سلالة المملكة - الفصل 578
📏 حجم الخط
✍️ نوع الخط
🎨 الخلفية
🖥️ عرض النص
دعم سلالة المملكة لزيادة تنزيل الفصول :
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
الفصل578: تاجر الخمر
عملية دم التنين.
قطب ‘تاليس’ جبينه، مجتهداً في نسيان الغصّة التي خلفها كدر تلك الليلة الاستثنائية.
نقل بصره نحو ‘مورات’ المستغرق في لُجّة أفكاره، بيد أنَّ خيال الأمير ‘ميدير’ —الذي لم تقع عيناه عليه قط— لم يبرح باله.
كان من العسير عليه أن يتصور كيف لمرءٍ كبّله الكرسي المتحرك، وأغدق عليه ‘جيلبرت’ و‘جينز’ بل وحتى ‘العراف الأسود’ صنوف الثناء، أن يمتلك تلك القدرة على حبك الدسائس بيسرٍ وتؤدة، ليقلب موازين اللعبة رأساً على عقب في مملكة التنين العظيم.
بيد أنَّ ‘تاليس’ استذكر حينها الجرار الحجرية الراقدة في ‘ضريح الكوكبة’.
فحتى وهو أميرٌ ووريثٌ للعرش، لم يملك لنفسه نجاةً ولا خلاصاً.
في تلك اللحظة، ومن الطرف الآخر لغرفة الاستجواب، اندفع البابُ مفتوحاً.
انتبه ‘تاليس’ من غفلته؛ وإذا برجلٍ مزدان بفاخر الثياب، قد قُيد بالأصفاد ووُضع على رأسه قناعٌ أسود يحجب الرؤيا، يُساق قسراً بيد رجلين غليظي القوام ليمثل أمام ‘رافاييل’.
“أياً كنتم وأياً كان مأربكم، فالأمرُ شورى بيننا، وللكلام وجوه…” كان الرجل في حالٍ مزرية وهو يتعثر في خطاه، بيد أنه لم يكفّ عن محاولة استمالة آسريه.
غير أنَّ الغلظة كانت شيمة الرجلين؛ إذ أجلساه عنوةً على مقعد، وأحكما ربط السلاسل المتصلة بأصفاده في حلقةٍ حديدية مثبتة بالطاولة، دون أن يزيحا القناع عن وجهه.
“مَن هذا؟” تساءل ‘تاليس’ في نجوى خفيضة.
فأشار إليه ‘مورات’ بسبّابته أن يصبر ويتمهل.
انصرف الحراس دون التفاتةٍ واحدة، فلم يبقَ في الحجرة سوى أنفاس الرجل المتلاحقة وجلاً.
إلى أن دنا منه ‘رافاييل’ من خلفه بخطواتٍ نذيرة، وانتزع القناع الأسود عن رأسه بغتة.
وحين باغت الضياءُ عينيه، أخذ السجين يرمش بعينيه ويطأطئ رأسه في ذلّةٍ بادية، فما استردّ رشده إلا بعد لأي.
رفع بصره نحو الشخص الوحيد الذي يشاركه الحجرة، ‘رافاييل’.
“أين أنا؟ ومَن تكون أنت؟”
كان الرجل في مقتبل الكهولة، أشعث الشعر، وعلى وجهه كدمةٌ تنطق بما لقيه من سوء المعاملة قبل وصوله.
“لا يهم…”
لما عاد إليه بصره، سكن روعه قليلاً، فأخذ يتفرس في جنبات المكان ثم تنحنح قائلاً: “لكني أنصحكم مخلصين أن تُخلوا سبيلي— قبل أن تعصف الرياح بما لا تشتهي السفن. فإني حوتٌ عظيم، وأكبر من أن تبتلعه شباككم”.
لم يحرك ‘رافاييل’ ساكناً، بل جلس قبالته يرمقه بعينين حمراوين يقطران برداً.
قهقه الرجل في سخريّة، وجذب أصفاده فحدث للسلاسل قعقعة.
“هاه، يبدو أنكم عصابةٌ ذات شأن… قل لي يا صاح، أأنتم ‘عصابة قارورة الدم’ أم ‘الأخوية’؟”
نظر ‘تاليس’ إلى ‘العراف الأسود’ في حيرة، بيد أنَّ الأخير ظلّ واجماً كالصخر، غير آبهٍ بمجريات الاستجواب.
وعلى الرغم من حاله البائسة، بدأ السجين يستجمع رباطة جأشه وتحدث بنبرةٍ ملؤها الثقة: “إن كنتم من ‘عصابة قارورة الدم’، فأنا خليلٌ قديم لـ ‘كاثرين’، كانت بيننا مودةٌ منذ أيامنا في ‘تلال الساحل الجنوبي’، ولم تكن مودةً عابرة، هيه هيه…”
*( احا كاثرين؟؟!)*
ظل ‘رافاييل’ صامتاً، فخبتت ابتسامة الرجل قليلاً.
“وإن كانت ‘الأخوية’ هي مآلكم…” أرجع السجين رأسه إلى الوراء وهو يفرقع بلسانه: “فذاك خيرٌ وأبقى. فإني أعرف ‘سينزا’، وهو رجلٌ شهمٌ خاض غمار الحروب، وأعرف ‘ألفا لوزان’، ذاك الذئب الذي عرفته منذ كان يطوف بضاعته في السكك، وكدنا نكون شركاء في التجارة، ولي أيضاً مع ‘موريس السمين’ شؤون…”
بيد أنَّ رجل ‘العظام القاحلة’ بدا عازماً على الصمت، وعيناه مسمرتان في وجه الرجل.
“وإن لم يكن هذا ولا ذاك…” تبدلت سحنة الرجل وهو يمعن الفكر: “فهذا يعني أنكم قصدتموني بعيني”.
اعتدل السجين في جلسته وواجه نظرات ‘رافاييل’ بوقارٍ مصطنع: “لمَن تعملون؟ دعني أحزر؛ أهي ‘جمعية تجارة العطور’؟ أم ‘اتحاد النجاريين’؟ أم لعلكم من أتباع نبيلٍ أساء الفهم؟ أو ربما قطاع طرقٍ من الرعاع الأغبياء؟”
بيد أنَّ خاطراً طرأ على باله فتبدلت نظراته: “أدركتُ الآن. هل استأجركم أولئك الرعاع الذين يعملون تحت إمرتي؟”
اتكأ بظهره وضحك بملء فيه.
“ظنوا أنهم بهذا الفعل سيبلغون… حسناً، اسمعوني جيداً، إنَّ من استأجروكم فقراء كفقر سدنة المعابد المهجورة لـ السامين. فأي مبلغٍ بذلوه لكم، مائةً أو مائتين، ألفاً أو ألفين، فإني باذلٌ لكم ضعفيه”.
رفع الرجل يديه بلا مبالاة وأشار إلى ‘رافاييل’ وهو يحرك أصفاده.
لم يتزحزح ‘رافاييل’.
قطب الرجل جبينه.
“إن لم يكن المالُ غايتكم، وكان فعلكم هذا صنيعاً لقرابةٍ أو وفاءً لعهد، فاسمح لي أن أسدي إليك نصيحة: إنَّ الأمر لا يستحق، فقد تنفعهم ولكنك ستوبق نفسك…”
وعلى الرغم من الموقف العصيب، كانت نبرة الاستعلاء المعهودة لا تفارق صوته.
“كلا،” قاطعه ‘رافاييل’ بصوتٍ عدائي: “ليس هذا سطواً من عصابة، ولا ثأراً لأسرة، ولا هو بعملٍ مأجور من أجل حفنة من الدراهم”.
وضع رجل ‘العظام القاحلة’ يديه على الطاولة وانحنى للأمام، وهو يفرس السجين بنظراته: “نحن خدام المملكة”.
صُعق السجين بهذا الجواب الذي لم يحسب له حساباً.
“خدام المملكة…”
تمتم الرجل بالعبارة مراراً، ثم انفجر ضاحكاً بقهقهةٍ نابعة من أعماقه.
“من قِبل الدولة؟ حسنٌ جداً. قد لا تعلم، ولكني أكثر مواطني هذه المملكة امتثالاً للقانون، ومن كبار دافعي الضرائب. فأين نحن؟ وفي أي مركزٍ للشرطة؟ أأنت ضابطٌ بزيٍ مدني؟ ما اسمك؟ وأين تعمل؟”
استرخى تماماً وأمال رأسه يتفرس في ‘رافاييل’، ثم ضحك بارتياب: “والأهم من ذلك كله، مَن هو سيدك؟”
ظل وجه ‘رافاييل’ جامداً كالقناع: “لن تسرَّك رؤية سيدي”.
على الجانب الآخر من الزجاج، لم يملك ‘تاليس’ إلا أن يختلس النظر إلى ‘مورات’.
ضيق الرجل عينيه، وفاضت منهما نظراتُ المكر: “أوه، المرءُ لا يدري ما تخبئه له الأيام”.
اختلجت شفتا ‘رافاييل’، وتجاهل الرجل فاتحاً إضبارة من الوثائق كانت أمامه: “اسمك؟”
بعد أن استنبط هوية خصمه، صار الرجل في دعةٍ من أمره، واستهان بسؤال رجل ‘العظام القاحلة’: “لي صحبةٌ كُثر في سلك الشرطة، وأسماءٌ لها وزنها؛ فمدير مركز شرطة ‘المدينة الغربية’ الفعلي، اللورد ‘لوربيك ديرا’…”
تنهد ‘رافاييل’ تنهيدةً عميقة.
أغلق رجل ‘العظام القاحلة’ الملفات في صمتٍ ونحّاها عن الطاولة بنظام، ثم أعاد السؤال بصوتٍ جهوري: “الاسم؟”
هز الرجل رأسه: “أنا أيضاً المدير الفخري لـ ‘جمعية تجار الخمور في الإقليم المركزي’…”
وفي لمح البصر، لمعت يد ‘رافاييل’ اليسرى خاطفةً!
قبض على السلسلة التي تربط الرجل بالطاولة وجذبها بقوةٍ هائلة.
طاخ!
كان السجين قد اعتاد حياة الرخاء والنعيم، فلم يسعفه رد فعله، فجُذب من مقعده فاصطدم خصره بحافة الطاولة، ثم هوى أنفه على سطحها الخشبي.
أطلق الرجل عواءً من الألم، وسال الدم من منخريه.
حاول النهوض، لكن ‘رافاييل’ قبض على شعره وضغط رأسه بقوةٍ فوق الطاولة.
“الاسم”.
ابتسم ‘رافاييل’ ابتسامةً ملؤها الرضا.
تخبط الرجل، وقد التوت ملامحه فزعاً: “أيها اللعين الصغير، كيف تجرؤ—”
سحب ‘رافاييل’ رأس الرجل إلى الوراء، ثم صوبه نحو الطاولة وهوى بوجهه عليها مرة أخرى.
طاخ!
بدأ الرجل يرتجف ويئن من خلف أسنانه المصطفة.
“الاسم”.
وما زالت الابتسامة ترتسم على ثغر ‘رافاييل’.
كان الرجل يشهق بدموعه ووجهه مخضبٌ بالحمرة، لكنه كان أكثر صلابةً مما هو متوقع: “أنا أعلم هذا المنهج؛ تبدأ بأسئلةٍ يسيرة، ليألف المجرم الإجابة…”
وقبل أن يتمم قوله، أمال ‘رافاييل’ رأس الرجل وضغط أنفه الدامي على سطح الطاولة، يسحقه ذهاباً وإياباً.
أصدر الرجل أصواتاً مكتومة تقشعر لها الأبدان.
عند رؤية ذلك، قطب ‘تاليس’ جبينه، بينما أطلق ‘العراف الأسود’ ضحكةً منخفضة، جعلت العروق السوداء على حجره تهتز.
نطق ‘رافاييل’ كلمته التالية بنبرةٍ هادئة، كأنها همسُ عشيق: “الاسسسسسم…”
لكن جواب الرجل اختلف هذه المرة.
“آه، سحقاً سحقاً! ‘موس’! ‘موس’!”
وتحت وطأة الألم المبرح، أطلق الرجل الشتائم وهو يجيب بوضوح: “‘داغوري موس’!”
ثم أردف وهو يئن محتجاً: “ارفق بي! لِمَ كل هذه الجدية؟ هل يدفعون لك أجراً إضافياً على هذا التعذيب؟!”
افتر ثغر ‘رافاييل’ عن ابتسامةٍ غامضة، وبدا رجل ‘العظم القاحل’ شريراً في تلك اللحظة.
أرخى قبضته، فاستطاع السجين المدعو ‘داغوري’ أن يعود إلى مقعده، ممسكاً بأنفه وهو يلهث ألماً ويولول: “Fuck! سحقاً لك!”
أمسك ‘رافاييل’ بالوثائق مجدداً، لكنه حين رأى بقعة الأخلاط اللزجة على الطاولة —مزيجاً من الدم والمخاط والدموع— انقبض وجهه.
زحزح مقعده ووضع الوثائق في زاويةٍ قصيّة من الطاولة: “ما هي مهنتك؟”
أجابه ‘داغوري’ وهو يغطي أنفه بنظرةٍ قاتلة: “وأنت ما مهنتك؟ أأنت موظفٌ مؤقت جديد؟ هيه، انتظر انتظر—”
تبدلت سحنة ‘داغوري’ وهو يستوقف ‘رافاييل’ مسرعاً حين رآه يشرع في جذب السلسلة مرة أخرى.
“أجبني.” قالها رجل ‘العظم القاحل’ وهو يبتسم بابتهاج، ويهز السلسلة شبه المشدودة في يده: “أو ستضطر للإجابة رغماً عنك”.
تفرس ‘داغوري’ في ‘رافاييل’ وأذعن لنظراته أخيراً.
“الخمر،” زفر السجين كأنما يسلم لقدره وأجاب بوضوح.
“أنا تاجر خمر. أصنع الخمر وأبيعه— أبيعه في العاصمة. وكثيرٌ من زبائني من كبار المسؤولين والنبلاء…”
بلع ‘داغوري’ ريقه وعيناه لا تفارقان السلسلة في يد ‘رافاييل’: “تعلم يا صاح، أنَّ تجاوز الصلاحيات وإساءة استخدام السلطة قد يمر مرور الكرام، ولكن إن أراد شخصٌ من داخل المنظومة الكيد لك، فستكون تلك أسباباً وجيهة لطرده من الوظيفة العامة…”
“سيد ‘موس’.” تجاهله ‘رافاييل’ تماماً وفتح الملف: “كثيرٌ من البساتين، والمصانع، والمستودعات والمتاجر المسجلة باسمك، بما في ذلك العقارات المرتبطة بها، قد أُغلقت مؤخراً؟”
انتقلت عينا ‘داغوري’ نحو الوثيقة ليرى ما فيها، لكن حين رفع ‘رافاييل’ بصره، أشاح الرجل بوجهه مسرعاً.
“إن كنت تنقب عن خللٍ في ضرائبي، فخيرٌ لك أن تكفّ”.
تنحنح ‘داغوري’ وقد عاد إلى منطقته المعهودة، فاستردّ سلاسته ودهاءه: “إنَّ دار البلدية، والشرطة، ووزارة المالية، وفريق دفاع المدينة، ووزارة المعايير الأخلاقية، وجميع الدوائر في العاصمة، يمكنهم أن يشهدوا أني مواطنٌ صالح ممتثل للقانون، ومتبرعٌ سخي لصناديق إصلاح البنية التحتية. وإن وصل الأمر إلى المحاكمة، فسأستأجر أمهر المحامين، وسيهبّ كثيرٌ من النبلاء والمسؤولين للتزكية والشهادة لصالحي. بل الحقيقة أني لم أدفع ضرائبي كاملةً فحسب، بل دفعتُ أكثر بكثير. أنت تدرك ما أعنيه بكلمة أكثر”.
رمق ‘رافاييل’ بابتسامةٍ فيها مكرٌ وعجرفة— وللأسف، فإنَّ أنفه المهشم والمخضب بالحمرة أفسد مظهر الوقار ذاك.
جذب ‘رافاييل’ السلسلة مجدداً: “إذاً يا سيد ‘موس’، لِمَ أغلقت كل تلك المصانع والمتاجر في الأسابيع الأخيرة وسرحت عدداً غفيراً من العمال؟”
نظر ‘داغوري’ إلى السلسلة وقد امتقع لونه: “حسناً، لنتحدث بكياسة— أنا رجل أعمال. وما هي أسباب الإغلاق غير كساد السوق؟ كان الأمرُ لضعف الأحوال التجارية لا غير”.
رفع ‘رافاييل’ نظره إليه.
“ولكنك من كبار تجار الخمر في ‘الإقليم المركزي’، والمورد الرئيس لخمور مآدب العائلات النبيلة”.
رفع ‘داغوري’ حاجبيه وضحك بجرأة: “هاه، أنت إذاً على درايةٍ بالأمر”.
استمر ‘رافاييل’ في تجاهله: “إذاً، أولئك الذين يعملون في مصانعك وعقاراتك— من فلاحين، وعمال، وحرفيين، وموظفين— فضلاً عن الشركاء المستثمرين، وتجار المواد الخام في سلسلة الإنتاج، والموزعين وتجار التجزئة، الذين يبلغ عددهم المئات…”
حدق ‘رافاييل’ في ‘داغوري’: “إنهم يعتزمون تقديم شكوى جماعية وسوقك إلى ساحة القضاء”.
تبدلت تعابير تاجر الخمر من الحنق إلى الازدراء.
“هاه، كنت أعلم”.
كانت نظرته حادة وهو يبصق في احتقار: “أولئك الأوغاد. رعاعٌ ناكرون للجميل…”
على الجانب الآخر من الزجاج، نظر ‘تاليس’ إلى ‘العراف الأسود’ مقطباً: “هذا الرجل تاجرٌ قديمٌ ومكار. لكني لا أفهم لِمَ أنا هنا لأرى هذا؟”
أجابه ‘مورات’ بصوتٍ خفيض وهو يضع إصبعاً على شفتيه: “على رسلك يا صاحب السمو؛ فبعض الأمور قد تبدو صغيرة، لكنها تكشف عما هو أعظم. وبعض الشخوص قد يبدون تافهين، لكنهم قد يكونون حلقة الوصل في صورةٍ كبرى”.
بُهت ‘تاليس’ من قوله.
وفي الطرف الآخر، ابتسم ‘رافاييل’ قليلاً: “إذاً يا سيد ‘موس’، هل تدرك لِمَ يقاضونك؟”
“لِمَ؟”
بدا أنَّ ‘داغوري’ قد استعاد ثقته بنفسه.
“تعلم أنَّ سوق الخمر قد أصابه الوهن مؤخراً، فقلّت المبيعات، وواجهتُ بعض الصعوبات في تدفق السيولة. وبناءً على تقدير التكاليف، كان عليّ أن أحول أصلي وأتخذ قراراً صعباً— ولم يكن إغلاق بعض المصانع إلا واحداً من تلك القرارات”.
ضيق ‘رافاييل’ عينيه: “أحقاً ما تقول؟”
لم يلحظ ‘داغوري’ نبرة الشك في صوت ‘رافاييل’، وشرع في سرد التفاصيل.
“وخلال هذه العملية، ربما وقعت بعض الخلافات الطفيفة مع ثلةٍ قليلة من الموظفين بشأن مسألة الرواتب…”
سخر ‘رافاييل’: “إذاً، فالرواتب التي تدين بها لموظفيك منذ أمد، والمبالغ المستحقة لشركائك، وأموال البضائع والودائع النقدية المستحقة لكلا طرفي سلسلة التوزيع، ناهيك عن المبالغ التي جنيتها من الاستغلال الممنهج— كل ذلك يجب أن يُشطب بجرّة قلم؟”
تصلبت ملامح ‘داغوري’.
وبينما يراقب السلسلة التي يقبض عليها ‘رافاييل’، شرع يشرح بتؤدةٍ وطول بال: “مدين؟ اسمع، أنا أقرّ بأني أجريتُ تعديلاتٍ طفيفة على طريقة حساب المبالغ، بما في ذلك الفترات الزمنية…”
قاطعه ‘رافاييل’: “إذاً أنت تنوي الفرار بالأموال؟”
قطب ‘داغوري’ جبينه وصحح قوله بنبرةٍ فيها تبرير: “أفر بالمال؟ هه، لقد كنت خارج المدينة في عطلة— وسأصرّ على هذا القول أمام أي سائل. لا تحاول انتزاع اعترافٍ مني بطريقةٍ غير قانونية”.
تهكم ‘رافاييل’: “ولكن من تدين لهم بالمال، ولا سيما العمال، ليس هذا ظنهم”.
حدق ‘داغوري’ في ‘رافاييل’ بجبينٍ مقطب وأجاب بوقار: “اسمع، أنا المسؤول عن التكلفة، والإبداع، وشبكة التوزيع. وهم يقدمون العمالة، والمهارة، والوقت. العملُ مقسومٌ بين سيدٍ وأجير، وهم يعملون في تآزر لإنتاج أجود الخمر والسعي نحو هدفٍ مشترك. لذا فإنَّ تجارة الخمر لا تنتمي لي وحدي، بل هي ملكٌ للجميع. نحن كالعائلة الواحدة. وحين يواجه أحد أفراد العائلة عثراتٍ وشدائد، يجب على الجميع أن يراعي بعضهم بعضاً ويعملوا على تجاوز الصعوبات سوياً!”
توهجت عيناه الصغيرتان وهو ينقر على الطاولة بأصابعه برفق، كأنه عازمٌ على تلقين الشخص الذي أمامه درساً: “بيد أنَّ البعض لا يفقهون؛ فهم ضيقو الأفق لا يرون الصورة الكبرى، ولا يطيقون صبراً على قليلٍ من الشدة. لمجرد أنَّ أجورهم نقصت قليلاً، وصارت حياتهم أقل رغداً، يولونك أدبارهم، متجاهلين تماماً الفرص والشروط التي منحتهم إياها”.
أومأ ‘رافاييل’ برأسه وقبض شفتيه: “ولكنك أنت رب العمل، وهذه هي تجارتك ومصانعك”.
أيده ‘داغوري’ بأسى: “بالضبط! ولهذا السبب، أنا أقدر منهم على رؤية حقيقة هذه الصناعة بوضوح، وأكثر حرصاً على مستقبلها، وأشد جزعاً على تدهور قطاع الخمر، لأني بمثابة الأب لهم!”
نظر ‘رافاييل’ إلى الوثيقة: “ولكنك أغلقت المصانع”.
بدا ‘داغوري’ كئيباً، ثم سخر: “لم يكن لي من خيار. فمهما كانت العائلة متحابّة، ومهما بذل الأب من جهد، فإذا كان الأبناء عصاةً متمردين، فالمآل دائماً هو طريقٌ مسدود. ولعلك تعلم يقيناً أنَّ بعض الناس مجرد…”
ظهرت على تاجر الخمر علامات الإحباط والضغينة جراء الآمال التي لم تتحقق: “إنَّ تِسعة أعشار الأسباب التي اضطرتني لإغلاق المصانع تعود إلى مطالب الأجور المتزايدة لهؤلاء العمال الكسالى. هم وأمثالهم سرطانٌ في هذه الصناعة. هم قصار النظر، يجهلون تماماً أنَّ أهم ما في الوظيفة ليس الأجر والامتيازات، بل الفرصة لارتقاء السلم وآفاق المستقبل الواعد، فضلاً عن غرس القيم!”
*( وجهة نظر سيد عبيد: )*
بدأ صوت ‘داغوري’ ساخطاً: “وهم لا يعرفون كيف ينظرون للأمور من مقامٍ أرفع. متى كان أرباب العمل أمثالنا يكترثون لأجورهم الخاصة… يثيرون الضجيج، كل ما يجيدونه هو إثارة الضجيج. ولكن حين يضجون، لِمَ لا يتفكرون فيما سيحدث إن أُغلق المصنع بسبب مطالبهم؟ وماذا سيحدث إن اضطربت الصناعة بأكملها؟ حينها، أليسوا هم سيئو الحظ الذين سيدفعون الثمن؟”
توقف ‘داغوري’ وقد نال منه التعب.
زفر من منخريه وأردف بنبرةٍ نادمة: “الآن، كل ما يسعني قوله هو أنهم جنوا على أنفسهم، وما يظلمهم الإله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون”.
قال ‘رافاييل’ بضجرٍ واضح من خطبته: “كفى. نحن لا نبالي بتجارتك”.
انحنى رجل ‘العظم القاحل’ للأمام وتابع ببرود: “ولا نبالي إن كنت رباً للعمل بلا ذمةٍ ولا ضمير. نحن لا نكترث إلا لأمرٍ واحد”.
زفر ‘داغوري’، وظهرت على وجهه علامة “لقد وصلنا للأهم” وهو يبتسم ببرود.
قال تاجر الخمر في احتقار: “حسناً، لنتحدث بوضوح. ما هي التوجيهات التي تلقيتها من سادتك؟ كم؟ كم من المال تريد لتخلي سبيلي؟”
حدق ‘رافاييل’ فيه بنظرةٍ جليدية.
وقال بصرامة: “أريد معرفة السبب الحقيقي وراء إغلاقك للمصانع واعتزالك تجارة الخمر”.
ارتبك ‘داغوري’: “ما-ماذا؟”
سخر ‘رافاييل’: “قبل أن تُغلق، ذكرتَ في اجتماعٍ خاص لـ ‘جمعية تجار الخمور’ أنَّ مستقبل صناعة الخمر مظلم؟ لذا آثرت سحب أموالك والفرار قبل فوات الأوان؟”
صُعق ‘داغوري’، ورد محتجاً: “أنا لا أفر، أنا ذاهبٌ فحسب في عطلةٍ خارج البلاد…”
لكن ‘رافاييل’ أعاد قوله بلا عاطفة: “أجبني”.
تجمد ‘داغوري’ لبرهة طويلة، لكنه هز رأسه في النهاية.
“لقد أجبتُ على كل أسئلتك… وبكل صراحة، هذا الاستجواب قد يرقى ليكون تحت وطأة التعذيب…”
ابتسم ‘رافاييل’ وفتح الوثيقة التالية بهدوء: “في الواقع، لدي قائمة بـ ديون ضخمة قد تراكمت عليك طوال السنين عبر اقتراض قروض جديدة لسداد القديمة”.
تبدلت تعابير ‘داغوري’.
وبينما يراقب ‘رافاييل’ ساعة ‘داغوري’، تابع قائلاً: “ولدي قائمة لممتلكاتك خارج تجارة الخمر: ستة عقارات في ‘الإقليم المركزي’، وسفينتان تجاريتان للرحلات الطويلة راسيتان في ‘ميناء العذراء’، ومزرعة كبيرة في ‘تلال الساحل الجنوبي’، وملاحات في ‘منطقة بلاد المنحدرات’، وقطعة أرض زراعية واسعة في ‘تلال حافة النصل’، ولقبان لنبلاء أجانب اشتريتهما بمبلغٍ طائل، وحديقة زوجتك الخاصة، ومناصب ولديك، فضلاً عن أصول عشيقاتك الثلاث وأبنائك غير الشرعيين الثمانية…”
وعند ملاحظة التغيرات في وجه ‘داغوري’، ضيق ‘رافاييل’ عينيه: “لو أرسلتُ هذه القوائم إلى وزارة المالية ووزارة العدل…”
بلع ‘داغوري’ ريقه، لكنه قال بعناد: “افعل ما بدا لك إذاً”.
قطب ‘رافاييل’ جبينه.
اعتدل ‘داغوري’ في جلسته، واستند بيديه على الطاولة، وقال من خلف أسنانه: “أضمن لك أنك أينما ذهبت، لن تجد إلا جواباً واحداً: أنَّ تلك هي أكسابي القانونية، وأنَّ كل الإجراءات قد استوفيت، وحقوق الملكية واضحة. هل تجرؤ على الابتزاز، والاختلاس غير القانوني للملكية الخاصة، وفعل هذا الأمر الشنيع برجل أعمال مدني أعزل باسم موظفٍ رسمي في المملكة؟ واه، ستكون تلك جريمةً كبرى، وتناقضاً لسياسة المملكة في تشجيع الأسواق ودعم التجارة طوال العقد المنصرم”.
حدق تاجر الخمر في ‘رافاييل’ وكأنه عازمٌ على الثأر لأنفه المهشم: “سيكون موقفك مخزياً إن ذاع هذا الخبر. ومع شخصٍ في مقامي، أضمن لك أنَّ جمعيات تجارية كثيرة ستقدم عرائض احتجاج، بما في ذلك كثيرٌ من البيروقراطيين والنبلاء الشرفاء، وأهل النفوذ في كل مكان؛ سيهبّ الجميع للتحدث. وحين يأتي ذلك اليوم، سيكون سيدك هو مَن لا يرغب في رؤيتي”.
قال ‘داغوري’ مهدداً: “لأنك لا تعبث معي وحدي، بل تعبث بمصالح الكثير من ذوي الحظوة خلفي. أفهمت؟ الآن، سواء كانت نزاعات عمالية أو قضايا ضريبية، ليس لديك مسوغٌ لاحتجازي”.
أغلق ‘رافاييل’ الملف الذي في يده وبدأ يتفرس في ‘داغوري’ مجدداً، كأنما يدرك لأول مرة مدى مراوغة هذا الشخص.
أما الآخر، فقد ردَّ عليه بنظرةٍ باردة، وهو يحرك أصفاده محدثاً قعقعة.
وبعد ثوانٍ معدودة، افتر ثغر ‘رافاييل’ عن ابتسامة.
كان وسيماً في الأصل، وهذه الابتسامة الدافئة والمشرقة جعلته يبدو أكثر دعة.
نهض رجل ‘العظم القاحل’، وأخرج مفتاحاً، وفكّ الأصفاد عن ‘داغوري’ بأسلوبٍ يكاد يكون متملقاً: “لا تقلق يا سيد ‘موس’. هذه الأدلة لن تُرسل لوزارة المالية ولا لوزارة العدل، فنحن لا نبتغي إزعاج أهل النفوذ خلفك”.
حين رأى ‘داغوري’ أنَّ مِكْره قد آتى أكله، استبشر وهو يتحرر من أصفاده، وصارت نبرته أكثر فجاجة: “أحسنت صنعاً. في رأيي، أنت شابٌ ولك مستقبلٌ واعد، تبدو كجزءٍ من جيلٍ جديد مبشر— ما اسمك؟”
بيد أنَّ ‘رافاييل’ لم يجب، بل استأنف ما كان يقوله آنفاً: “سأقوم فقط بجمع كل هذه الوثائق والمستندات وإرسالها برمتها إلى ‘مدينة *اليشم’”.
*( اليشم = Jade = جادي اذا كانت ملحوقة بكلمة او جاد اذا كانت عزلاء واللي هي جاديستار ومنها اذا قرءتوا “اليشم” اربطوها بالعائلة المالكة )*
صُعق ‘داغوري’: “ماذا؟”
أجابه ‘رافاييل’ بابتسامةٍ عذبة: “أجل، سأرسل كل هذا إلى ‘قلعة السوسن’، إلى حاكم ‘تلال الساحل الجنوبي’، إلى مكتب الدوق ‘زين كوفيندير’ شخصياً. ما رأيك في هذا؟”
إن أعجبتكم الترجمة، أتمنى منكم دعمي بالدعاء لأهلنا وإخواننا في فلسطين والسودان، جزاكم الله خيرًا.
تمت ترجمته بواسطة الخليل الفكاهي RK
✨ عضوية مميزة في فضاء الروايات ✨
🚫📢 تخلّص من الإعلانات المزعجة
💖 استمتع بتجربة قراءة سلسة ومميزات حصرية مقابل مبلغ رمزي
📌 ملاحظة: أرسل اسمك في الموقع عند الدفع ليتم تفعيل العضوية ✅
جميع ما يتم ترجمته في الفصول منسوب إلى المؤلفين، ونحن بريئون من أي معانٍ تخالف العقيدة أو معانٍ كفرية وشركية.
هذا مجرد محتوى ترفيهي فلا تدعه يؤثر عليك أو يلهيك عن دينك.
استغفر اللـه وأتوب إليه.