سلالة المملكة - الفصل 577
📏 حجم الخط
✍️ نوع الخط
🎨 الخلفية
🖥️ عرض النص
دعم سلالة المملكة لزيادة تنزيل الفصول :
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
الفصل 577: كذبة
استمر تاليس في دفع الكرسي المتحرك بدافعٍ من لاوعيه، بينما اختلطت معالم محيطه بظلمةٍ حالكة. لم يكن يبينُ في ناظريه بوضوحٍ سوى ذلك العجوز الرابض أمامه، مما أورث في نفسه توجساً لم يفتأ يتعاظم.
fuck.
كانت تلك أولى الكلمات التي اعتصرها ذهن الفتى.
حدّق بوجومٍ في “مورات” القابع فوق كرسيه، ومسّت يدهُ دون قصدٍ تلك الأغصان ذات العروق السوداء، مما جعلها تنقبضُ في حركةٍ مريبة.
تباً للأمر.
حتى بعد إدراك الحقيقة وراء قدرة “قراءة الأفكار”، وبعد ست سنوات من الدربة والخبرة، وبعد أن ظنّ أنه قد استعدّ لكل طارئ…
ظل “العراف الأسود” هو “العراف الأسود”.
حتى وإن غابت الأدلة وانعدمت القرائن، فإنه لا يزال قادراً على تقفّي أثر الخداع والزيف، واستنشاق عبير الحقيقة مهما توارت.
والده، وجدُّه، أولئك الذين اعتلوا عرش السيادة السامي، كيف واجهوا هذا المسخ المراوغ؟
كيف استكانت نفوسهم لوجود أفعى كهذه —هذا الكيان المتجهم الذي نضح “الخبث” من كل مسامّه— وهو يتبوأ منصباً رفيعاً في “مجلسهم الإمبراطوري” ويقبضُ على زمام الاستخبارات؟
أحكم تاليس قبضته على الكرسي المتحرك.
ولكن، والأهم من ذلك…
في تلك اللحظة، مرت أمام عيني تاليس صورُ كل ما حدث في “مخيم أنياب النصل” و”سجن العظام”، وتجلت له شخوص “كويك روب” و”زاكريل” و”بارني الابن”.
«لقد قاسيتم الكثير، وبعد خوض غمار المحن، فررتم من غياهب السجن… ليس لتنالوا أغلالاً أخرى…»
أولئك القوم…
الصليب الذي حملوه، والنزاع الذي كابدوه، والألم الذي تجرعوا مرارته…
شدّ تاليس على عضلات ذراعيه.
“سموّك؟”
ظل “مورات” شاخصاً ببصره إلى الأمام، ولم يترك لـ تاليس سوى مشهد قفاه الأجوف والواهن.
تباينٌ صارخٌ مع القتامة اللامتناهية التي كان ينشرها حوله.
رفع تاليس رأسه ببطء.
“لا أدري عمَّ تتحدث.
“متواطئون مطلوبون؟”
«كلا»، ردّد الفتى في قرارة نفسه بصمت، «كلا».
مهما بلغت سطوة “العراف الأسود” من ترهيب، فإنه لن يسمح له بتحطيم إرادته.
كان عليه أن يصمد عند الخطوط الأخيرة.
مهما كان الثمن.
سخر “مورات” قائلاً: “أعتقدُ أن ‘يودل’ لا بد وأنه أخبرك، ألا تقوم أبداً بـ…”
“بالكذب في حضرتك؟” قاطعه تاليس بسرعة، مبتراً حديث “العراف الأسود”.
رمقه “مورات” بنظرةٍ جانبية.
“أصبتَ فيما ذهبت إليه.” قرر تاليس ألا يُمعن في التفكير أكثر. “لقد كذبتُ بالفعل.
“قبل قليل، وأمام عينيك تماماً.”
واصل الأمير حديثه بنبرةٍ اتسمت بالتعالي والجفاء: “فماذا في ذلك؟”
تصلّب “العراف الأسود” في مكانه.
كان الرواق بارداً ومعتماً، ولم يكن يتردد في أرجائه سوى صدى خُطى تاليس، مغطياً على الصوت الذي يقشعر له البدن لتلك الأغصان الشيطانية.
“لقد كذبتُ.”
بإرادةٍ جازمةٍ لا مبالية، قال تاليس ببرود: “لأنني لم أرغب في إطلاعك على الحقيقة، ومع ذلك كنتُ آمُل أن نحافظ على الودّ واللباقة فيما بيننا.
“ومع ذلك، فإن قدرتك الذهنية اللعينة تلك على قراءة الأفكار —ولا أدري مقدار صدقها من زيفها— تُصرّ في كل مرة على تمزيق هذا التفاهم الضمني إرباً، بلا هوادة، وتدفع بكليهما إلى زاويةٍ ضيقة؟”
التفت “مورات” ببطء وبدأ يتفرس في تاليس بنظرةٍ غريبة.
لكن تاليس لم ينتهِ بعد؛ إذ ردّ النظرة بمثلها إلى “العراف الأسود”، محاولاً نفض غبار الخوف الذي تغلغل فيه منذ لقائهما الأول. “لماذا؟
“أثباتاً منك على أنك قادر؟ أم استعراضاً لسطوتك؟ أم نيلاً لأوراق مساومةٍ تنشدها؟ أم لتتخذ ذلك ضدي وتتحكم فيّ؟”
استحضر تاليس “خطيئة نهر الجحيم” ليهدئ من روع ضربات قلبه وأنفاسه، ويوصد الأبواب أمام أي بوحٍ بالمشاعر.
تخيل نفسه في تلك اللحظة مجرداً من العواطف، منيعاً لا يُخترق.
ساد الصمتُ أرجاء الرواق.
“لأن هذا هو واجبي يا فتى،” أجاب “مورات” ببطء، وكان صوته متهدجاً ونبرته يشوبها الغموض. “أن أظل يقظاً، وأن أجتثّ التهديدات.”
توقف تاليس عن المسير.
توقف الكرسي المتحرك فجأة، مما أدى إلى ترنح جسد “مورات” قليلاً.
في الظلام، وفي غياب صوت الخطوات، لم يكن يُسمع في الرواق سوى حفيفٍ موحشٍ لتقلص اللحم الشيطاني وتمدده وتلويه، مما زاد من وحشة الصمت الجنائزي.
“إذاً فهذا خياري، يا سيدي،” قال دوق “بحيرة النجوم” بعد ثوانٍ بوجهٍ لا تعبير فيه، “لقد كذبتُ، انطلاقاً من مصالحي واعتباراتي.
“فماذا في ذلك؟”
وفي ركنٍ خفي عن الأنظار، ضيّق “العراف الأسود” عينيه.
“لقد أسأتَ استخدام اللقب يا ‘مورات’.” حدّق الأمير الثاني في الظلام أمامه مباشرة. “لا يوجد ‘فتى’ هنا.
“بل يوجد تاليس جاديستار فحسب.”
سكت “مورات” لبرهة قبل أن يزفر ساخراً: “خيارك؟
“حتى لو كان خيارك قد يعرّض المملكة للخطر؟
“حتى لو تعارضت نزواتك مع والدك…”
طاخ!
ضرب تاليس بكفه على كرسي “مورات” المتحرك، مما جعل الأغصان الشيطانية تتلوى بعنف، وحبس كلمات “العراف الأسود” في صدى ذلك الصوت المدوي.
*( اوف يتنمر على العجزة والمقعدين)*
“فليواجهني هو إذاً.”
تجمدت نظرات “العراف الأسود”.
وفي اللحظة التالية، وبدفعةٍ واحدة، أدار تاليس الكرسي المتحرك ببطء ليواجه العجوز وجهاً لوجه.
وفي الوقت ذاته، أرغم نفسه على ملاقاة عيني رئيس الاستخبارات الموقّر.
“تفضل. اذهب وأخبره.”
تحدث تاليس بنبرةٍ خفيضة، لكنها خلت من كل عاطفة، مما جعلها تبعث على القشعريرة.
“أخبره أنني أخفيتُ فرقةً من الحرس السابقين المطلوبين، وهم ذوو مهارةٍ عالية ودرايةٍ واسعة بخبايا القصر وأسراره،” ثم اتخذت نبرته منعطفاً حاداً، “لكي أتمكن من تدبير انقلابٍ في اللحظة الحاسمة، وأستولي على قصر النهضة وأتربع على العرش.”
لم ينطق “العراف الأسود” ببنت شفة.
وتلوت الأغصان ذات العروق السوداء حول ساقيه مرة أخرى.
استنشق “مورات” الهواء برفق مرتين، وكأنه يحاول استعادة توازنه.
“ما الخطب؟”
مدّ دوق “بحيرة النجوم” يديه وأمسك بمسندي الكرسي المتحرك، وانحنى تدريجياً حتى اقترب من وجه “مورات” الهرم —على الرغم مما يبعثه ذلك من انزعاج.
“ألم يبعثني إلى هنا لكي تسألني عن أمرٍ كهذا؟”
نظر تاليس مباشرة في عيني “العراف الأسود” من مسافةٍ قريبة؛ قريبةٍ لدرجةٍ تمكنه من عدِّ التجاعيد على وجه العجوز.
“أن تظل يقظاً، وتجتث التهديدات؟”
بدأ الظلام من حولهما يطغى، غازياً كل ما يقع عليه البصر، ولم يترك سوى هذين الشخصين المتواجهين باديين للعيان.
كانت نظرة “مورات” باهتةً ومنعزلة كعادتها، لم يرفّ له جفن؛ ولم يستطع تاليس استقاء أي معلومةٍ منها.
لكنه كان يعلم أنه لا يمكنه التراجع.
وأخيراً، وبعد ما بدا وكأنه أبدية، ارتسمت ابتسامة على وجه العجوز.
“عليَّ أن أقرّ بأن هذه مفاجأة غير متوقعة،” تفرّس “مورات” في تاليس بدقة ثم استطرد ساخراً: “يا صاحب السمو.”
رفع تاليس طرفي شفتيه ليفصح عن ابتسامةٍ زائفة خلت من أي صدق.
“هناك أشياء كثيرة تتجاوز توقعاتك.” أفلت الكرسي المتحرك، وانتصب قائماً وهو ينادي “مورات” بلقبه: “لستم وحدكم من سئمتم من تنظيف آثار الآخرين.
“أيها العراف الأسود.”
اتكأ “مورات” بظهره على كرسيه، وأدت حركته المفاجئة إلى اضطراب الأغصان السوداء.
“تبدو واثقاً من نفسك يا دوق تاليس.” ضيّق رئيس دائرة الاستخبارات السرية عينيه. “واثقاً من أن أولئك السجناء الفارين هناك لن يشكلوا تهديداً —لن يؤذوك، ولا والدك، ولا العلاقة القائمة بينكما.”
سخر تاليس: “فماذا في ذلك؟”
كانت هذه هي المرة الثالثة التي ينطق فيها الأمير بهذه العبارة، وكانت نظراته باردة كالصقيع.
وتابع بصوتٍ خفيض: “ألم يفعل عمي، الأمير الثاني السابق، ‘هوراس جاديستار’ الشيء ذاته إبان ‘السنة الدموية’؟”
اتسعت عينا “العراف الأسود”.
“لقد استأجر سراً طريداً مثل ‘السيف الأسود’ ، واشترى قتلة ‘درع الظل’، وحرّض الناس في العاصمة، وأغوى الحرس على التعاون الضمني، وفي اللحظة الحاسمة، استولى على القصر في انقلاب، بل واغتال الملك السابق وولى العهد.
سرد تاليس الأحداث ببرودٍ ودونما أدنى تعبير: “إلى أن لقي حتفه هو نفسه بخيانة دوق ‘نانشيستر’ السابق عشية عودته إلى المملكة ليعتلي العرش.
“من لُدِغ من جحرٍ مرتين لا يلومنّ إلا نفسه. لا والدي ولا أنت بمثل هذه الحماقة.”
ظل العجوز القابع على الكرسي صامتاً لوقتٍ طويل وهو يواصل تفرسه في تاليس.
كان ينظر في عيني الفتى، وكأنه يتأمل كنزاً ثميناً.
“أنت بارعٌ حقاً في جمع المعلومات، أليس كذلك؟”
تجاهل تاليس رد “مورات” واكتفى بالنظر إليه بتجهّم. “إذاً أنت تعلم.”
زمجرت “خطيئة نهر الجحيم” في عروقه، معينةً الأمير على كبح جماحه. “تعلمُ أن من بين أولئك السجناء في ‘سجن العظام’، من فعل ما أُمِر به، ومنهم من لم يملك خياراً، ومنهم من أُكره على الفعل، ومنهم من كان تائهاً، ومنهم من لم يكن لديه أدنى فكرة.”
استمر “العراف الأسود” في التحديق به دون أن ينبس بكلمة.
“تواطؤ؟” سخر تاليس: “ربما فشلوا في أداء واجباتهم، لكن الأدهى أنهم أُدينوا بسبب الثأر الدموي لعائلة ‘جاديستار’ المالكة.”
فكر في “بارني الابن” و”نالجي” الميت في “سجن العظام”، وقال وهو يكزّ على أسنانه: “السماح للماضي بأن يُدفن.”
أغمض “مورات” عينيه واستنشق الهواء برقة، وكأنه يتدبر ذلك الضوء الخافت والأجواء الكئيبة.
“لقد فهمتُ الآن.”
فتح “العراف الأسود” عينيه ببطء وحدّق في تاليس. “لماذا أطلقتَ سراحهم.”
لم يحد تاليس ببصره عن نظراته، بل واجهها بقوة، وأومأ برأسه رداً على ذلك. “لقد دفعوا ثمن عدم رؤيتهم لنور النهار لأكثر من عشر سنوات.
“وعلى الأقل، في اليوم الذي التقيتهم فيه، كانوا قد كفّروا عن خطاياهم تماماً.”
وأضاف بتهكم: “مقارنةً بقطاع استخباراتٍ معطل لا يعرف سوى التنظيف بعد وقوع الكارثة، فقد كانوا أكثر نفعاً بكثير.”
لم يكلف “مورات” نفسه عناء التبرير، بل اكتفى بالاستمرار في التحديق بـ تاليس، وكانت أفكاره عصيةً على الفهم.
“لذا منحتهم الحرية كمكافأة،” واصل تاليس بنبرةٍ حازمة، “بأسلوبٍ هو الأكثر كتماناً وأماناً وتماشياً مع مصالح المملكة، ولم يمس سمعة العائلة المالكة بسوء.”
استجمع الأمير أنفاسه وتمالك نفسه. “الآن، يا لورد ‘مورات هانسن’.
“إما أن تذهب إلى والدي وتخبره أن ابنه الوحيد يأوي متمردين، ويؤوي فارين من العدالة، ويخطط للاستيلاء على العرش، لذا يجب التخلص منه في أقرب وقتٍ ممكن لوأد المشكلة في مهدها.”
داعب “العراف الأسود” غصناً شيطانياً على مسند كرسيه بوجوم.
“وسأتحدثُ معه مباشرةً، وجهاً لوجه، ملكٌ لملك.
“وسأتحملُ أنا وطأة غضبه.”
كانت نظرة تاليس مهيبة. “لكن هذا الجزء سيكون شأناً بيننا. ولن تعد بحاجةٍ للتدخل بعد الآن، يا لورد ‘هانسن’.”
وبغطرسةٍ كانت تتجلى بوضوحٍ في الملك “نوفين” والملك “كيسيل”، تابع ببرود: “فأنا، بوصفِي من آل ‘جاديستار’، لا أحني راسي بالجوابِ إلا لـ’جاديستار’ مِثلي.”
ساد الصمتُ الرواق.
نظر إليه “مورات”؛ وكانت مشاعره لا تُفسّر.
ضيّق تاليس عينيه. “أو يمكنك أن تعرف قدرك.
“وتكفّ عن التطفل بأنفك، وتمتنع عن استعراض قدرتك التنبؤية، وتكبح جماح رغبات دائرة استخباراتك السرية في التلصص، وتتوقف عن التدخل في هذه الأكاذيب التي أختارُ أنا بملء إرادتي قولها، وتكف عن تهديدي بنبرة الصوت الغريبة هذه.”
استولى الصمتُ على المحادثة.
ولم يكن يُسمع سوى الحفيف اللامتناهي للحم الشيطاني، كأنه جريُ الجرذان والأفاعي، أو كأنه طنين البعوض والذباب الذي يقتات على الجيف.
وفي اللحظة التالية، تحول تعبير تاليس إلى البرود الشديد!
مدّ يده فجأة وقبض على غصنٍ أسود مضطرب بجانب مسند الكرسي.
بدأ اللحم الشيطاني الذي يلفّ الكرسي بأكمله يرتجفُ بعنف.
تغير تعبير “العراف الأسود” قليلاً.
“واجعل هذا الشيء اللعين والمزعج يصمت.”
اندفعت “خطيئة نهر الجحيم”. كزّ تاليس على أسنانه وبذل قوةً لتمزيق قطعة من ذلك اللحم وطرحها أرضاً.
“وإلا فعلتُ أنا ذلك،” أنهى كلامه ببرود.
كان الأثر فورياً؛ إذ ابتعد اللحم الشيطاني فوراً عن تاليس و”فرّ” إلى أجزاء أخرى من الكرسي.
واختفى صوت الحفيف.
وطوال تلك العملية، ظل تاليس يحدق في “الغراب الأسود” دون أن يشيح ببصره.
هدّأ “مورات” من أنفاسه، لكنه نظر بهدوء إلى قطعة الغصن التي كانت تتلوى على الأرض، قبل أن تفقد حيويتها وتذبل أخيراً.
كانت نظرته عميقة.
وبعد بضع ثوانٍ، التفت لينظر إلى تاليس مرة أخرى.
“لقد كانت رحلتك إلى الشمال استثنائيةً حقاً، يا صاحب السمو.
“في الماضي، لم تكن بهذا الصمود والصلابة. حتى عندما كنت تهاجم، كنت تبدو قلقاً وهاوياً لا محالة.”
ضيّق “مورات” عينيه، وتابع بنبرةٍ حملت مزيجاً من التأثر والمفاجأة: “لكن انظر إليك الآن. سواء كان الأمر تهديداً أو ابتزازاً، تظاهراً بالقوة أو سَبراً للأغوار، فأنت بارعٌ وكأن الأمر غريزةٌ ثانية فيك.
“ما الذي غيرك؟”
«ما الذي غيرني؟»
“إن كان الأمر كذلك، ففكر ملياً في أي نوعٍ من الأشخاص أصبحتَ بعد تولي منصب الأمير.
“… هل لا تزال أنت نفسك؟ هل لا تزال تاليس؟
“أم أنك… أصبحت شيئاً آخر؟”
قطب تاليس جبينه ونبذ كلمات “الحبل السريع” وراء ظهره.
“لا شيء.”
اعتدل في وقفته وأرغم نفسه على الرد بحزم: “لقد ولدتُ هكذا.
“أنت فقط من أدرك ذلك متأخراً.”
سكت “مورات” لبرهة.
“لا بد أنهم مهمون جداً بالنسبة لك، هاه؟” سأل العجوز القابع في الكرسي باهتمام، “أولئك الفارون.”
سخر تاليس.
“وفر عليك هذا. إن كنت تريد الخوض في حديث ‘اجتثاث نقاط الضعف’ من قبل ست سنوات،” قال الأمير بازدراء وهو يستذكر ذلك اللقاء الصريح في غرفة “بالارد”، “فإن والدي لم ينفك يفعل ذلك طوال الصباح.”
لم يتكلم “العراف الأسود”، وظل ينتظر إجابةً على سؤاله.
أشاح تاليس ببصره بعيداً، محاولاً جاهداً نسيان أولئك القوم في “سجن العظام”.
“ليسوا هم من يهمونني.
“بل أنا،” قال وهو يكز على أسنانه، “مبادئي، وقواعدي، وخياراتي.
“هناك ثمنٌ —احم— جزاءٌ مجزٍ في الولاء.”
خفض دوق “بحيرة النجوم” نظره وحدّق في “مورات” مباشرة.
“وأولئك الذين يؤذونني لا بد أن يدفعوا الثمن.
“هل أوضحتُ قولي، يا سيدي؟”
طال الصمتُ هذه المرة أكثر من سابقاتها.
إلى أن رفع “مورات”، الذي كان يحدق في تاليس بصمت، طرفي شفتيه ليكشف عن ابتسامةٍ غريبة.
كانت الأغصان على ساقيه لا تزال تتلوى، لكنها كانت أكثر هدوءاً بكثير.
وبينما كان يحدق في ابتسامة “مورات”، كتم تاليس قلقه.
“لا تقلق، يا صاحب السمو. لستُ شخصاً قاسي القلب إلى هذا الحد.”
وضع “العراف الأسود” يديه على ركبتيه وضيّق عينيه. “بما أنك قد صرحتَ بذلك شخصياً وراهنت بسمعتك عليه، فسنمنحك قدرك بكل تأكيد.”
في تلك اللحظة، شعر تاليس بارتياحٍ داخلي.
“علاوةً على ذلك، لقد مرّت ثمانية عشر عاماً.”
نقر “مورات” على الكرسي بلطف، وكأنه يهدئه. بدا غارقاً في أفكاره. “تلك الفرقة القديمة من قصر النهضة قد عفا عليها الزمن منذ أمد بعيد. ومهما بلغ الضرر الذي يمكنهم إلحاقه فسيكون محدوداً، وهم لا يملكون القدرة على إثارة أي موجات عاتية. وبالطبع لا داعي لإهدار أي ميزانية في إصدار مذكرة لاعتقالهم.”
«حسناً، ربما باستثناء شخص واحد.»
أفاق رئيس الاستخبارات من ذهوله وابتسم بملء فيه. “كل ما في الأمر أنه في المرة القادمة، يا صاحب السمو، أرجو أن تضع ثقةً أكبر فينا.”
«ثقة؟»
قطب تاليس جبينه.
“فـ ‘ويليامز’ ليس محترفاً في نهاية المطاف،” قال “العراف الأسود” بهدوء، “ودائرة الاستخبارات السرية ستكون أكثر من قادرة على ترتيب أمرٍ مثل تزييف الوفيات.”
رمق تاليس بنظرة. “ولن تضطر لاستخدام مثل هذه الأساليب المتطرفة لاختلاق التبريرات وتجنب الكارثة؟”
توقفت أفكار تاليس وأجاب بصعوبةٍ بالغة: “بالطبع.”
ابتسم “العراف الأسود” ابتسامةً عارفة. “لكن والدك سيكتشف الأمر عاجلاً أم آجلاً، هل تفهم ذلك؟”
أجاب تاليس بصوتٍ مهتز: “بالطبع.”
“هل نواصل طريقنا إذاً، يا صاحب السمو؟”
استنشق تاليس نفساً عميقاً وأعاد يديه إلى مقابض الكرسي المتحرك (وفرّت الأغصان الشيطانية في الاتجاه المعاكس مرة أخرى) وأداره، ليتوارى وجه “مورات” في الظلام مجدداً.
“بالطبع.”
خطا تاليس للأمام وانطلقا في طريقهما مرة أخرى.
“جميلٌ جداً، أنت تمضي في طريقك الصحيح،” قال “مورات” ببساطة.
شعر تاليس ببعض الحيرة. “هاه؟”
“لقد قضيتُ وقتاً طويلاً في دائرة الاستخبارات السرية يا فتى.”
هذه المرة، سادت نبرة من الأسى في كلماته. “منذ مدة ليست بالقصيرة، أصبح الجميع يتملكهم الحذر والذعر في حضرتي.
“أما بالنسبة لشخصٍ يشعر بالراحة، غير مكبّل وغير خائف من الكذب عليّ؟”
«شخص لا يخاف من الكذب على العراف الأسود…» تدبر تاليس هذه الكلمات.
وتابع “مورات”: “منذ ‘السنة الدموية’، وبعد رحيل الملك السابق وولى العهد ‘ميديير’، يعلمُ السامي أنني لم أقابل مثل هذا الشخص منذ زمنٍ طويل جداً.”
ضحك بخفة، وكأنه تذكر شيئاً ما، ثم هزّ رأسه ببطء.
ارتسمت على وجه تاليس تعابير غريبة.
لم يصدق أنه استشعر… حنيناً وعاطفةً من رئيس الاستخبارات المعروف بجبروته؟
“ماذا عن ذي قبل؟” اغتنم تاليس الفرصة ليسأل، “عمي، جدي —عندما وقفوا أمامك، كيف كان تعاملك معهم؟”
سكت “العراف الأسود” لثانية.
“كما حدث معك قبل قليل.”
تعثرت خطوات تاليس، لكنه استطاع استعادة توازنه بسرعة.
“سواء كان الملك السابق أو ولي العهد، لم يتملكهما الخوف أو القلق يوماً من الكذب في حضرتي —حتى لو علما أنني أمتلك مثل هذه القدرة، القدرة على كشف زيف كلماتهم.”
وفي تلك القتامة والظلمة اللامتناهية، سأل “مورات” بصوتٍ خفيض: “وهل تدري لماذا؟”
تدبّر تاليس الأمر لبرهة.
«’آيدي الثاني’، وولى العهد ‘ميديير’…
«لم يتملكهما الخوف أو القلق يوماً من الكذب في حضرة الغراب الأسود؟»
تملكت تاليس دهشةٌ ما.
وفي تلك اللحظة، استذكر فجأة وصف الملك “كيسيل” للرجلين عند القبر، وكذلك الملك الذي واجه العالم بأسره والذي ذكره “زاكريل” في “سجن العظام”.
لكنه سرعان ما عاد إلى الحاضر.
“السلطة،” أجاب تاليس بتفكر، “لأنهم امتلكوا السلطة.
“لم يخشوك.
“لذا لم يكترثوا بما تظنه.”
حدّق ببلاهة في قفا “العراف الأسود”. “وبصفتك مسؤولاً تابعاً لهم، لم يكن لديك سببٌ ولا حاجة لكشف كذبهم.”
وبشكلٍ غامض، تذكر تاليس تلك الليلة التي كشف فيها هو و”الحبل السريع” عن هويتهما الحقيقية لبعضهما البعض.
“لا علاقة لهذا بسلطتك يا تاليس. على العكس من ذلك، كلما زادت قوتك، وعظم تأثيرك، زاد إحكام هذه الأغلال حولك. وكلما انغمست فيها أكثر، زاد عجزك عن الفكاك منها.
“تماماً كآبائنا.”
“أحسنتَ قولاً!”
انفجر “العراف الأسود” ضاحكاً وصفق بيديه.
استمر في الضحك لبرهة قبل أن يقول بنبرةٍ مرتاحة: “السلطة.
“السلطةُ فحسب.”
ساد الحزنُ كلمات “مورات”. “السلطةُ لا تخاف الكذب.
“وإلى حدٍ ما، هي تحب الكذب، وتتلذذ به، وتبرع فيه. فمن خلال الأكاذيب فقط يمكن لقوتها أن تتدفق، فتميّز العدو من الصديق وتُبرز وجودها.”
أصبحت نبرته متوترة، مما جعل تاليس يتأهبُ غريزياً. “عندما تجعل المرء يسير ضد إرادته وفطرته، وتجعل من يدركون الخطأ يشعرون بالخدر، ويقنعون أنفسهم بالتخلي عن التساؤل والإيمان بالأكاذيب، حينها تصبح سلطةً حقيقية.”
غرق تاليس في ذهولٍ وهو يستمع.
“ملابس الإمبراطور الجديدة، الفيل في الغرفة،” قال الأمير بصوتٍ خافت، “إنهم يكذبون علينا، ونحن نعلم أنهم يكذبون علينا، وهم يعلمون أننا نعلم أنهم يكذبون علينا، لكنهم يستمرون في الكذب، ونحن نستمر في التظاهر بتصديقهم.”
تدبّر “العراف الأسود” الأمر لبرهة ثم ردّ بكلمة “حسناً” مشوبة بالحيرة.
“ليست هذه كلماتي،” أفاق تاليس من ذهوله وسعل، “لقد كانت لكاتبة… إنها مقولة في الشمال.”
سكت “مورات” لفترة، وكأنه يستذكر شيئاً ما، ثم فنّد قوله: “كلا، ليس هناك مقولة كهذه في الشمال بكل تأكيد.”
شعر تاليس بالارتباك في البداية، ثم شرع يبتسم بارتياح.
“بالفعل، ليس هناك مقولة كهذه،” قال دون تردد، “لقد كنتُ أكذب.”
ابتسم “الغراب الأسود”. “أعلمُ ذلك.”
سخر تاليس: “نعم، أعلمُ أنك تعلم.”
تطلع إلى الطريق أمامه، فظهر بابٌ في نهاية الرواق. “لذا، في المرة القادمة التي أكذب فيها، أرجو أن تتفهم الأمر.”
زفر “مورات” وبدا سعيداً للغاية. “مرحباً بك على متن السفينة، يا دوق تاليس.”
سكت تاليس لبرهة. “إنه لشرفٌ لي، يا لورد هانسن.”
أومأ “الغراب الأسود” برأسه وقال بتهكم: “لكن عليك أن تفهم أنه عندما أعلم الحقيقة ولكن أختار ألا أكشف أمرك، فأنا أيضاً أكذب.”
كان قوله عميقاً. “لذا لا تعتد على الأمر كثيراً.”
ومضت ذكرى من الماضي أمام عيني تاليس.
“لقد كانوا جميعاً مشوهين يا تاليس، مشوهين.
“كلهم، بمن فيهم والدي وأخي الأكبر، كانوا مشوهين وأسرى يا تاليس. لقد كانت السُّلطة تأسرهم وتستعبدهم. لقد فقدوا أنفسهم بسبب السلطة.
“لقد أصبحوا شيئاً آخر بينما كانوا مقيدين بتلك الأغلال. لقد كانوا أدوات متبلدة المشاعر، وحثالة بدم بارد، وطغاة يعانون من الارتياب. لقد كانوا كل شيء إلا أنفسهم.”
“بالطبع.” ارتعد تاليس وتوقف عن التفكير فيما قاله “الحبل السريع”. “بالطبع.”
واصل الفتى خطواته للأمام بثبات.
لسببٍ ما، وبعد جولة المفاوضات وسبر الأغوار هذه مع “الغراب الأسود”، كان قد نجح بوضوح في تحييد الخطر الذي واجهه “الحبل السريع” وأولئك الحراس الفارون، وصدّ التهديد.
لكن على خلاف حالات هروبه السابقة.
هذه المرة، لم يشعر بالراحة أبداً.
ولا بأي ذرة من الارتياح.
على العكس من ذلك، هذه المرة، وخاصةً عندما ضحك “العراف الأسود”، شعر تاليس أن العبء الملقى على عاتقه قد ازداد ثقلاً.
وأكثر توتراً.
وأصعب فكاكاً.
ضغط على الكرسي المتحرك دون وعي.
“سؤالٌ أخير يا فتى.”
ركز تاليس انتباهه وتأهب.
“هل يمكنك موازنة الكرسي المتحرك؟”
ارتسمت على وجه تاليس تعابير غريبة. اتكأ رئيس الاستخبارات الهرم بظهره على كرسيه وأطلق زفرةً طويلة: “إن جسدي يؤلمني بالكامل.”
وأخيراً، ومع مزيجٍ من مشاعر الحرج والقلق، فعل تاليس ما أُمِر به ودفع “مورات” إلى غرفةٍ خافتة الإضاءة.
ترك تاليس الكرسي المتحرك وبدأ يتفحص الغرفة الغريبة. كانت الغرفة ذات تصميمٍ داخلي بسيط، صغيرة وضيقة، والرؤية فيها ضعيفة. وكان أبرز ما فيها مرآة ضخمة معلقة على الحائط المقابل لهما، والتي بالكاد عكست الخيالات المشوشة لـ “مورات” الجالس وهو نفسه واقفاً.
ومع ذلك، في اللحظة التالية، ظهرت بقعة من الضوء على سطحها وأضاءت المرآة بأكملها.
تراجع تاليس مقطباً جبينه، لكنه أدرك على الفور أن هناك غرفة أخرى أكبر داخل “المرآة”، وكان “رافاييل” واقفاً فيها.
“زجاجٌ بجهةٍ واحدة،” ضحك “مورات” بخفة، “صُنع من خلال دمج ‘قطرة الكريستال’ فيه. كلف ثروة طائلة.”
“يمكننا رؤيتهم، لكن لا يمكنهم رؤيتنا.”
«أعلم، لقد رأيتُ هذا من قبل. من تحاول أن تخدع؟»
كتم تاليس هذه الكلمات في نفسه وهو يشعر بالحنق.
“أين نحن؟”
“غرفة التحقيق،” أجاب “مورات” ببساطة، “يرجى التزام الهدوء يا صاحب السمو. لم نتمكن بعد من تحقيق عزلٍ تام للصوت من جهة واحدة —فليس هناك حل رخيص لهذا.”
قطب تاليس جبينه وهو ينظر عبر الزجاج إلى الغرفة الأخرى. تمتم “رافاييل” بشيء ما لبعض مرؤوسيه وغادر الأخيرون الغرفة.
التفت رجل “العظام الجرداء” وأومأ برأسه تجاه تاليس و”العراف الأسود”.
“من الذي يتم استجوابه؟” سأل تاليس بفضول، “أنكر بيرييل من ليلة أمس؟”
لم يجب “مورات” الأمير، بل نظر بدلاً من ذلك إلى المحيط القاتم وقال بتأثر: “آه، سواء كانت هذه النهاية أو تلك، أنا حقاً أشتاق لهذا المكان.
“وخاصةً هذا الزجاج. فله دلالةٌ كبيرة. عندما انتقلنا، قمنا بنقله بالكامل وبشكلٍ سليم.”
“لماذا؟” حدّق تاليس في “رافاييل” على الجانب الآخر.
سخر “العراف الأسود”.
“قبل ثمانية عشر عاماً.” أشار إلى الزجاج ذي الاتجاه الواحد. وعلى عكس طبيعته المعتادة، كانت عيناه تفيضان بالحيوية. “الشخص الذي جلس على الجانب الآخر من هذا الزجاج كان نبيلاً من ‘إيكستيدت’ سيء السمعة وفي ريعان شبابه.
“كونت مدينة ‘الضوء المتوقف’ من منطقة ‘الرمال السوداء’.”
همس باسمٍ: “يُدعى —’تشابمان لامبارد’.”
صُدم تاليس؛ ونظر باتجاه الزجاج مرة أخرى.
“وفي هذه النهاية، كنتُ واقفاً حيث تقف أنت. وكان الجالسُ مكاني هو ولي عهد ‘الكوكبة’…”
زفر “مورات” وبدت عليه ملامح الحنين. “‘ميديير جيدستار’.”
وفي تلك الغرفة المظلمة والكئيبة، قال “الغراب الأسود” ببطء: “عندما يلتهم التنين اليافع ملك التنانين، يُنكث العهد. وعندما يحل الدم الجديد محل الدم القديم، تُوقد الأفران.
“في ذلك العام، وُلدت عملية ‘دماء التنين’ —العملية السرية التي استهدفت زعيم الدولة المعادية، وكشفت عن نهضة ‘الكوكبة’ ووضعت حجر الزاوية في رقعة الشطرنج التي أرساها ‘الملك الفاضل’— على جانبي هذا الزجاج.”
إن أعجبتكم الترجمة، أتمنى منكم دعمي بالدعاء لأهلنا وإخواننا في فلسطين والسودان، جزاكم الله خيرًا.
تمت ترجمته بواسطة محار الأسد RK
✨ عضوية مميزة في فضاء الروايات ✨
🚫📢 تخلّص من الإعلانات المزعجة
💖 استمتع بتجربة قراءة سلسة ومميزات حصرية مقابل مبلغ رمزي
📌 ملاحظة: أرسل اسمك في الموقع عند الدفع ليتم تفعيل العضوية ✅
جميع ما يتم ترجمته في الفصول منسوب إلى المؤلفين، ونحن بريئون من أي معانٍ تخالف العقيدة أو معانٍ كفرية وشركية.
هذا مجرد محتوى ترفيهي فلا تدعه يؤثر عليك أو يلهيك عن دينك.
استغفر اللـه وأتوب إليه.