سلالة المملكة - الفصل 580
📏 حجم الخط
✍️ نوع الخط
🎨 الخلفية
🖥️ عرض النص
دعم سلالة المملكة لزيادة تنزيل الفصول :
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
الفصل580: يروقون للأمير
لم يستعد ‘تاليس’ توازنه من مشاعر الضيق والعجز إلا بعد فترة طويلة.
“ما هذا؟”
التفتَ نحو ‘مورات’، الذي كان جالساً في سكونٍ تام.
ابتسم ‘العراف الأسود’ بخبث: “ماذا تظن أنت؟”
صمت ‘تاليس’ لبضع ثوانٍ.
“حين أرسلني والدي إلى هنا،” كان صوت الأمير رزيناً وكئيباً، “أخبرني أن عليَّ المجيء لأرى الفوضى التي أحدثتها”.
‘الفوضى’.
غرق ‘تاليس’ في ذهولٍ مؤقت.
قال ‘مورات’ بهدوء: “لقد رأيتَها إذاً. ستشهد صناعة الخمور في العاصمة فترةً لا بأس بها من الذعر والكساد، على أقل تقدير”.
أحكم ‘تاليس’ قبضتيه.
“سحقاً للأمير.”
“كل ما يفعله… له تأثيرٌ هائل، أتفهم؟”
لا يزال صدى صوت ‘داغوري’ يتردد في رأسه.
“ولكني لم أفعل شيئاً،” تمتم ‘تاليس’.
سخر ‘العراف الأسود’ منه: “في مستواك هذا، فإن عدم فعل أي شيء يمكن أن يُعتبر إيماءةً أيضاً. سواء كنت تقصد ذلك أم لا”.
قطب ‘تاليس’ جبينه بشدة.
“على الأقل احتسِ القليل، حتى لو كانت مجرد بضع رشفات.”
تذكر ما قالته له الأميرة ‘إليز’ يوم المأدبة.
“ولكني على استعداد للمراهنة، أنه بحلول الغد، ستشعر وكأن الجميع يراقبونك”.
‘الجميع يراقبونك…’
استنشق ‘تاليس’ نفساً عميقاً. ومن شدة عذابه، أنَّ من بين أسنان مشدودة: “لم يكن ينبغي عليهم… تفسير الأمر بتلك الطريقة”.
“لكنهم فعلوا ذلك بالضبط.”
بدا صوت ‘مورات’ وكأنه آتٍ من غرفة أخرى، لكنه لم يكن أقل نفاذاً. “وحقيقةُ أنك غادرت بلادك ورحلت إلى ‘أراضي الشمال’ لتعمل كرهينة طوال السنوات الست الماضية، محبوساً بين جدرانٍ عالية؟ سامحني على صراحتي، ولكن عليك أن تعتبر نفسك محظوظاً”.
‘محظوظ’.
كانت تعابير ‘تاليس’ قاتمة.
وبينما كانت أفكاره تتدفق، وصل ضيفٌ جديد إلى غرفة الاستجواب.
“الاسم.”
أمسك ‘رافاييل’ بالقلم، وقلب صفحةً جديدة في الوثيقة، ونظر ببرود إلى الرجل العجوز البدين ذي الأطراف الغليظة والملامح المرتبكة.
كان الوافد الجديد يحظى بمعاملة أفضل مما لاقاه ‘داغوري’. ورغم أنه أُحضر أيضاً ووجهه مغطى بغطاء، إلا أن العجوز لم يكن مقيداً بالأغلال، وكان قادراً على التحرك بحرية على كرسيه.
“جيلبورن. اسمي ‘جيلبورن’ يا سيدي.”
وعلى نقيض تاجر الخمر المتغطرس، كان العجوز الجالس مطيعاً بل ويحاول التملق قليلاً.
“‘جيلبورن فيلسون’. الجميع ينادونني ‘جيلبورن العجوز’ أو—‘جي بي العجوز’”.
بعيداً عن الأنظار، زمَّ ‘رافاييل’ شفتيه.
“إذاً، ‘جيلبورن فيلسون’، هل تعرف لِمَ أنت هنا؟”
أجبر ‘جيلبورن’ نفسه على الابتسام: “لأكون صادقاً، لا، ليس حقاً. هل لي أن أسأل مَن أنتم..”
“الشرطة،” أجاب ‘رافاييل’ على الفور دون أن يرفع بصره.
مقارنةً باستجوابه لتاجر الخمر سابقاً، كان رجل ‘العظم القاحل’ غير مبالٍ ومنعزلاً.
ذُهل العجوز لثانية.
“مستحيل.” ابتسم ‘جيلبورن العجوز’، ملوحاً بإصبعه نحو ‘رافاييل’. “لديَّ قريب يعمل في مركز الشرطة. أنا أعرف إجراءاتهم، وهي ليست هكذا على الإطلاق!”
رفع رجل ‘العظم القاحل’ بصره بجمود.
“لكن…”
نظر العجوز حوله، وبرقت في عينيه لمعة كأنه أدرك شيئاً فجأة. كان متحمساً وفضولياً في آنٍ واحد.
“أنا أعرف هذا الأسلوب في العمل،” قال ‘جيلبورن العجوز’ بتعابير غامضة تنم عن رضا ذاتي. انحنى فوق حافة الطاولة، مقترباً من ‘رافاييل’: “أنتم ‘قسم الاستخبارات السرية’! أليس كذلك؟”
بينما كان ينظر إلى العجوز الذي يغمز له، تغيرت تعابير ‘رافاييل’ قليلاً.
“لقد مررتُ بهذا. منذ زمن بعيد، حين وقعت جرائم قتل ‘مصاصي الدماء’ المتسلسلة في العاصمة.” هز ‘جيلبورن العجوز’ رأسه مبتسماً بتمثيلٍ واضح. “اندلع عراك في متجري بين شرطة حظر التجوال سيئة السمعة وعملاء من ‘قسم الاستخبارات السرية’…”
طرق.
ضرب ‘رافاييل’ الطاولة بخفة، مقاطعاً كلمات ‘جيلبورن’.
“أجل. أنت على حق.”
كانت عينا رجل ‘العظم القاحل’ عميقتين وغامضتين. انحنى نحو ‘جيلبورن العجوز’ وهمس وكأنه يروي قصة أشباح: “نحن ‘قسم الاستخبارات السرية’ للمملكة. نحن نعمل لصالح ‘العراف الأسود’”.
تجمدت ابتسامة العجوز على وجهه في لحظة.
على الجانب الآخر من الزجاج، قطب ‘تاليس’ جبينه والتفت نحو ‘مورات’، لكن العجوز الجالس في الكرسي المتحرك كان هادئاً كالصخر.
“ماذا؟”
بمواجهة نظرة ‘رافاييل’ الخبيثة، رمش ‘جيلبورن العجوز’ بذهول ونظر حول غرفة الاستجواب مرة أخرى.
“إذاً هو حقاً ‘قسم الاستخبارات السرية’؟ ذاك ‘قسم الاستخبارات السرية’؟”
وقعت نظرة ‘جيلبورن العجوز’ على بقعة دم حديثة على الطاولة. خطرت له فكرة جعلته يرتجف.
“أنتم.. لستم تمزحون؟”
نخر ‘رافاييل’ بازدراء.
‘قسم الاستخبارات السرية’ للمملكة. ‘العراف الأسود’.
القسم الذي يجب أن يستوفي حصة عشر قتلى كل يوم، و‘العراف الأسود’ الذي يستحم في دماء الأطفال كل ليلة…
مفكراً في الأساطير الغامضة المتنوعة، ضحك ‘جيلبورن’ بتوتر قبل أن ينكمش في كرسيه. ركزت عيناه على بقعة صغيرة على حافة الطاولة ولم يجرؤ على الزفير.
أولاً، أنا لم أعد طفلاً. لن أناسب ذوق ‘العراف الأسود’. وآمل أن أكون الشخص.. الحادي عشر هنا اليوم؟
عند هذه الفكرة، انفجر ‘جيلبورن’ بالبكاء.
“إذاً، ‘جيلبورن العجوز’، ماذا تعمل لكسب عيشك؟”
“ماذا.. أعمل؟”
كرر ‘جيلبورن’ السؤال بذهول في البداية. وبمجرد أن استجمع نفسه، تنحنح بصوت عالٍ وبدأ يرتجف بشكل واضح.
“أنا.. أنا أدير ورشة حدادة في ‘منطقة الغسق’. أفعل ذلك منذ سنوات، حـ.. حـ.. حـ.. حدادة”.
“حدادة؟”
ضحك ‘رافاييل’ بضع مرات. ارتجف الحداد العجوز على إيقاع ضحكته.
“سمعتُ أنك تلقيتَ طلب عمل ضخم هذا الصباح؟”
‘طلب عمل ضخم؟’
شحب وجه ‘جيلبورن العجوز’، لكنه سرعان ما كبت صدمته.
“أجل، أجل، أجل. طلب عمل. ليس ضخماً تماماً، مجرد طلب صغير…” وبتعابير كئيبة، حاول التلطف: “إحم، حسناً هو ليس صغيراً حقاً أيضاً، هيهي. متوسط أظن. متوسط، متوسط”.
رد ‘رافاييل’ بـ”هممم” عادية، ورفع القلم دون أن يرفع نظره: “أنت…”
“أقسم!”
تغيرت تعابير ‘جيلبورن العجوز’ فجأة وصرخ: “لم يسبق لي أبداً أن صهرتُ أي أسلحة محظورة!”
ذُهل ‘رافاييل’ من اندفاع الحداد المفاجئ.
“سيوف عسكرية، فؤوس عسكرية، مطارق عسكرية، خوذ ودروع قتالية، ركائب خيول حربية، دروع قتالية، أجزاء منجنيق، أجزاء ‘المدافع الغامضة’، سبائك ‘قطرة الكريستال’، سكاكين مطبخ أطول من نصف قدم، رؤوس رماح فولاذية، سهام قاتلة، لم أصنع أبداً—” انطلق سيل من الكلمات من فم ‘جيلبورن العجوز’ كطلقات الرصاص قبل أن يتوقف تماماً عند نهاية الجملة، “—أيَّ شيءٍ من ذلك!”
أنكر بيأس وعيناه متسعتان.
برؤية ‘جيلبورن العجوز’ المتوتر والمرتجف، وضع ‘رافاييل’ —الذي كان مستعداً لانتزاع اعتراف بالقوة— قلمه وظل صامتاً لفترة.
“يبدو أنك ملمٌّ جداً بـ.. المواد المحظورة؟”
ارتجف ‘جيلبورن العجوز’ مرة أخرى. أدرك شيئاً، وعلم أن الموقف يزداد سوءاً، فأجبر نفسه على الابتسام بيأس: “هيهي، أنا فقط مهتم بالقانون.. كما تعلم، القانون والنظام”.
نظر ‘رافاييل’ إلى الوثيقة ورفع قلمه مرة أخرى: “أنت…”
قاطعه ‘جيلبورن العجوز’ بهلع: “وبالتأكيد لم أبع لهم! قطعاً لا!”
فوجئ ‘رافاييل’ مرة أخرى، ووضع القلم مجدداً بشيء من الضيق.
“لهم؟”
تجمدت تعابير ‘جيلبورن’. نظر بعيداً، وحك ذقنه بارتباك، وتمتم بصوت خافت: “حسناً، إحم، أنت تعلم. هـ.. هم…”
أمسك ‘رافاييل’ بطرف الخيط. وضع القلم وأغلق الوثيقة، وأسند جسده كله للخلف وتهكم ببرود.
جعلت أفعال رجل ‘العظم القاحل’ الحداد يرتعد لا إرادياً. ولوّح بذراعيه صارخاً: “ولكن ولكن ولكنهم نبلاء! حتى لو لم تكن عائلاتهم تحمل ألقاب دوقات رسمية، فهم على الأقل أبناء مسؤولين حكوميين، لذا يجب أن يكون الأمر قانونياً…”
زفر ‘رافاييل’، وشبك ذراعيه، وضيق عينيه. جعل هذا ‘جيلبورن’ يصاب بالذعر مجدداً، فغير لهجته: “حتى لو لم يكن قانونياً، سيكون لديهم طرق للالتفاف عليه! لم يكن أمامي خيار سوى البيع لهم…”
أمال ‘رافاييل’ رأسه وقيم العجوز: “أنت…”
تغيرت تعابير ‘جيلبورن’ مرة أخرى، وصرخ بصوت عالٍ: “لقد استلمتُ عربوناً فقط!”
رفع يديه وصاح: “لم أسلم البضائع، ولم أصهر أي عينات، ولم أرسم النماذج ولم أطلب المواد الخام حتى!”
شرح ‘جيلبورن’ بتوتر بينما كان يسارع لإخراج ورقة مزخرفة من جيبه الداخلي: “انظر، هذا هو الطلب الكامل لهؤلاء الزبائن! كله!”
بذهول، نظر ‘رافاييل’ إلى استمارة الطلب التي كانت ترتجف في يد الحداد العجوز. هو لم.. يسأل عن أي شيء بعد؟
“حسناً.” أخذ رجل ‘العظم القاحل’ الورقة من العجوز بمشاعر مختلطة وشعور بالإحباط لا يعرفه سواه. “يبدو أنك أكثر انفتاحاً على النقاش من الشخص السابق”.
ربما يجب أن أعود وأبحث في خلفية هذا العجوز. لأرى ما إذا كان.. قريباً بعيداً لعائلة ‘كارابيان’؟
بعد تسليم الطلب، وبمظلمة محفورة على وجهه تقول “لقد ساهمت في مصلحة المملكة”، سأل ‘جيلبورن’ بحذر: “هذا ليس غير قانوني، أليس كذلك؟ حتى لو كان كذلك، فهل يمكن اعتبار هذا.. اعترافاً طوعياً؟”
نظر ‘رافاييل’ إلى الطلب وتفوه بـ”أوه هاه” عشوائية، مما أرعب ‘جيلبورن العجوز’ مجدداً.
“لنرى…”
بدأ ‘رافاييل’ يقرأ بصوت عالٍ لكي يسمعه الناس على الجانب الآخر من الزجاج: “فلان وفلان يضع بموجب هذا طلباً لسيف طويل بالمواصفات التالية: يجب أن يُعرف بأنه سيف نبلاء من النظرة الأولى؛ يجب أن يُصنع من مواد ممتازة؛ يجب أن يكون اللون رائعاً جداً؛ يجب أن يكون السيف لامعاً؛ يجب أن يكون من السهل صيانته؛ يجب أن يبدو ثقيلاً قدر الإمكان ولكنه خفيف قدر الإمكان؛ سيكون من الأفضل لو كان يبدو قديماً وعليه آثار تآكل، ليعلم الآخرون أنه قد استُخدم في المعارك كثيراً…”
على الجانب الآخر من الزجاج، قطب ‘تاليس’ جبينه.
تحت نظرة ‘جيلبورن’ القلقة والمتملقة، استمر رجل ‘العظم القاحل’ في قراءة السطر الأول من الطلب: “يجب أن يكون المقبض مريحاً؛ يجب أن يصدر صوتاً رنيناً عند التلويح به؛ يجب أن يكون موفراً للطاقة عند الهجوم والدفاع؛ يجب أن يعبر التصميم والأسلوب عن البطولة والفروسية، فضلاً عن الأناقة والصلابة، ويكون عصرياً وكلاسيكياً، رائعاً وبسيطاً، سهلاً وعميقاً؛ والأهم من ذلك، يجب أن يبدو حامله مذهلاً عند حمل السيف، مما يسمح للرسام بالتقاط هذا من جميع الزوايا…”
رفع ‘رافاييل’ بصره حائراً. ما هذا؟ هل هي تلك السيوف المقدسة التي لا تُقهر في روايات الفرسان التي تقتل السَّامِيّن والشياطين؟
“انظر، إحم.” فرك الحداد العجوز يديه معاً بارتباك وطأطأ رأسه، شاعراً بالإحراج: “بخصوص الطرف الأول”.
بتعابير غريبة، توقف ‘رافاييل’ عن قراءة الشروط الأخرى في الطلب.
“إذاً، هل تعرف ماذا يخططون لفعله بالمواد الموجودة في هذا الطلب؟”
مسح ‘جيلبورن العجوز’ بطنه.
“مهلاً، كما تعلم، هؤلاء الزبائن نبلاء. كيف لي أن—”
“هممم؟” نخر ‘رافاييل’ بازدراء.
“—أعرف، ولكني سمعتُ شيئاً بالصدفة!” بدا ‘جيلبورن العجوز’ جاداً وهو يغير لهجته في الوقت المناسب.
ضيق ‘رافاييل’ عينيه في وجهه.
“هم، هؤلاء الأبناء النبلاء الذين يطلبون الأسلحة واحداً تلو الآخر، معظمهم ذاهبون لـ..” توقف ‘جيلبورن العجوز’ وابتسم بتملق، “المبارزة”.
رغم أنه كان يتوقع ذلك جزئياً، إلا أن ‘تاليس’ شعر بضيق في صدره.
‘مبارزة،’ فكر ‘رافاييل’ وأومأ برأسه. “هل تعرف لِمَ؟”
بدا ‘جيلبورن العجوز’ منتشياً عند ذكر هذا: “لِمَ غير ذلك. بالطبع لأن دوق ‘بحيرة النجوم’ حكم في القضية ليلة أمس بحكمة وكان قادراً على هزيمة خاطف الرهائن في مبارزة زلزلت الأرض بمهاراته البارعة. لقد انتشر الخبر في جميع أنحاء العاصمة، لذا يتسابق الأبناء النبلاء الآن لـ..”
في تلك اللحظة، لم يسمع ‘تاليس’ سوى طنين في أذنه.
‘مبارزات. ولكن..’ ألم يوضح الأمر تماماً من أجل القضاء على التأثير؟ “بما أنك قررت.. التمتع بملاءمتها القاطعة، فعليك أن تتحمل ثمنها البربري والعتيق”.
‘ولكن لِمَ.. لِمَ لا يزال هناك البعض، البعض الذين..’
في تلك اللحظة، خاف ‘تاليس’ قليلاً من النظر إلى رد فعل ‘العراف الأسود’ بجانبه. أجبر نفسه على تحويل انتباهه مرة أخرى إلى غرفة الاستجواب.
“كان هناك أخوان من عائلة نبيلة قالا إنهما ينويان مبارزة والدهما، لأنه تجاهل مكانته في هرم العائلة وسرق حبيبتهما في المأدبة… أوه، انظر إلى ذلك…” برقت عينا ‘جيلبورن العجوز’ وهو ينم.
“لقد طلبا سيفين، وحددا أن المواد والتصميم يجب أن يكونا متطابقين كإشارة إلى العدالة، لأنهما أرادا مبارزة بعضهما البعض بعد قتل والدهما! هيهي فقلتُ، ماذا عن سيف والدكما؟ فطلبا سيفاً ثالثاً! هيهيهي، أغبياء، أليس كذلك…”
رفع ‘رافاييل’ بصره. غصَّ الحداد فجأة بكلماته.
“اسمع جيداً. نقص المواد، الفرن لا يسخن بشكل صحيح، المتدرب مضرب عن العمل،” لم يرتعش صوت ‘رافاييل’، “أو أنك وقعت في حب أرملة شابة رقيقة ومثيرة في الريف وتخطط لبيع المتجر والتقاعد والزواج منها…”
“هاه؟ رقيقة ومثيرة؟” كان ‘جيلبورن العجوز’ حائراً.
“أنت تعلم،” توقف ‘رافاييل’ وقال بلا تعابير، “الطرف الأول”.
تنحنح رجل ‘العظم القاحل’.
“لا يهمني أي عذر تستخدمه.” أعاد ‘رافاييل’ الطلب إلى ‘جيلبورن العجوز’ بلامبالاة: “أعد العربون وألغِ هذه الطلبات”.
ذُهل الحداد العجوز قليلاً: “إلغاء؟ هذا طلب ضخم جداً..”
تجاهله ‘رافاييل’، وأخرج وثيقة ووضعها أمام ‘جيلبورن’: “إذا لم تكن هناك مشكلات أخرى، ألقِ نظرة على اتفاقية السرية هذه، وقعها، ويمكنك الرحيل”.
ألقى ‘جيلبورن العجوز’ نظرة على الاتفاقية، وتلاعب بالطلب في يده، وقال بتردد: “لكن، ليس لدي سبب جيد لإلغاء الطلب في مثل هذا الوقت القصير…”
طاخ!
بحركة مفاجئة، أمسك ‘رافاييل’ بيد ‘جيلبورن’ وحدق فيه بنظرة ثاقبة: “في هذه الحالة، يمكن لف يديك بالضمادات لمدة شهرين وقول إن ذراعيك مكسورتان”.
كاد ‘جيلبورن’ يُجن من الرعب. لم يستطع فعل شيء سوى ترك رجل ‘العظم القاحل’ يمسك بمعصمه.
“اذهب إلى ‘وزارة المالية’ وأرهم الختم الموجود على هذه الاتفاقية،” قال ‘رافاييل’ بهدوء، “سيقوم شخص ما بتعويضك عن الخسائر والضمادات”.
شعر ‘جيلبورن العجوز’ بالمظلومية.
“لكن الأمر لن ينجح،” قام بمحاولة أخيرة للمجادلة، “أنا لسْتُ الحداد الوحيد في العاصمة—رغم أني الأفضل حقاً. هؤلاء الأبناء الصغار سيذهبون بالتأكيد إلى ورش أخرى. من الأفضل أن أصنع القليل من السيوف الرديئة والكلّة… آخ آخ آآآه برفق!”
وسط صرخات ‘جيلبورن العجوز’، أمسك ‘رافاييل’ بمعصمه بقوة وهدد: “إذاً، تريدنا أن ندفع تكاليف العلاج أيضاً، هاه؟”
أطلق ‘جيلبورن العجوز’ بضع نشيجات مكتومة، ورسم ابتسامة كانت أقبح من وجهه الباكي، وأمسك بالقلم ووقع الوثيقة بطاعة، معلناً دعمه الراسخ لقرار ‘قسم الاستخبارات السرية’.
“جيد.” ترك ‘رافاييل’ الحداد اللاهث.
“أسرع، لا يزال يتعين علينا تسليم الاتفاقيات لعدة أشخاص آخرين—إما ذلك، أو تكاليف العلاج،” قال رجل ‘العظم القاحل’ ببرود.
بينما كان يفرك معصمه ويبكي، تحرك ‘جيلبورن العجوز’ على الفور عندما سمع هذا: “آه، لا تنسوا الحداد ‘كراتشي’ في الشارع الجنوبي. أنا أذكر ذلك فقط من باب الاحتياط. هذا العجوز اللعين دنيء. أكثر من مرة صنع أسلحة محظورة لحثالة مثل ‘عصابة قارورة الدم’ و‘الأخوية’ على مدار العقد الماضي، بينما ينشر الأكاذيب بأن الأسلحة صهرتها أنا—لا تصدقوا أي شيء يقوله…”
نظرة ثاقبة أخرى من ‘رافاييل’ حشرت كلمات ‘جيلبورن العجوز’ مرة أخرى في فمه.
لم يستطع الحداد العجوز سوى أن يبرطم بينما استمر في توقيع صفحة تلو الأخرى: “حسناً فهمت. أنتم تحملون مسؤولية ثقيلة لقمع العرف الضار للمبارزة والحفاظ على النظام القانوني واستقرار المملكة. فهمت، فهمت… ولكن هذه الأمور ستُحل بمجرد القبض على المبارزين… لِمَ إزعاج صغار رجال الأعمال أمثالنا…”
“ترى، هنا تكمن المشكلة.” أشرف ‘رافاييل’ عليه للتأكد من توقيعه للاتفاقية كاملة، ونظر نحو الزجاج بشكل شبه متعمد: “إذا منعتهم المملكة صراحةً، فسيتم توجيه استيائهم وحقدهم نحو الأعلى”.
نظر ‘رافاييل’ إلى الحداد العجوز: “ولكن إذا قام مورد مثلك بالإلغاء لسبب ما…” ضيق عينيه واقترب من ‘جيلبورن العجوز’، “هل لديك اعتراض؟”
فهم ‘جيلبورن العجوز’ تلميحه. اهتز رأسه أسرع من الكير الذي لديه في منزله: “كلا، كلا…”
أنهى الحداد العجوز توقيع الاتفاقية وسلمها إلى ‘رافاييل’ بتذلل. فحص ‘رافاييل’ التوقيع، وطوى الورقة، وأشعل شمعة وختمها.
“جيد جداً. كمكافأة على تعاونك… للأشهر القليلة القادمة، سيكون لدى الجنود النظاميين للعائلة المالكة حاجة متزايدة للمعدات، وسيحتاجون حتى لتوظيف حدادين لصهر الأسلحة مباشرة. ستكون هناك دفعة كبيرة من الطلبات الجديدة”.
برقت عينا ‘جيلبورن’ برهبة.
“لكنها ستكون فقط للجيش وللأشخاص الذين يحملون هذه الاتفاقية.” ضيق ‘رافاييل’ عينيه ورفع الاتفاقية المختومة: “هل تفهم؟”
على الجانب الآخر من الزجاج، شاهد ‘تاليس’ في صمت بينما وُضع غطاء فوق رأس ‘جيلبورن العجوز’ المنتشي واقتيد الأخير خارج غرفة الاستجواب.
“أنا أعتذر.” بينما كان جالساً في كرسيه المتحرك، أمسك ‘مورات’ بكوب الشاي الخاص به وابتسم: “نادراً ما يتعامل ‘رافاييل’ مع مثل هذه الأمور الأساسية. هو ليس بارعاً جداً فيها. ولكن لا تقلق، سيكون لدينا شخص يتحدث مع الحرفي بعد ذلك ويتابع ‘صحته العقلية’ بانتظام لضمان أنه لن يحمل ضغينة ضدك بسبب هذا ولن يؤذيك بنشر الشائعات. أو… تسريب معلومات حول الطلبات التي يتم وضعها لأسلحة مبارزة متخصصة”.
برؤية ابتسامة ‘العراف الأسود’ الغامضة، شعر ‘تاليس’ بعدم الارتياح.
“اعتقدت أن نبلاء ‘الكوكبة’ سيزدرون أعراف ‘إيكستيد’،” اعترف الأمير بصعوبة وهو يحدق في بقعة على الزجاج.
وضع ‘مورات’ كوبه: “المبارزة كانت عرفاً قتالياً نشأ من ‘الإمبراطورية’ في المقام الأول. في تلك العصور القديمة، كانت تحمل روح الفروسية وتملأ الفراغ الذي لا تستطيع العدالة الوصول إليه”.
كان العجوز في الكرسي المتحرك رزيناً، كأنه غريب عن الأمر: “هل تعرف، من ‘الإمبراطورية’ إلى المملكة، كم قرناً قضاها أسلافنا، وكم من الدماء والمآسي مروا بها، وكم كان عليهم أن يضحوا—بما في ذلك حياة البشر— قبل أن يتم القضاء على هذه القواعد العتيقة والأعراف المبتذلة التي تم التخلص منها تدريجياً على مر السنين، والتي تتجاهل العدالة وتتسم بالبربرية؟”
كانت كلماته كالشفرة، تمزق ‘تاليس’ مراراً وتكراراً: “ولكن الآن، ما يراه الناس هو فقط أفعال *‘بولاريس’، التي يتهافتون لمحاكاتها. خاصة قصة استخدامك لحكمتك للهروب من الموت في ‘إيكستيد’ باسم المبارزة. بالإضافة إلى سحرك غير المسبوق الذي نال إعجاب عدد لا يحصى من الشبان والشابات ليلة أمس…”
*( اكرر نجم القطب او نجم الشمال)*
هز ‘العراف الأسود’ رأسه لكنه لم يستمر. ولكن هذا كان كافياً.
كان ‘تاليس’ بلا تعابير.
مبارزات. هل هذا ما جلبه لـ ‘الكوكبة’؟ إنقاذ ‘دي دي’ و‘أنكر’، ولكن في النهاية قتل… المزيد من الناس؟
“أياً كان الموقف، فإنك تحاول دائماً إيجاد حل يربح فيه الجميع، خياراً مثالياً، لتلبية توقعاتك العالية”.
ترددت كلمات الملك ‘كيسل’ في أذنيه: “من الأفضل ألا تثار أمواج وألا يحدث أي ضرر. تجنب القبح والتضحية التي لا ترغب في مواجهتها”.
رفع ‘تاليس’ يده اليسرى بقلب مثقل وحدق في الندبة الموجودة في كفه.
“ألم يمنحك القدر اللعين إجابة لعينة في كل مرة؟”
بينما كان ‘تاليس’ غارقاً في أفكاره ومشاعره، استقبلت غرفة الاستجواب ضيفاً ثالثاً.
هذه المرة، كان نبيلاً هو الذي دخل الغرفة. كان لباسه متواضعاً ولكنه كلاسيكي وبدا مرتاحاً ومتعجرفاً. استقر في كرسي. لم يكن مقيداً بالأغلال أيضاً. أظهر هالة هادئة وغير عادية. كان الأمر كما لو أنه هو المستجوب.
“أنا أعرف مَن أنت.” غير ‘رافاييل’ مرة أخرى طريقته في الاستجواب. كان استخدامه للكلمات موجزاً وواضحاً، ودخل مباشرة في صلب الموضوع: “وأعتقد أنك تعرف مَن نحن أيضاً”.
رفع النبيل الجالس عبر الطاولة بصره ببطء. لم ينظر حوله مثل ‘جيلبورن العجوز’، ولم يكن أحمقاً يرتدي جلد أسد مثل ‘داغوري’.
“بالطبع. أنتم ‘غسق الكوكبة’،” قال النبيل ببطء، “ولكن ما لم أكن أعرفه هو أنه في غياب أمر من الملك، يمتلك ‘قسم الاستخبارات السرية’ سلطة استجواب نبلاء المملكة سراً؟”
حدق مباشرة في ‘رافاييل’؛ كانت نظرته ثاقبة ومكثفة.
ابتسم ‘رافاييل’: “بالطبع لا، لذا هذا مجرد استفسار”.
لم يسأل رجل ‘العظم القاحل’ الرجل عن اسمه، لذا لم يكن لدى ‘تاليس’ طريقة لمعرفته.
“أرى ذلك،” سخر النبيل بمرارة، “يبدو أن رسالة الدعوة لاستفسارك هي غطاء وحبال؟”
لكن رجل ‘العظم القاحل’ الفصيح—الذي كان قادراً على الانخراط في معركة كلمات مع ‘تاليس’ وعدم الاستسلام— لم يركز على الدلالات اللفظية. من خلال أول استجوابين، كان من الواضح أن ‘رافاييل’ ماهر في تنويع أسلوبه ليناسب أشخاصاً مختلفين، وقد أتت هذه الطريقة بنتائج إيجابية.
“منذ أسبوعين، وصلتَ إلى ‘مدينة النجم الأبدي’ قادماً من ‘تلة حافة النصل’.” فتح ‘رافاييل’ ملف السجل بينما أصبحت نظرته ثاقبة بالقدر ذاته: “ومنذ أسبوع، طلبتَ أسلحة سراً من حداد يدعى ‘كراتشي’ في الشارع الجنوبي في ‘منطقة الغسق’؟”
نبيل من ‘تلة حافة النصل’، فكر ‘تاليس’ في نفسه.
تجمدت نظرة النبيل وظل صامتاً لفترة. لم يستعجله ‘رافاييل’. توتر الجو في غرفة الاستجواب.
أخيراً، سخر النبيل: “حتى المدنيين لديهم الحق في حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم أثناء السفر. والأكثر من ذلك أني نبيل في المملكة ولديَّ الحق في التسلح. هل من غير القانوني صهر سيف للدفاع عن نفسي؟”
ابتسم ‘رافاييل’ بلطف: “بالطبع لا. ولكن إما أنك من النخبة رفيعة المستوى، أو أن عدوك كذلك،” تهكم ‘رافاييل’، “وإلا فلن تحتاج لطلب ما يصل إلى… عشرين سيفاً طويلاً؟”
أصبحت نظرة النبيل من ‘تلة حافة النصل’ باردة.
“إذا كنت تريد اتهامي بالتمرد،” قال بهدوء، “فإن هذه الكمية من الأسلحة لن تكون دليلاً كافياً في ‘مدينة النجمة الأبدية’”.
استشعر ‘تاليس’، الذي كان يستمع للاستجواب، أن هذا الشخص ليس من السهل التعامل معه.
“أنا أعلم،” لا يزال صوت ‘رافاييل’ يبدو مرتاحاً. “إذاً ماذا تخطط لفعله بها؟ أو يجب أن أسأل، ماذا تخطط أن تفعل؟”
شد النبيل زوايا شفتيه وحدق في ‘رافاييل’. بدا وكأنه يخوض معركة ذهنية. بعد فترة تمتم: “بصفتك شخصاً من ‘قسم الاستخبارات السرية’، لِمَ تسأل وأنت تعرف الإجابة بالفعل؟”
ابتسم ‘رافاييل’: “ولكني أريد أن أسمعها منك”.
سخر النبيل من ‘تلة حافة النصل’ بغضب. التفت على الفور نحو الزجاج ونظر مباشرة إلى ‘تاليس’: “مَن خلف هذا الزجاج؟”
ذُهل ‘تاليس’. لكن ‘مورات’ بجانبه كان هادئاً كعادته ولم يتأثر تماماً.
يبدو أن النبيل لديه معرفة واسعة. ورغم أن النبيل كشف ألاعيبه، إلا أن ‘رافاييل’ ظل متماسكاً.
“بغض النظر عن هوية الشخص، أليس هذا هو بالضبط ما تريده؟ أن يراك ويسمعك المزيد من الناس؟”
قطب النبيل جبينه قليلاً. ابتسم ‘رافاييل’ وقام بإيماءة دعوة له براحة يده.
بعد عدة ثوانٍ، صرف النبيل نظره عن ‘تاليس’.
“نحن، بعض النبلاء من ‘تلة حافة النصل’، لأسباب مختلفة—بعد أن فقدنا الأرض أو السلطة أو المكانة— نخطط للقيام بشكل مشترك بـ…” توقف النبيل لفترة ووجد مصطلحاً مقبولاً، “مناشدة”.
أومأ ‘رافاييل’ برأسه: “مناشدة أين؟”
كانت تعابير النبيل صارمة. نطق باسم مكان: “‘قاعة مينديس’”.
ارتجفت جفون ‘تاليس’. مناشدة في.. ‘قاعة مينديس’؟ كلا. تذكر ‘أنكر’ في المأدبة وساء مزاجه.
“كم عدد الأشخاص؟” سأل ‘رافاييل’ بلا مبالاة.
“ثلاثة عشر،” أجاب النبيل بصراحة، “بارونات ولوردات وفرسان نبلاء وكثيرون غيرهم قادمون للانضمام. كل ذلك من أجل العدالة”.
العدالة. ضرب ثقل هذه الكلمة قلب ‘تاليس’ وتردد صدى فيه.
“إذاً، ما لا يقل عن ثلاثة عشر نبيلاً ومرافقيهم وخدمهم، مسلحين بالكامل، سيناشدون دوق ‘بحيرة النجوم’ بشكل مشترك.” تنهد ‘رافاييل’ بشيء من العجز: “في ذلك الوقت، إذا أصيب بعضهم بالهياج وتسببوا في فوضى، فحتى ضباط الشرطة في المحيط، و‘جيش جاديستار الخاص’، جنباً إلى جنب مع الحرس الملكي، لن يكونوا قادرين على قمع الأمور بهذه السهولة، أليس كذلك؟”
نظر إليه النبيل: “نحن نقصد فقط توضيح موقفنا. ليس لدينا نية لإيذاء أحد”.
ضحك ‘رافاييل’ وسأل: “لِمَ ‘قاعة مينديس’ وليس ‘قصر النهضة’ إذاً؟”
حدق النبيل فيه بتعابير عدائية.
“لأنكم تخططون لتقليد الأحمق من ليلة أمس،” قال ‘رافاييل’ ما يدور في ذهنه بصراحة، “من خلال البحث عن دوق ‘بحيرة النجوم’ والاستفادة من حقيقة أنه عاد لتوه وأنه غير خبير نسبياً. تخططون للذهاب إلى الاجتماع مسلحين. وإحداث ضجة”.
‘إحداث ضجة’. غامت عينا ‘تاليس’.
“بدون إراقة دماء، لن يستمع أحد… بدون عمل ضخم، لا يوجد مخرج… أولئك الذين لا يرغبون في إذلال أنفسهم سيتعين عليهم تجرع الكأس المرة.” “قل لي يا دوق تاليس… أي عقلانية هذه؟”
عادت عينا ‘أنكر’ الحزينتين والساخطتين عندما اقتحم المأدبة ليأخذ رهينة إلى ذهن ‘تاليس’.
“ليس تقليداً.” بدا النبيل وكأنه قد أُهين. “لقد خططنا لهذا قبل وقت طويل من ذلك الأحمق من ‘الصحراء الغربية’، وبشكل أكثر دقة”.
نخر ‘رافاييل’: “ولكن لا بد أنكم تشجعتم بسابقة، خاصة وأن ذلك الأحمق قد نجا. لذا عقدتم العزم على طرق باب الأمير ‘تاليس’ وإجباره على التعامل مع نوع المشاكل التي لا يمكن حلها إلا من قِبل جلالة الملك؟”
تشجعتم بسابقة… نوع المشاكل التي لا يمكن حلها إلا من قِبل جلالة الملك.
أحكم ‘تاليس’ قبضتيه بلاشعور، لكنه تذكر على الفور أن ‘العراف الأسود’ يراقبه، فاضطر لإرخاء قبضته.
“هو أيضاً من آل ‘جاديستار’.” أسند النبيل ظهره إلى الكرسي وتحدث بوضوح وبنبرة متثاقلة: “لقد كان رهينة في ‘أراضي الشمال’، وارتحل عبر الصحراء، ويحظى باحترام العديد من الأرستقراطيين البارزين بما في ذلك ‘الجمجمة ذات الأعين الأربعة’”.
“ليلة أمس، أظهر الحكمة والقوة، الشجاعة والفطنة، فضلاً عن روح الثورة في المملكة. كما أظهر اللطف والولاء، وسعة الأفق والكرم. لن يغض الطرف عنا”.
أومأ ‘رافاييل’ برأسه وهو يستمع، ثم تهكم: “وهكذا تردون أنتم، مجموعة الرعايا المخلصين، الجميل للأمير ‘تاليس’ الكريم. من خلال ‘زيارته’ في ‘قاعة مينديس’ بعشرين سيفاً؟”
رفع النبيل من ‘تلة حافة النصل’ بصره فجأة!
“هو ملكنا المستقبلي.” كان نبرته حازمة وكلماته ثقيلة، مما جعل ‘تاليس’ يشعر بضيق التنفس. “يمكنه تحمل ذلك”.
سكت ‘رافاييل’ لفترة لكنه لم ينظر نحو الزجاج. “ولكن ماذا لو لم يكن يريد ذلك، وليس من المناسب له التعامل مع شؤونكم المتعفنة والمعقدة للغاية والتي تتضمن مصالح العديد من الأطراف؟”
“إذاً هو لا يستحق أن يصبح ملكاً،” أجاب النبيل بحسم.
تهكم ‘رافاييل’: “أرى أنك لا تخشى التعبير عن آرائك”.
ضحك النبيل؛ وكانت ضحكته تقشعر لها الأبدان.
“هل ذهبتَ إلى ‘تلة حافة النصل’ أيها الشاب؟” نظر إلى ‘رافاييل’ بنظرة هجومية لا تلين: “إذا لم تكن قد ذهبتَ هناك، فتوقف عن الكلام. وإذا ذهبتَ هناك، فستعرف: نحن لا نخشى التعبير عن آرائنا”.
سكت ‘رافاييل’ لفترة. استشعر ‘تاليس’ أن رجل ‘العظم القاحل’ قد وقع في موقف ضعف.
بعد بضع ثوانٍ، تهكم ‘رافاييل’ بهدوء: “تبدو رجلاً حكيماً يا صاحب السعادة،” قال بأدب مع نبرات ثقيلة، “وأنت جالس هنا بالفعل. لا بد أنك تعرف ما يجب فعله؟”
التفت النبيل بعيداً، ونخر، وفكر لفترة. لكنه عاد في النهاية وقال بصوت عميق: “بالطبع. سأعود وأخبرهم بإلغاء هذه المناشدة والاحتجاج”.
برقت عينا ‘رافاييل’.
“جيد،” أغلق رجل ‘العظم القاحل’ الملف بسعادة، “لو كان الجميع عقلانيين مثلك، لما اضطررت لطلب أجر إضافي كل يوم”. وقف مستعداً لإنهاء الاستجواب—أو الاستفسار.
لكن النبيل أوقفه.
“ربما تكون قد فزتَ اليوم أيها الشاب.” رفع النبيل من ‘تلة حافة النصل’ بصره وحدق مباشرة في ‘رافاييل’. “ربما تكون قد أعقتنا.” جعلت كلماته المستمع يشعر بعدم الارتياح: “ولكن طالما لم يُحل أصل المشكلة، ولم يُشفَ مرض المملكة، فسيكون هناك المزيد من الناس مثلنا”.
المزيد من الناس مثلنا… استمر ‘تاليس’ في التنفس وهو في حالة ذهول.
“إذاً لا أمانع في رؤيتك مرات أخرى،” رد ‘رافاييل’ مصمماً على ألا يُهزم، “سواء كان ذلك هنا أو في قاعة المحكمة، أو..”
“في تابوت؟” انفجر النبيل ضاحكاً، ولكن تلك الضحكة تحولت على الفور إلى تحذير: “أيها العميل، هل تعتقد أن هذا هو الحل؟”
حدق ببرود في ‘رافاييل’: “أمثالنا لم يُدفعوا بعد إلى الزاوية. لدينا عائلات وأعمال، لذا لدينا مخاوف. من أجل الصورة الكبيرة وسبل عيشنا، لا يزال بإمكاننا الابتسام والتحمل عندما نواجه الظلم.. ولكن ماذا عن ‘أنكر بايرل’ القادم؟ الشخص القادم الذي يقترب من الأمير ‘تاليس’ فقط لحل هذه المشاكل؟”
‘أنكر بايرل’ القادم. أغمض ‘تاليس’ عينيه.
هز النبيل من ‘تلة حافة النصل’ رأسه بازدراء: “فقط انتظر وسترى. أسلوبك اليوم ليس الحل النهائي. حتى ‘العراف الأسود’ لا يمكنه حل هذا”. ركزت عيناه وكان نبرته حازمة: “شخص واحد فقط يمكنه ذلك”.
ورغم أنه لم يكن في غرفة الاستجواب الرئيسية، إلا أن ‘تاليس’ شعر وكأنه على وشك الاختناق بمجرد الاستماع.
أجبر ‘رافاييل’ نفسه على الابتسام: “إذاً سأحرص على أن يعلم بذلك”.
“أجل.” نظر إليه النبيل بنظرة عميقة: “من الأفضل أن تفعل”.
نهض النبيل وترك الرجلين الضخمين يضعان غطاءً فوق رأسه دون مقاومة. بدأ الجو في غرفة الاستجواب يشعر بضغط أقل.
“رافقتك السلامة يا صاحب السعادة. نراك في المرة القادمة!” ودّع ‘رافاييل’ النبيل بابتسامة. وأخيراً زفر وتمتم بهدوء بحيث لا يسمعه أحد سواه: “آمل ألا يحدث ذلك”.
على الجانب الآخر من الزجاج، انفصل ‘تاليس’ عن مشاعره المختلطة.
“هو على حق يا لورد هانسن،” أجبر نفسه على الكلام، “حتى لو لم أقف ليلة أمس، ولم أستجب مباشرة لـ ‘أنكر بايرل’”.
نظر إليه ‘العراف الأسود’ باهتمام.
“عاجلاً أم آجلاً، ستنشأ مثل هذه الحوادث. وهويتي لا بد أن تجذب مثل هذا الحادث مرة أخرى”. شد ‘تاليس’ على أسنانه: “هذا.. ليس له علاقة بأفعالي ليلة أمس”.
استنشق ‘مورات’ نفساً عميقاً وتحمل نوبة أخرى من الحركة الغريبة للكروم على حجره.
“ربما أنت على حق، وبالتأكيد يمكنك إقناع نفسك بهذه الطريقة، لتبرير أفعالك ليلة أمس وإراحة ضميرك.” أغمض ‘العراف الأسود’ عينيه. إذا تجاهلت الجزء السفلي من جسده، فإنه يبدو كرجل عجوز عادي يريح عينيه. “ولكنك تعلم أن ما أردتُ أن تراه لم يكن هذا”.
رفع ‘تاليس’ بصره فجأة!
“رافاييل!” صرخ بصوت عالٍ. وصل صوته إلى الطرف الآخر من غرفة الاستجواب.
التفت ‘رافاييل’ بهدوء وانحنى في اتجاه الزجاج، في اتجاه النبلاء الذين لا يستطيع رؤيتهم.
“كم عددهم؟” كان تنفس ‘تاليس’ مضطرباً. أحكم قبضتيه وسأل بصوت عالٍ من بين أسنان مشدودة: “الحالات المماثلة الأخرى المرتبطة بأفعالي ليلة أمس وعودتي.. كم عددهم؟”
لم يُجب ‘رافاييل’ على الفور، بل اكتفى بالصمت وانحنى مرة أخرى تجاه المرآة.
حتى أدرك ‘تاليس’: إنه ينتظر الإذن من رئيس الاستخبارات.
ولكن بجانب ‘تاليس’، لم يقل ‘النبي الأسود’ شيئاً.
‘رافاييل. إنه لا يتبع أوامر الأمير.’
اعتمل غضبٌ لا يفسر فجأة في صدر ‘تاليس’، وانفجر في قلبه المكتئب بالفعل. بل إنه أثار “خطيئة نهر الجحيم”—ذلك الوحش الضاري الذي بدأ ينهش داخل عروقه مرة أخرى. جعل هذا الأمير يشعر بقوة لا تُصدق وغضب لا حد له، ولكن بلا مكان لتصريفه، فلم يسعه إلا إجبار نفسه على كبحه.
“‘رافاييل’،” حاول دوق ‘بحيرة النجوم’ جاهداً تجاهل حالته المزرية وأمر ببرود: “أجبـ..ـني”.
بعد عدة ثوانٍ، وربما لأنه استشعر استياء الدوق، أو ربما لأنه فهم المعنى وراء صمت ‘مورات’، أجاب ‘رافاييل’ بهدوء: “الكثير. اليوم فقط، اكتشف ‘المؤخرات’ أربع حالات أخرى”.
‘المؤخرات’
مؤخرات الأمير.
شعر ‘تاليس’ أن أصابعه على وشك الانكسار من شدة إحكام قبضتيه.
لكن ‘رافاييل’ استمر: “على سبيل المثال، قد يشهد عدد النبلاء المتقدمين بطلبات ليصبحوا ضباط شرطة في العاصمة ارتفاعاً ملحوظاً، لأن الضابط ‘كارابيان’ كان أول من استقبلك، والضابطة المسؤولة عن احتياجاتك اليومية كانت أيضاً ضابطة شرطة…”
“مثال ثانٍ، سيزداد عدد أعضاء ‘جمعية تجارة الزجاج’ بشكل حاد. سيكون هناك تدفق كبير للأموال وتقلبات في السوق ستتجاوز التقديرات. ومهما شرح البارون ‘كوينتين’ بجهد أن حادثة تحطيم الزجاج ليلة أمس ليست قاعدة ملكية جديدة، فستظل مسألة يضطر المعلم ‘كيركيرك مان’ والفايكونت ‘كيني’ للمعاناة منها…”
“مثال ثالث، سيتم رفع مستوى الأمن في المآدب التي تُقام في العاصمة إلى أعلى مستوى، بغض النظر عن العائلة التي تقيم المأدبة، لأن أفعالك ليلة أمس شجعت الجميع موضوعياً على إحضار سلاح إلى المآدب لتسوية أي مظالم لديهم. بل قد يحصلون على بعض الاستجابة والتعاطف من خلال القيام بذلك…”
كان ‘تاليس’ يجد صعوبة متزايدة في التنفس مع كل كلمة ينطق بها ‘رافاييل’.
“وهذا الصباح.”
كانت كلمات ‘رافاييل’ هادئة ورزينة، وكان مسترخياً كعادته، ولكن لسبب ما بدت الكلمات قاسية على مسامع ‘تاليس’.
“وقعت جريمة قتل جديدة في ضواحي ‘مدينة النجم الأبدي’.”
جريمة قتل. شعر ‘تاليس’ بصدمة.
“وفقاً للتحقيقات الأولية التي أجرتها الشرطة: المتوفى كان تاجر محاصيل زراعية، والقاتل مزارع يعمل في الحقل. اعترف الأخير بالجريمة دون إنكار. لا بد أنها كانت جريمة دافعها الانفعال اللحظي”.
كتم ‘تاليس’ الانزعاج الذي شعر به في جسده كله، وسأل بصعوبة بالغة: “لماذا؟”
تردد ‘رافاييل’ لفترة وكأنه يبحث عن الصياغة الصحيحة. حتى سعل ‘العراف الأسود’ ببطء.
تنهد ‘رافاييل’ بهدوء: “قال شاهد عيان إن تاجر المحاصيل، أي المتوفى، أجرى محادثة مع القاتل قبل الحادثة. لقد غير رأيه في اللحظة الأخيرة وأراد رفع سعر بذور ‘الخس’، التي اتفقا عليها مسبقاً… بمقدار عشرين ضعفاً”.
ذُهل ‘تاليس’.
‘الخس’. زيادة السعر. لا. كلا…
في لحظة، استولى ذهول وارتباك لا يوصفان على جسده وعقله.
“يُقال إن المزارع كان فقيراً بالفعل ويعمل بجد لإعالة أسرته وتأمين لقمة العيش. لذا انهار وتصرف باندفاع، لدرجة أن الطرف الآخر أصيب بجروح قاتلة…”
بدا صوت ‘رافاييل’ وكأنه آتٍ من قاع بحيرة، متموجاً ولكنه حيوي.
“ووفقاً للشهود، فإن السبب في طلب المتوفى زيادة مفاجئة في السعر هو أن…”
“الأمير يحبها.”
تلاشى صوته. انتفض ‘تاليس’ بعنف!
“الأمير يحبها.”
في تلك اللحظة، بدا أن كل الغضب والاستياء قد أدركا عبثية وجودهما واختفيا من حواسه.
“الأمير يحبها.”
حتى ‘رافاييل’، و‘العراف الأسود’، وحفيف الكروم ذات العروق السوداء، وغرفة الاستجواب بأكملها، اختفوا جميعاً. ولم يبقَ وراءهم سوى شعور بالفراغ والضياع والحزن.
ونفسه.
“الأمير يحبها.”
أغمض ‘تاليس’ عينيه في ذهول، وأسند جسده إلى الجدار خلفه، وأمال رأسه ببطء إلى الوراء.
ولكن في تلك اللحظة، لم يشعر الشاب وكأنه يستند إلى جدار… بل بدلاً من ذلك إلى هاوية سحيقة، بلا قاع، وبلا حواف.
“الأمير يحبها.”
مظلمة ومكتئبة. باردة وميتة في صمتها. خانقة.
“الأمير يحبها.”
*( انا متأكد ان السوق سيشهد ارتفاع في اسعار البيض والفاصولياء بعد ما سمع احد الخدم ان الامير كان يضرط كثيرا)*
إن أعجبتكم الترجمة، أتمنى منكم دعمي بالدعاء لأهلنا وإخواننا في فلسطين والسودان، جزاكم الله خيرًا.
تمت ترجمته بواسطة اليد المتبخرة RK
✨ عضوية مميزة في فضاء الروايات ✨
🚫📢 تخلّص من الإعلانات المزعجة
💖 استمتع بتجربة قراءة سلسة ومميزات حصرية مقابل مبلغ رمزي
📌 ملاحظة: أرسل اسمك في الموقع عند الدفع ليتم تفعيل العضوية ✅
جميع ما يتم ترجمته في الفصول منسوب إلى المؤلفين، ونحن بريئون من أي معانٍ تخالف العقيدة أو معانٍ كفرية وشركية.
هذا مجرد محتوى ترفيهي فلا تدعه يؤثر عليك أو يلهيك عن دينك.
استغفر اللـه وأتوب إليه.