصولاً إلى الرعية، بما في ذلك نبلاء ‘تلة حد الشفرة’، وتجار مثل ‘داغوري’، وحدادين مثل ‘جيلبورن’ العجوز، وحتى الآنسة ‘فيليسيا’ وذلك المزارع المسكين للخضروات والفواكه، الجميع في المملكة يخضع لتأثيرها.” “لا أحد يملك وقفها؛ ولا أحد يملك مقاومتها.” “هذا هو ‘الوهن’ الذي يحول في النهاية دون لقائك الذي طال انتظاره بمعارفك القدامى.”
وقف ‘تاليس’ في ذهول.
“يا صاحب السمو، مع كامل الاحترام، فإن معرفة مكانهم أمر يسير…” “ولكن ما الذي سيحدث بعد ذلك؟”
استمر في سماع كلمات ‘جيلبرت’: “هل فكرت يوماً كيف يمكن لمكافآتك، أو امتنانك، أو حتى مجرد مراقبتك لهم من الظلال أن تؤثر عليهم؟” “صنع شيء واحد قد يكون يسيراً، ولكن التعامل مع العواقب التي لا تُحصى والتي تتبع ذلك بإتقان هو أمر عسير للغاية.”
ازداد مزاج ‘تاليس’ قتامة وهو يتأمل هذا. “هل تقول… إنه مهما فعلت، فإن السلطة ستؤثر دوماً على قراراتي، وبصفتي أميراً، كل ما يمكنني فعله هو القبول والحصول في المقابل على قلبٍ بارد كالحجر؟”
لزم ‘مورات’ الصمت وثبت نظراته بإمعان على الشاب الذي أمامه. سكنت غرفة الاستجواب لبرهة. حتى استعادت عينا ‘العراف الأسود’ حدتهما: “في الواقع، لوقف مثل هذه العثرات والخسائر، في قمة الهرم، في مركز الحشود، وفي كل مكان حولنا… بُني حاجزٌ عظيم.”
رفع ‘تاليس’ بصره. كانت عينا ‘العراف الأسود’ تتوقدان، وقال بيقين: “جدارٌ ليوقف النبلاء من أمثالك، يا صاحب السمو، الذين بزلة واحدة قد يطلقون عنان كراهية لا تلين.” “وبذلك، يعزلون السيل العارم الجارف.”
أدار ‘مورات’ الكرسي ونظر نحو غرفة الاستجواب الخاوية: “وهكذا، لدينا آداب للمجالسة، وبهرج للمعيشة، وزينة للمظهر، وإرشادات للسلوك… قد لا يبدو أن لهذه الأشياء صلة ببعضها، لكنها جميعاً نتائج السلطة، الحواجز الاجتماعية التي تبنيها أثناء عملها.” “تقسم الناس بتبايناتهم، وتؤسس للتراتبية عبر التصنيف، وتسم الأفراد بناءً على الرفض، وتفرض الامتثال عبر الانقسام.” “ليعلم العالم أجمع: إنهم كل ما لسنا نحن عليه.”
قطب ‘تاليس’ جبينه. كانت نظرة ‘العراف الأسود’ حادة كالنصل: “من الدقيق القول إنها تمنع التواصل، وتشجع النفور، وتغذي النزاع، وتحدد الطبقات الاجتماعية.” “ومع ذلك، فقد أسست أيضاً مخرجاً طبيعياً للممارسة المتهورة والجامحة للسلطة.”
بالنظر إلى ‘تاليس’ المتحير، همهم ‘مورات’ برفق: “لو أنك بالأمس اتبعت الآداب بشرب ذلك الكأس من النبيذ، ولو التزمت بأعراف النبلاء واخترت أطعمة مختلفة لتناولها، ولو رفعت لافتة توضح بجلِيٍّ أن المبارزات غير مسموح بها، ولو حافظت على مسافة ملكية بدلاً من استقبال أشخاص مثل ‘أنكر بايريل’…”
غير ‘مورات’ الموضوع فجأة: “وهذا، هذا هو ‘الوهن’ الذي كشفت عنه بالأمس—على الأقل، واحدٌ منها.”
لم يزد على ذلك. لكن تقطيب ‘تاليس’ ازداد عمقاً. تذكر الأمير فجأة أنه في يوم عودته إلى العاصمة، منعه ‘مالوس’ بإصرار من الظهور وأصر على بقائه في العربة بتكتم، زاعماً أن ذلك ‘سيوفر الكثير من المتاعب’. وهو… هو بدوره، أعاد سيفاً إلى ‘مالوس’ بزهو.
تنهد ‘مورات’، تاركاً الكروم ذات العروق السوداء على ركبتيه تنتشر بجنون: “النبلاء والمسؤولون رفيعو المستوى الذين نشؤوا في بيئة صارمة الضوابط يفهمون غريزياً قيمة انضباط النفس، ورزانة القول، وحسن السلوك، والسمت المهيب والموقر.” إنهم يمارسون بالفطرة مبادئ الانقسام والانفصال لتجنب كونهم قدوة سيئة وخرقاً في السد، مما يسمح للسلطة—سواء من الأعلى أو الأسفل—بالتهامهم.”
همهم ‘تاليس’ بسخرية تشوبها خيبة أمل. “هل تشير إلى أنني بحاجة لإعادة دروس الآداب الخاصة بي؟”
لكن ‘العراف الأسود’ رمقه بنظرة صارمة وتجاهل مقاطعته: “ومع ذلك، فإن هذا يولد أيضاً عيوباً غير واعية لدى هؤلاء الأفراد: لقد اعتادوا على التصرف بهذه الطريقة، كما لو كانت طبيعة ثانية، لكنهم غير مدركين للمنطق الكامن وراء أفعالهم.” “إنهم محاصرون بالقيود التي وضعتها هذه القواعد والأنظمة، وبدونها، لن يعرفوا كيف يتفاعلون مع الحقائق القاسية للسلطة دون أي كبح.”
نظر العجوز في الكرسي مباشرة إلى ‘تاليس’، وتغيرت نبرته: “لكنك أنت، يا صاحب السمو، ‘تاليس’، أنت مختلف.”
باغت الأمر ‘تاليس’. أظهر ‘العراف الأسود’ مسحة من ابتسامة ساخرة: “أنت من منبتٍ نبيل، لكنك أتيت من بدايات وضيعة.” “لك قدمٌ في أعالي النهر، ولكن لديك فهم للتيارات الهادرة في الأسفل أفضل من معظم سلالات الأرستقراطيين والمسؤولين الأثرياء.” “واليوم ترى كيف تبدأ تلك التيارات بهدوء مع الرذاذ الضئيل تحت أصابعك الملكية.”
عض ‘تاليس’ شفته السفلى. ‘أولاً الفوضى، ثم ماضيّ…’ كبح الأمير مشاعر الحيرة والشتات لديه: “بقولك هذا، تريد مني أن أقف على هذا الجدار الشاهق، وأزن منافع السلطة ومضارها، وأقدم التضحيات، وأتجاهل وأقبل ‘التيارات الهادرة’ التي تتبع ‘الرذاذ’ من أجل تجاوز وهني والسيرورة ‘قوياً’ حقاً؟”
شعر ‘تاليس’ باليأس وهو ينطق بتلك الكلمات. حدق فيه ‘مورات’ طويلاً. لكن وخلافاً للتوقعات، هز العجوز رأسه في النهاية.
“كلا.” “قلتُ لك أن تقضي على مكمن وهنك.” “ومع ذلك، لا يجب أن تكون الوسائل جامدة…”
فجأة، أصبح صوت ‘العراف الأسود’ ملحّاً، وكل كلمة ينطق بها كانت مشحونة بالقوة: “رذاذٌ طفيف قد يخلق سيولاً عارمة.” “لمسة خفيفة قد تخلق أثراً مذهلاً.” “صوت ناعم هادئ قد يكون صاعقاً.”
توقدت عينا ‘مورات’ ببريق حاد، كالنصل: “من زاوية مختلفة، هذه قوة وليست وهناً.” “إنها العلياء الحقيقية للسلطة.” “إنها نوع القوة الذي ينشده الكثيرون…”
وكأن عيني ‘تاليس’ كانت تخدعانه… فجأة استحال العجوز المقعد الذي أمامه إلى تجسيد للظلمة الأكثر عمقاً واستغلاقاً، ظلمة تبتلع كل ضياء. تخيل أن الملك ‘نوفين’، والملك ‘تشابمان’، والملك ‘كيسيل’ كانوا جميعاً في الجانب الآخر من الظلمة، يرقبونه برهبة.
تعالى صوت أزيز الكروم ذات العروق السوداء وهي تتلوى بعنف أكبر. “إن عدم اهتمامك بالشرب يتسبب في فقدان عدد لا يحصى من عمال المعاصر لوظائفهم بسبب ظنون منظمي المآدب وشكوكهم حول تفضيلاتك…” “بينما يمكن لتفضيلاتك الخاصة في النبيذ أن تلهم تجار النبيذ للتفكير خارج الصندوق، والعمل بجد لصنع نبيذ أفضل، أو البحث في أسواق جديدة في الخارج لزيادة الصادرات.”
أصبح ‘العراف الأسود’ فجأة هجومياً ومهيباً: “المبارزة المستهترة التي خضتها في المأدبة قد تؤدي إلى فقدان عدد لا يحصى من الشباب لأرواحهم في لحظة طيش في الشوارع.” “بينما يمكن لشجاعتك وبسالتك في مواجهة المبارزات أن تلهم روحاً قتالية قوية في جميع أنحاء المملكة، كاسحة الأصوات الضعيفة والواهنة.” “إن تسامحك ولينك تجاه الأفراد الخارجين عن القانون مثل ‘بايريل’ سيجعل عدداً لا يحصى من المسؤولين قلقين ومضطربين.” “ومع ذلك، فإن تفانيك الراسخ في العدالة واحترامك للحياة البشرية يعمل كرادع لأولئك الذين قد يؤذون الآخرين، ويمنع الفساد ويوحد النبلاء والشرفاء للوقوف بجانبك في الأوقات العصيبة.”
“من العسير التنبؤ بنتائجها، لكن سلوكك في المأدبة قد يطلق شرارة موضة ويكون له أثر تتابعي، يشجع الأفراد الانتهازيين على التكتل وإيذاء العامة.” “ولكن يمكنك أيضاً قلب الموازين بالجهر برأيك وإحداث فارق، وتحديد مسار المملكة، وفتح آفاق جديدة.”
باغت الأمر ‘تاليس’ مرة أخرى وهو يواجه رئيس ‘دائرة الاستخبارات السرية’. وسمع العجوز يقول بنبرة قاتمة: “بدلاً من العثور صدفةً على حطام السلطة بعد انحسار مد الفيضان، يتعين عليك، على كلا جانبي الجدار، أن ترنو إلى هذا.”
‘علياء السلطة’
حدق ‘تاليس’ في ‘مورات’، وعقله يضج بمئات الأفكار. لكنه تذكر قولاً آخر: “صدقني، شعبك سيعطيك دوماً رداً غير متوقع ويخالف توقعاتك.” “سيفاجئون حاكمهم دوماً ويتفاعلون بطرق لم تستعد لها.”
بدا وكأن دوق ‘الصحراء الغربية’ الشرس والمهيب يقف أمامه مرة أخرى، مرياً إياه ابتسامة صامتة. غرق قلب ‘تاليس’.
“لكنك قلت،” صارع لإخراج كلماته: “إن وقع ‘أفعالي’ أعظم من فحواها أو جوهرها.” “مهما فعلت، ستكون هناك دوماً فوضى، وإذا تعمدت الجبر…”
“بالضبط!” قاطعه ‘العراف الأسود’ بصوت عالٍ، فحيحه كالأفعى، ولكنه كان قوياً للغاية في تلك اللحظة: “نتيجة لذلك، يجب أن تعمل بجد أكبر وتكرس نفسك أكثر،” “متأكداً من أن أفعالك تتماشى مع المعنى والغرض المقصود منها،” مدّ إصبعه وأشار نحو صدر ‘تاليس’: “عبر التغلب على قيودها الخاصة.” “عبر التغلب على عيوبها المتأصلة المتجذرة بدلاً من التأثر بوهنها.”
“هل يقضّ مضجعك أن أفعالك واهتمامك بخلان الطفولة سيتحولان، بسبب مقامك وسلطتك، إلى جرس مَعدِيّة نهر الجحيم لهم؟” نطق ‘العراف الأسود’، مثيراً أكبر مخاوف ‘تاليس’. “في هذه الحالة، يجب أن تفكر في كيفية تجاوز قيود مقامك وضمان ألا تؤدي أفعالك واهتماماتك إلى عاقبة مأساوية.”
كان تعبير ‘تاليس’ غير مستقر، وأفكاره في شتات. “بدلاً من الجبر، ما تحتاج لفعله هو تولي الزمام. ألا تنوح وأنت جاثم فوق هذا الجدار الشاهق، بل أن تحرك الأمواج وتكسر المد.”
أطلق ‘العراف الأسود’ شخيراً بارداً: “في ‘الشرق الأقصى’، هناك قول مأثور…” “السيد يستخدم الأشياء، بينما الصغير تستخدمه الأشياء.”
غرق ‘تاليس’ في أفكاره.
“يا صاحب السمو،” بدأت الكروم ذات العروق السوداء تخبو بينما ضغط ‘مورات’ يديه على مساند الذراعين وقال: “الملوك الغابرون صنعوا ذلك.” “ولي العهد ‘ميديير’ صنع ذلك.” “وهكذا يصنع جلالة الملك ‘كيسيل’.”
قطب ‘تاليس’ جبينه بشدة عند سماع الأسماء المألوفة. وحدق في الطرف الآخر بإمعان: “ماذا لو… لم أستطع فعل ذلك؟”
ابتسم ‘العراف الأسود’. “تستطيع فعل ذلك.” دفع ‘مورات’ كرسيه مبتعداً، مولياً ظهره للأمير. “منذ اللحظة التي عدت فيها، كنت قادراً على ذلك.” “لقد كنت مستعداً منذ أمد بعيد.” “إنها مجرد مسألة اتخاذ الخطوة الأخيرة.”
قال بمرارة: “أنت فقط مفرطٌ في الحذر، وخائف، ومدرك للتأثير الذي قد يحدثه والنتائج المحتملة التي قد تترتب على ذلك.”
كزّ ‘تاليس’ على أسنانه بقوة؛ وعقله يضج بالارتباك. رفع رأسه بعد ثوانٍ قليلة، والتقت نظراته بظهر ‘العراف الأسود’. “أنا لا أحبك.”
“أعلم،” قال ‘مورات’ دون أن يلتفت: “ولكن، كما ذكرت سابقاً، فإن حبك لي من عدمه لا قيمة له.” “المهم هو، وبغض النظر عن ذلك، هل يمكنك تنحية المشاعر الشخصية جانباً واستخدامي لتحقيق نتائج فعلية،” قال العجوز بتمهّل: “وأنت ممسكٌ بزمام الأمور؟”
تغير تعبير ‘تاليس’ قليلاً. استنشق ‘مورات’ نفساً عميقاً قبل أن يعدّل كرسيه ويستعد للرحيل. وفي تلك اللحظة بالذات…
“هل تشعر بالوحدة يوماً؟” قام ‘العراف الأسود’ بحركة مفاجئة. ليشاهد خلفه ‘تاليس’ وهو يلقي نظرة: “اللورد ‘هانسين’، ذكرتَ أنه قد مر زمن منذ أن صادفت شخصاً يرتاح أمامك ولا يخشى الكذب عليك.” “ذلك الشعور لا بد أن يكون موحشاً جداً.”
لم ينطق ‘مورات’ بكلمة؛ ولم يظهر سوى شبح جسده. “إذن…” اتخذ صوت ‘تاليس’ نبرة مختلفة: “‘الساحرة الحمراء’.”
لاحظ ‘تاليس’ حينها اضطراب الكروم السوداء على الكرسي. “السيدة ‘كالشان’، التي يُقال إنها قادرة على خداعك ولا تتورع عن الكذب عليك… هل هي واحدة منهم؟”
ظل ‘مورات’ صامتاً؛ وكل ما كان يرى هو تمايل الكروم ذات العروق السوداء التي زادت حيوية واضطراباً. أصبح الجو في غرفة الاستجواب متوتراً. بعد ثوانٍ قليلة.
“أرجو المعذرة؛ لقد تقدم بي العمر وطاقتي محدودة.” قال ‘العراف الأسود’: “سأذهب لأرتاح الآن،” ولكن حتى وجسده ظل بلا حراك، كانت الكروم الشيطانية على ركبتيه ترتجف بعنف، تبتلع العجلات وتصبغها بلون أسود سرمدي، “‘رافائيل’، اجعل الأمير يشعر بالترحاب وعامله بالحسنى.”
التفت ‘تاليس’ برأسه في مفاجأة ورأى أن ‘رافائيل’ قد وقف عند المدخل قبل أن يلحظه. انحنى ‘رجل العظام القاحلة’ باحترام. وفي الوقت نفسه، بدأ كرسي ‘مورات’، المغطى بالكروم المظلمة، في التدحرج للأمام بطريقة غريبة ومزعجة، آخذاً إياه معه وهو يتلاشى خارج الباب.
عادت غرفة الاستجواب إلى طبيعتها، وتبدد التوتر. ألقى ‘تاليس’ نظرة شاردة في الاتجاه الذي ذهب إليه ‘العراف الأسود’. “إذن، تبين أن كرسيه يستطيع التحرك من تلقاء نفسه،” قال بصوت منخفض: “لم يكن عليّ دفعه حتى.”
اقترب منه ‘رافائيل’ وقال بابتسامة: “أحياناً، دفعة صغيرة هي كل ما يحتاجه بعض الناس.”
زفر ‘تاليس’ بعمق. “كيف استطعت التعامل معه طوال هذه السنين؟” رفع ‘رافائيل’ حاجبه، ونظره ثابت على الباب الذي اختفى منه ‘العراف الأسود’. “هو يتحدث،” قال ‘رجل العظام القاحلة’ بهدوء: “وأنا أنصت.”
قطب ‘تاليس’ جبينه وتذمر: “كنت أتخيل ذلك.”
أطلق ‘رافائيل’ ابتسامة خفيفة وأشار إلى الباب: “كما قلت، لن تزداد إلا قلقاً بمجرد زيارتك لـ ‘الدائرة السرية’.” تنهد الأمير وتبع ‘رافائيل’ خارج غرفة الاستجواب.
“هل غادرت تلك الفتاة، ‘فيليسيا’؟” بمشاعر متضاربة، مر ‘تاليس’ بجانب صورة ‘النجم الأشرق’ الأميرة ‘ثيودورا’ (فكر تاليس بسخط: ‘لم أنظر إليكِ حتى، أيتها المغرورة. لا تتعالي علينا!’)، سائلاً بلا مبالاة.
أومأ ‘رافائيل’ برأسه: “ما الخطب؟ هل تريد مرافقتها لفترة أطول قليلاً؟” قطب ‘تاليس’ حاجبيه ونظر إليه بعدم رضا. ابتسم ‘رافائيل’ ببساطة ورفع يديه مستسلماً. أشاح ‘تاليس’ بنظره عنه وأطلق ضحكة ساخرة صغيرة: “بل أنت، ألا تظن… ‘كوهين’؟”
“سيكون بخير،” قال ‘رافائيل’ بهدوء، دون أي أثر للذنب على وجهه. “حين تدرك أنه ليس أنا.” “لكنك لن تكون كذلك،” قال ‘تاليس’ بمسحة من السخرية. “حين يدرك هو أنك بعتَه.” “لا بأس،” قال ‘رافائيل’ بلا مبالاة. “لقد اعتاد على ذلك.” “علاوة على ذلك، أما بالنسبة لـ ‘كوهين’…” تردد ‘رافائيل’ قليلاً، وتقوس فمه بابتسامة، واحتفظ بكلماته لنفسه: ‘إنه لا يقوى على مجاراتي على أية حال.’
“‘رافائيل’.” مشيا في صمت لفترة حتى تحدث ‘تاليس’ فجأة: “أهذا شيء تفعلونه جميعاً غالباً؟” “تطهير أدران أفعالي؟”
التفت ‘رافائيل’ بجبين مقطب. “يقول ‘مورات’ إنني كنت دوماً على خلاف مع ‘الدائرة السرية’—نسلك دوماً سبلنا المنفصلة ولا نتواصل أبداً.” تمتم ‘تاليس’. “لم أكن سوى… مبعث قلقٍ لكم جميعاً، أليس كذلك؟”
تنهد ‘رافائيل’ تنهيدة صغيرة. “أظن ذلك.” أجاب دون تفكير ولم يزد شيئاً.
أطلق ‘تاليس’ ضحكة خافتة. ‘أليس كذلك؟’ “ولكن، ليس الأمر سيئاً تماماً، صح؟ لقد… ساعدتُ أيضاً؟” فكر ‘تاليس’ في ‘الفوضى’ التي رآها اليوم وقيام ‘الدائرة السرية’ بـ ‘تطهير أدرانه’. ‘بدلاً من الجبر، ما تحتاج لفعله هو تولي الزمام.’
سكت ‘رافائيل’ لبرهة. “أتود أن أتحدث بصراحة؟” حدق ‘تاليس’ في ‘رجل العظام القاحلة’.
“في المؤتمر الوطني، ‘مدينة سحابة التنين’، ‘الصحراء العظمى’، ‘معسكر أنياب النصل’…” بينما كان يسرد كل موقع واحداً تلو الآخر، حافظ ‘رافائيل’ على وجه جامد: “في جوهر الأمر، كل جهودك لـ ‘إنقاذ العالم بمفردك’…” “تؤدي إلى أثر عكسي لما كان منشوداً منها.”
شحب وجه ‘تاليس’. “أنت تمزح، أليس كذلك؟” أطلق ‘رافائيل’ ابتسامة مؤدبة وغير صادقة وهو يدير رأسه.
“ولكن—” سارع ‘تاليس’ إلى جانبه، مزمجراً: “في المؤتمر الوطني، لو لم أحرك المياه الراكدة مع ‘زين’…” “كانت لدينا خطة بديلة.” “في ‘مدينة سحابة التنين’، لو لم أعد وأحبط خطط ‘لامبارد’…” “كانت لدينا أيضاً خطة بديلة.” “الصحراء العظمى…” “ضمن التوقعات.” “معسكر أنياب النصل…” “لم تكن لتكون أكثر عجزاً.”
كافح ‘تاليس’ لإخراج الكلمات في نفس واحد وقال بتذمر: “حقاً؟”
هز ‘رافائيل’ كتفيه: “إن ‘الدائرة السرية للمملكة’ تُقدم كأكثر الأماكن سرية في ‘كوكبة’، مع خطط محكمة لكل شيء—بما في ذلك أنت، وتطهير أدران الأمير واحد منها.”
استنشق ‘تاليس’ نفساً عميقاً وذكر نفسه ألا يفقد أعصابه عند سماع ذلك المصطلح. “حسناً، لنأخذ الحالة الأكثر تطرفاً كمثال…” “بالعودة لست سنوات خلت، بينما تنفذون الآن ‘دم التنين’، أتعتقدون جميعاً أنها يمكن أن تؤدي إلى مواقف مثل ‘الشارلتونيين’، و‘درع الظل’، و‘الغرفة السرية’، و‘تشابمان لامبارد’ وخروج الأمور عن السيطرة؟”
التفت ‘رافائيل’ برأسه لينظر إليه. “بالتأكيد،” “كل ذلك وُضع في الحسبان.”
بعد لحظة وجيزة من المفاجأة، حافظ ‘تاليس’ على رباطة جأشه: “أنتم يا أهل ‘الدائرة السرية’… تملكون جرأة كبيرة لقول ذلك؟”
بنبرة خافتة وهزة رأس، قال ‘رافائيل’: “هكذا هي الأمور.” “إن سلطة وقدرات ‘الدائرة السرية’، فضلاً عن العلاقة وتوازن القوى بين الدولتين، قد حددت مسبقاً كيف ستؤول إليه عملية ‘دم التنين’.” “بيد أن الأهم من ذلك، أنه ومهما تطورت الأمور، فإنها تظل ضمن حدود معقولة ولن تتجاوز توقعاتنا.” “حتى لو حدثت أي تطورات غير متوقعة، فإنها ستقع ضمن نطاق خطة الطوارئ.”
أطلق ‘تاليس’ شخيراً من الازدراء. “أهكذا الأمر؟” استنشق ‘تاليس’ نفساً عميقاً واسترجع محادثته مع ‘العراف الأسود’ حول تداعيات السلطة. “‘تشابمان’ يطالب بالعرش؛ وطموحاته أعظم من طموحات ‘نوفين’.” “أرض الشمال في حالة خراب؛ ودرجة الفوضى أعلى بكثير مما كان متوقعاً.” “الأمير وقع أسيراً؛ واستمرارية السلالة الملكية محل شك.” “أهذه أيضاً جزء من الخطة؟”
واصلا المسير. “لقد نوقش هذا بالفعل، أليس كذلك؟ بغض النظر عن المنتصر—‘لامبارد’ أم ‘نوفين’—أو إذا ذبح كلا الطرفين أحدهما الآخر،” قال ‘رافائيل’ مع هزة كتف: “فإن ‘دم التنين’ سيمزق ‘إيكستيد’ إرباً ويجعلها عاجزة عن الاتحاد، تماماً كما هي الآن.” “أما بالنسبة لرغبة ‘لامبارد’ في السلطة، والوضع في الشمال، وحتى مكان وجودك…” “كلها جزء من الخطة.”
‘بالتأكيد.’ تردد صدى ضحكة ‘تاليس’ الباردة وهو يكتف ذراعيه: “والكارثة؟” “ماذا سيحدث لو فشلت ‘ملكة السماء’ في الظهور وفقدت المجسات العملاقة الحمراء في ‘مدينة سحابة التنين’ السيطرة؟”
توقف ‘رافائيل’ لفترة قصيرة من الزمن. “كن مطمئناً، لدينا خطة طوارئ.” قال ‘رجل العظام القاحلة’ بنبرة فاترة: “حتى لو لم يظهر التنين، لدينا وسيلة موثوقة لإبقاء كارثة الدم تحت السيطرة التامة.”
ابتسم ‘تاليس’ بسخرية وهو يستذكر قوة ‘جيزا’ الغامضة. ‘أهكذا الأمر؟’ ‘أشك في ذلك بشدة.’ “ماذا سيحدث الآن بعد أن كشفت ‘الساحرة الحمراء’ خطتكم وتحولتم إلى بيدق في لعبة شخص آخر؟ كيف تخططون للتراجع؟”
“بما أننا نحتاج للذهاب إلى ‘مدينة سحابة التنين’، فمن البديهي أننا سنضطر لمواجهة ‘الغرفة السرية’،” قال ‘رافائيل’ وكأن الأمر مسلم به. “كنا مستعدين لاحتمال وقوفهم في طريقنا.” “لقد خرجتَ سالماً معافى، أليس كذلك؟”
لوى ‘تاليس’ شفتيه وهز رأسه. ‘أنت تبالغ في قدراتكم، أليس كذلك؟’ “ماذا سيحدث عندما يدخل الملك ‘تشابمان’ إلى ‘قصر الروح البطولية’، ويجمع الأرشيدوقات، ويأمر الجيش بالزحف جنوباً للانقضاض على ‘مملكة كوكبة’؟” قال الأمير بنبرة جليدية: “لا تقل لي إن ذلك قد وُضع في الحسبان أيضاً؟” “هل لديكم خطة بديلة لذلك أيضاً؟”
أجاب ‘رافائيل’ بتأكيد فقط، دون أن يكلف نفسه عناء التفصيل: “بالطبع.”
هز ‘تاليس’ رأسه بازدراء وسخر: “آه، أرى ذلك. الخطة البديلة ليست سوى مدخنة كبيرة بما يكفي ليتسلل صبي صغير عائداً إلى ‘قصر الأرواح البطولية’…”
توقفت خطوات ‘رافائيل’ فجأة! توقف في مكانه. التفت ‘تاليس’ حوله في حيرة.
“يُفترض أن يكون هذا سرياً للغاية، ولكن، يا صاحب السمو، نظراً لتحفظاتك…” لاحظ الأمير فجأة التعبير الجاد للغاية على وجه ‘رجل العظام القاحلة’. “دعني أحاول صياغة هذا بكلمات.”
كان ‘رافائيل’ يحدق فيه بعينيه الحمراوين الثاقبتين: “هل تعتقد حقاً أنه لو نجح ‘لامبارد’ في إلصاق تهمة قتل الملك ‘نوفين’ بك وإقناع الأرشيدوقات بالزحف جنوباً، لم يكن لتكون لدينا وسيلة لردع أفعاله؟”
وسيلة للردع… ظهرت مسحة طفيفة من الإحباط على وجه ‘تاليس’.
“طوال السنوات الست الماضية، كنت تحت انطباع أنك كنت تنقذ العالم بمفردك، ولكن هذه ليست القصة كاملة.” لوحظ تغير طفيف في المشاعر على وجه الأمير.
كان حديث ‘رافائيل’ غامضاً، مشيراً إلى معنى أعمق: “ما الذي دفعك للاعتقاد بأنه في ذلك اليوم في ‘قصر الأرواح البطولية’…” “أن حليف الطرف الذي تعاون معنا عبر اتفاق سري…”
بصوت خافت وهادئ، قال ‘رافائيل’: “لم يكن سوى واحدٍ منهم، ‘لامبارد’؟”
انتهى الحديث عند هذا الحد. في تلك اللحظة، بدا وكأن الزمان قد توقف. كان ‘تاليس’ مذهولاً تماماً.
لم يكن سوى واحدٍ منهم، ‘لامبارد’… ‘ماذا…’ ‘ما الذي كان يرمي إليه؟’
وقف ‘رافائيل’ بلا حراك في الردهة الهادئة، يحدق في ‘تاليس’ المبهوت: “أعتذر إذا بدت كلماتي غير مهذبة، يا صاحب السمو.” “ولكن رغم أن خيارك الأول كان جريئاً تماماً.”
وفي اللوحة، كانت ‘الجميلة الشرقية’، ‘إيلفا’، تنظر إليهما في صمت.
“ومع ذلك، فأنت لست سوى واحد من قطع اللعبة الاحتياطية الكثيرة…”
تطابق تعبير ‘رافائيل’ الحاد مع نبرة صوته الصارمة.
“واحدٌ من كثيرين.”
ظل ‘تاليس’ في حالة من الذهول والجمود لبعض الوقت.
‘واحدٌ من كثيرين؟’
انبعث الحادث الدموي الفوضوي الذي وقع في ‘مدينة سحابة التنين’ قبل ست سنوات في مخيلة ‘تاليس’، وكان الذكرى غاية في الجلاء لدرجة أنه شعر كما لو كان هناك مرة أخرى.
وصول ‘الكارثة’، هلاك ‘نوفين’، زحف ‘الرمال السوداء’ نحو المدينة، تحالف الأرشيدوقات، الزحف نحو الجنوب، الأرشيدوقة، الملك ‘تشابمان’…
‘ولكن…’
غصّ عقله بذكريات الماضي. تسبب ثقلها في ترنحه.
‘مدينة سحابة التنين’، ‘قصر الأرواح البطولية’. تجارب الماضي وذكرياته التي رُسمت بجمال على قماش مخيلته، تم تمزيقها للتو بكلمات ‘رافائيل’.
‘ولكن…’ ‘كلا.’ واحدٌ منهم. ‘كلا!’
راقب ‘رافائيل’ تعبير الأمير المضطرب بابتسامة رضا، ثم استدار ليرحل. بيد أنه، في تلك اللحظة والمكان بالذات…
“بايريل.”
ألقى ‘رجل العظام القاحلة’ نظرة غريبة خلفه.
“أنكر بايريل، ذلك السفاح من ليلة أمس.”
ليشاهد ‘تاليس’ وهو يرفع رأسه ببطء، وتغطي وجهه ملامح الحيرة وهو يتمتم بصوت خافت: “‘رافائيل’، أريد رؤيته.”
قطب الأمير حاجبيه، مع مسحة من الإلحاح: “على الفور.”
إن أعجبتكم الترجمة، أتمنى منكم دعمي بالدعاء لأهلنا وإخواننا في فلسطين والسودان، جزاكم الله خيرًا.
تمت ترجمته بواسطة مسطرة الماء RK
✨ عضوية مميزة في فضاء الروايات ✨
🚫📢 تخلّص من الإعلانات المزعجة
💖 استمتع بتجربة قراءة سلسة ومميزات حصرية مقابل مبلغ رمزي
📌 ملاحظة: أرسل اسمك في الموقع عند الدفع ليتم تفعيل العضوية ✅
جميع ما يتم ترجمته في الفصول منسوب إلى المؤلفين، ونحن بريئون من أي معانٍ تخالف العقيدة أو معانٍ كفرية وشركية.
هذا مجرد محتوى ترفيهي فلا تدعه يؤثر عليك أو يلهيك عن دينك.
استغفر اللـه وأتوب إليه.