سلالة المملكة - الفصل 574
📏 حجم الخط
✍️ نوع الخط
🎨 الخلفية
🖥️ عرض النص
دعم سلالة المملكة لزيادة تنزيل الفصول :
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
الفصل 574: السلف
في بهو ذلك القصر الفاخر التابع لديوان الاستخبارات السرية، وقف “تاليس” أمام لوحة زيتية تتصدر ممر المدخل.
قال رافائيل من خلفه: “هذا هو لينستر كوفيندير”.
كان الرجل في اللوحة يتسم بالأناقة وحسن الهندام، يجلس على كرسي من الجلد الأحمر، ويعبث بخنجر نصف مسلول بين يديه؛ وميض بارد ينعكس من نصل الخنجر، بينما تُرصع غِلافه جوهرة نفيسة.
“أحد الفرسان الستة تحت إمرة ملك النهضة.. سوسنة الفتك”.
حين سمع تاليس هذا الاسم واللقب، بدا وكأنه أدرك شيئاً، فصرف بصره نحو النسيج المطرز تحت الإطار:
[لينستر ب. ت. كوفيندير، قبل عام 27 – 20]
“قبل سبعمائة عام، قام بتمويل ومساعدة الأمير تورموند آنذاك، الذي لم يكن قد تُوج ملكاً بعد، وقام بتجنيد وتدريب الدفعة الأولى من العملاء والجواسيس المحترفين. قدم مساهمات جليلة في معركة الإبادة وتأسيس مملكة الكوكبة، وكان أول رئيس للاستخبارات في المملكة”.
حدق رافائيل في الصورة وكأنه ينظر إلى الشخص ذاته، وأردف: “يُعترف به كمؤسس لديوان الاستخبارات السري للمملكة”.
لم يكن “سوسنة الفتك” تحت ريشة الرسام يتجاوز الأربعين من عمره، كان يبدو شديد التركيز لكنه كان مقطب الجبين، ينضح بفيض من الكآبة والغموض، وكأنه يواري حزناً سرمدياً لا ينفد، مما يبعث في نفس الرائي شعوراً بالتعاطف معه.
“لينستر كوفيندير.. مؤسس ديوان الاستخبارات السري”.
فكر الأمير متسائلاً: “أهو سلف عائلة كوفيندير، وأول دوق لتلال الساحل الجنوبي؟”
“نعم”.
أومأ تاليس برأسه لكنه لم ينبس ببنت شفة، ومضى يقتفي أثر رافائيل.
في الداخل، كانت أقدامهم تطأ سجاداً بلون أزرق نجمي، وهو النوع الشائع في المملكة. بدا بهو القصر لـ تاليس واسعاً وهاجاً، مختلفاً تمام الاختلاف عن المظهر الريفي الموحش للمكان من الخارج.
أجال تاليس بصره حوله وقال: “يبدو المكان أكبر مما كان عليه من الخارج”.
كانت أشعة الشمس تنسل عبر النوافذ، مما جعل النجوم الفضية مزدوجة الصلبان على المنسوجات والرايات تتلألأ. وعلى غير المتوقع، لم يكن هناك أي أثر للرهبة أو الانقباض.
“يعود الفضل في ذلك إلى المالك الأصلي لهذا القصر، فالتخطيط المعماري عبقري، وقد بُني بمهارة فائقة”.
ظل بصر رافائيل مركزا وهو يواصل المسير، وأضاف: “لسوء الحظ، شهد هذا القصر سفكاً للدماء خلال السنة الدموية، وكاد أن يحترق ويصير ركاماً، وإلا لما أصبح مقرنا الرئيس في مقام الأول”.
كان بضعة أشخاص بملابس عادية يجلسون في البهو، ينصرفون إلى شؤونهم الخاصة؛ بعضهم يعالج وثائق، وبعضهم يتجاذب أطراف الحديث بأصوات خافتة، وقد تجاهلوا تماماً حضور رافائيل وتاليس.
لم يكن الأمر يختلف عن أي ديوان بلدي عادي.. تقريباً.
قاد رافائيل الشاب إلى قاعة جانبية.
من تصميم زوايا الجدران، والأعمدة، وقوائم السلالم، وحتى السقف، استطاع تاليس أن يلمس ترف ومجد ماضي القصر وعراقة تاريخه. لكن رافائيل كان يمشي بخطى حثيثة، وكأنه اعتاد هذا الإيقاع، لذا رغم رغبة الشاب في تأمل كل شيء بتمعن، لم يسعه إلا إلقاء نظرة خاطفة.
إلى أن رأى لوحة زيتية كلاسيكية أخرى في أحد الممرات:
[هالفا س. م. كارابيان، قبل عام 14 – 65]
كان الرجل في اللوحة يقترب من منتصف العمر، لكن أثر السنين لم يبدُ بين حاجبيه. كان ذا شارب، وبدت على زوايا فمه ابتسامة خافتة، ومظهره يوحي بالبساطة والإخلاص، في نقيض مباشر لـ “لينستر” الداهية.
“هذا هو الرئيس كارابيان”، حين لاحظ رافائيل تباطؤ تاليس، كشف عن هوية الشخص في اللوحة بنظرة واحدة، وأضاف: “نائب لينستر وخليفته”.
بدأت أفكار تاليس تتحرك، فأومأ رافائيل ببطء: “بفضل مواهبه ومثابرته، لم تتحول شبكة الاستخبارات التي أدارها لينستر شخصياً إلى طفرة قصيرة العمر بسبب سوء السمعة بعد وفاة (سوسنة الفتك)، بل أُطلق عليها رسمياً اسم (ديوان الاستخبارات السري للمملكة). وواصل استقطاب المواهب وإرساء القواعد التي توارثناها حتى يومنا هذا”.
انتقل بصر تاليس إلى المنسوجة تحت الإطار، حيث كانت هناك عبارة مطرزة بخيوط ذهبية بخط بسيط، نصها نصف قديم ونصف حديث، يجمع بين لغة الإمبراطورية الحديثة واللغة العامية المعاصرة:
[أعين الملك وآذانه. حراس المملكة الليليون. العلم بالخفايا وصونها واجبنا.]
وتابع رافائيل: “بالطبع، تمت ترقية هالفا في نهاية المطاف من منصب رئيس الاستخبارات، وعُين وزيراً ومُنح لقباً نبيلاً، وصار الرجل الثاني في المملكة، رئيس الوزراء المعروف تاريخياً باسم (رئيس الوزراء الحكيم)”.
“رئيس الوزراء الحكيم”، كرر تاليس اللقب وهو يستحضر دروس التاريخ التي تلقاها من جيلبرت، “رئيس الوزراء الحكيم كارابيان؟”
اعتلت وجهه تعابير غريبة.
“أعرف ما يدور في خلدك”، تذكر رافائيل شيئاً وتنهد، “كلما اقترن هذا اللقب باسم هذه العائلة.. يبدو أن هناك تبايناً كبيراً، أليس كذلك؟”
شخر تاليس، وقاوم على الفور الرغبة في الابتسام، فاصطنع الجدية وواصل المشير.
كان الطريق سلساً وهادئاً وهم يجوبون ممرات وقاعات لا تُحصى. ومن حين لآخر، كان يمر شخص ما يحمل لفائف من الوثائق في يديه، يظهر من باب ويختفي في آخر بخطى عجولة ومظهر منشغل، مكتفين بإيماءة بسيطة للتحية.
سأل الأمير بفضول: “يبدو أن عدد المداومين ليس كبيراً؟”
“سواء كان ذلك للتعامل مع الحادثة المتعلقة بأمير معين في الصحراء الغربية، أو للتعامل مع الحادثة المتعلقة بأمير معين في المأدبة، فإن الكثيرين قد سهروا بالفعل لعدة أيام متتالية دون تغيير نوبات العمل”، أجاب رافائيل دون مواربة في إحراج تاليس، “ارحم حالهم قليلاً”.
لم يجد تاليس ما يفعله سوى هز كتفيه بحرج.
“لكن لماذا نحن هنا؟ بما أنه لا يمكن معاقبة كوفيندير، ولا يمكنك فعل شيء حيال القضية”.
رمقه رافائيل بنظرة وكان على وشك الرد عندما فُتح الباب خلفه ونادى رجل: “رافائيل، لقد أعدت *المؤخرات كل شيء يتعلق بحادثة القفازات البيضاء. هل تود إلقاء نظرة؟”
*(Asses)*
وبينما كان الرجل يتحدث، كانت عيناه تزيغان نحو تاليس، وكأنه يود تحيته لكنه تردد.
غرق رافائيل في التفكير، أما تاليس فكان قد قطب جبينه.
“هل قال.. المؤخرات؟” اقترب تاليس من رافائيل وسأل في همس: “مؤخرة؟”
التفت رافائيل ولوح بيد غير مبالية للأمير، متجاهلاً تعابير وجهه: “إنها الوحدة الخاصة التابعة لقيادتي. لقد أخبرتك باسمهم الكامل. هل تريدني أن أكرره؟”
أجبر تاليس نفسه على الابتسام.
رفع رافائيل حاجبيه بتعاطف، والتفت ومشى نحو الرجل: “حسناً جداً يا دارني، دعنا نتحقق من الإجراءات، لن يستغرق الأمر طويلاً. وبالمناسبة، وجه بصرك بشكل لائق”.
سحب الرجل عند الباب على الفور نظراته الخلسة تجاه تاليس.
كان تاليس على وشك اتباع رافائيل إلى الغرفة عندما أوقفه الرجل المنتمي لـ “العظام القاحلة” عند الباب.
“كلا. سأخرج قريباً. انتظرني هنا، ولا تذهب إلى أي مكان”.
تركه رافائيل بابتسامة مرحة وأغلق الباب.
دحرج تاليس عينيه، وهو يشعر بالهجر في الممر، وتمتم: “هراء، ماسحو مؤخرات”.
ظل الهدوء يسود الممر. وشعوراً بالملل، خطا تاليس بضع خطوات ليتأمل اللوحات المعلقة على الجدران: معظمها كانت لرجال في ريعان الشباب أو في منتصف العمر، تبدو عليهم ملامح الوقار أو التسلط.
وفي المقابل، استوقفت بصره لوحة فريدة من نوعها:
كانت لوحة كاملة لامرأة.
كانت متكئة على أريكة داكنة بوضعية ممتدة، بشرتها ناصعة البياض وجميلة، ولها ملامح صارخة. وبملابسها الغريبة، لم تتردد في كشف ساقيها الممشوقتين لتظهر قوامها المثير والجذاب. وتحت ريشة الرسام الماهرة، حتى أصابع *قدميها بدت رائعة وفاتنة.
*( اصبحت اشتم رائحة Fetish للأقدام )*
ولكن على عكس قوامها المغري، كان تعبير السيدة غامضاً وغير مبالٍ، وكأنها لا تعبأ بكل ما يحيط بها.
وبينما كان تاليس يتأمل اللوحة بهذين الجانبين المتناقضين، بدا وكأنه يرى حيناً قواماً فاتناً، ويشعر حيناً بنبالة لا تُمس.
نظر تاليس تحت الإطار:
[إلفا ساردو كار ميمو هانبول، 39 – 77]
“هذه إلفا”، قال صوت غليظ من خلفه بلكنة الصحراء الغربية المألوفة، “يسمونها (جميلة الشرق). هذه واحدة من اللوحات النادرة لها التي لم تُدمر أو تُحرق”.
التفت تاليس، وشعر بالدهشة حين رأى من كان خلفه.
“انتظر لحظة، أنا أعرفك. أنت..”
كان الرجل حسن الهندام وبشرته تميل إلى السمرة، انحنى لـ تاليس باحترام وبدا تماماً كما كان في مخيم أنياب النصل: “نورب يا صاحب السمو، في خدمتكم. إنه لمن دواعي سروري أن ألتقي بكم ثانية، ويسعدني أن أراكم بصحة جيدة وفي حال جيدة، الأمير تاليس.. أو بالأحرى، دوق بحيرة النجوم؟”
تفرس فيه تاليس بدهشة طفيفة، متأكداً أخيراً من هوية الرجل.
لقد كان هو الكادر من ديوان الاستخبارات السري الذي تجرأ على مواجهة “الجناح الأسطوري” أمام جيش بأكمله في مخيم أنياب النصل.
نورب.
ولكن..
“لماذا أنت هنا؟”
انتقل بصر تاليس إلى ساق نورب اليمنى لا شعورياً.
لم يبدُ أي شيء غير طبيعي في الظاهر، لكن الأمير لاحظ أن يد نورب اليمنى كانت تقبض على عكاز لدعم نصف جسده.
ابتسم نورب ابتسامة واهنة، محتفظاً باحترامه المعهود: “لقد عدت لتقديم تقرير.. عن حادثة الصحراء الغربية”.
فهم تاليس الأمر.
“أرى ذلك”، تردد تاليس لجزء من الثانية قبل أن يسأل فجأة: “كيف.. كيف حال ساقك؟”
تجمد نورب في مكانه.
التفت ببطء ليحدق في ساقه اليمنى، ثم في عكازه، وبدا منكسر الخاطر.
“شكراً لاهتمامك. لدى ديوان الاستخبارات السري أدوية فعالة، ولكن..”
أجبر نورب نفسه على ابتسامة ساخرة من الذات وأشار إلى العكاز في يده اليمنى: “يجب أن أتعلم الاعتياد على هذا الشيء الآن”.
ساد الصمت بينهما للحظة.
استحضر تاليس كيف قام رومان، من أجل التغطية عليه، بكسر ساق نورب اليمنى بغير وجه حق في الصحراء، وشعر بالذنب.
“أنا آسف”.
هز نورب رأسه ونحّى حزنه جانباً: “ليس خطؤك. وعلاوة على ذلك، لولا هذه الساق،” ضحك بهدوء، “ربما لما سمحوا لي بالعودة بهذه السهولة. من يدري، لعلها منحة في طي محنة”.
لم يعرف تاليس بماذا يرد على سخائه وتواضعه.
وبدا أن نورب لاحظ الجو المحرج، فالتفت بسرعة لينظر إلى المرأة في اللوحة، وحاول طرد الكآبة بتغيير الموضوع: “على أية حال، تنحدر إلفا من سلالة هانبول في شبه الجزيرة الشرقية. وبحسب الأقاويل، فهي الوريثة الباقية لـ (كاديلاك العظيم) آما ميمو هانبول في المنفى”.
“إلفا”.
شعر تاليس بالحيرة: “إذاً، إلفا؟ هي أجنبية، وامرأة.. وعضوة في ديوان الاستخبارات السري؟”
ومن الغريب أن نورب هز رأسه قبل أن يومئ بالإيجاب مباشرة.
“بعد أن فشل (عين الظلام) جون الأول في حملته الشمالية وأقال (رئيس الوزراء الحكيم) هالفا، فقد ديوان الاستخبارات السري مصداقيته، وفي وقت ما، كان مستقبله مجهولاً”.
حدق نورب في المرأة الأجنبية بنظرة عميقة: “حتى قرر (عين الظلام) أن يهدي هذه اللعبة التافهة لعشيقته العزيزة.. كمنصب غير ذي أهمية كمكافأة، أو ببساطة يمكنني القول، كهدية.. لإقناع الوزراء بالسماح له بإبقائها بجانبه”.
“عشيقة الملك؟”
التفت تاليس لا شعورياً ليلقي نظرة فاحصة على السيدة إلفا هذه.
لا تزال صاحبة اللوحة تبدو غير مبالية بوضعية مريحة، لا يزعجها بصر الرائي.
“بتحمل الازدراء والعداء من الضغوط الداخلية والخارجية، كافحت إلفا من أجل ميزانية هذا القسم المهمل والمحتضر الذي كان يعاني من تدني الروح المعنوية، وأعادت تنظيمه والحفاظ عليه”.
تنهد نورب: “هذا صحيح. خلال تلك السنين، تحكمت (جميلة الشرق) في تدفق المعلومات الاستخباراتية ووسعت شبكة المعلومات. كانت هي العقل المدبر لديوان الاستخبارات السري، كانت هي رئيسة الاستخبارات”.
استغرق في أفكاره وأضاف: “وقد أدت عملها ببراعة. ببراعة فائقة. لذا بعد وفاة (عين الظلام)، اتُهمت بقتل الملك وأُرسلت إلى المقصلة، وسط نبذ الناس لها”.
صُدم تاليس حين أدرك ما سمعه للتو: “ماذا؟ قتل الملك؟”
ضحك نورب وهز رأسه: “(عين الظلام) ليس من النوع الذي يضع ثقته في الأشخاص الخطأ، خاصة وأنه استطاع إقناع العشائر العشر الكبرى بتجاوز خلافاتهم والاجتماع معاً، وحتى اضطراره لطلب المساعدة من التنين العظيم لإنقاذ المملكة من الدمار”.
اتكأ نورب على عكازه، وخطا بضع خطوات للأمام وأشار إلى النص المطرز بالخيوط الذهبية تحت اسم إلفا:
[الخطط كالنساء الساقطات، لا تثق بهن.. حتى لو دفعت الثمن سلفاً.]
“بعد (عين الظلام)، ورث أبناؤه الثلاثة طموحاته، لكن لم يمتلك أي منهم بصيرة والده”.
“أعرف هذا الجزء. في نهاية القرن الأول من تقويم الإبادة” استلم تاليس الكلام، “انقسمت النجوم الثلاثة، وانقلب الأخ على أخيه. تمزقت الأرض في معركة على العرش وعصفت الحرب بالمملكة”.
أومأ نورب برأسه بنظرة عميقة.
“لذا، عندما لا تملك الجدارة والسمعة المتكافئتين، ولكنك تنوي تجاوز أخويك لترتدي رسمياً التاج الملكي ذو النقاط التسع الذي تركه والدك..”
حدق في إلفا وقال بصوت خفيض: “أسهل طريقة هي الانتقام للملك الراحل. ومن أجل الانتقام..”
فهم الأمير الأمر بسرعة، ورفع بصره في ذهول وقاطع قائلاً: “عليك أولاً أن تجد قاتلاً”.
حدق تاليس في السيدة الفاتنة على الجدار.
“لقد رأيت هذه الحبكة من قبل. جاسوسة أجنبية ومتشردة يعشقها الملك الراحل وفي الوقت نفسه يخشاها الجميع، ولكن بالمصادفة، تمتلك أيضاً جمالاً ومهارة لا مثيل لهما،” بدأ الشاب يستوعب الأمر، وقال بصوت خفيض: “فيما يتعلق بقتل الملك، لا يوجد كبش فداء أفضل منها”.
أومأ نورب برأسه.
حدق الأمير في قوام إلفا الفاتن وتخيل المشهد حيث كانت هذه الجميلة الأجنبية آنذاك —رثة المظهر، تغطيها الجروح والكدمات ومكبلة بالأصفاد— تعرج وحيدة نحو المنصة باتجاه المقصلة وهي تتحمل نظرات المتآمر الباردة ولعنات الآلاف.
لعل رأسها كان مرفوعاً عالياً في تلك اللحظة.
وكأنه عرف ما كان يدور في خلد تاليس، أخذ نورب نفساً عميقاً وابتسم.
“لا تقلق. بعد تتويج (ملك السلام) كيسيل الأول، منهياً انقسام النجوم الثلاثة وموحداً المملكة، تمت تبرئة (جميلة الشرق)”.
شعر تاليس بالارتياح.
حدق في إلفا في ريعان شبابها وشعر بنوع من العزاء: “لهذا السبب لا أزال أرى لوحتها هنا”.
لكن نورب هز رأسه معترضاً: “إنها لوحة أُعيد رسمها”.
التفت تاليس بدهشة.
“حين اكتملت هذه اللوحة، كانت (جميلة الشرق) قد فارقت الحياة”، تنهد نورب، “اضطر الرسامون والحرفيون إلى استعادة أناقتها السابقة حين كانت تجوب قمم السلطة وتحكم العالم السري بوقارها الأنثوي. ولكن كما ترى، ومهما استنفدوا مواهبهم وخيالهم..”
بإمعان النظر في إلفا، التي صُورت بمنحنيات مغرية، هز نورب رأسه بخيبة أمل.
ساد الصمت بين تاليس ونورب لفترة.
استجمع نورب شتات نفسه وسأل: “هل تنتظر أحداً؟”
“نعم”، أجاب تاليس بشيء من المرارة. “المؤخرات”.
لمح الأمير نحو الغرفة التي دخلها رافائيل، وهز كتفيه: “هو.. لن يخرج قريباً”.
“في هذه الحالة،” أشار نورب نحو اللوحة التالية في الممر، “إذا لم يكن لديك مانع؟”
أومأ تاليس برأسه ومشى معه.
كان هذا أكثر إمتاعاً بكثير من دروس القواعد التي يلقيها العلامة بونار ومسرحيات رافائيل الساخرة.
رفع نورب ذراعاً وأشار إلى الجدار المقابل: “كامبل تابارك، المعروف أيضاً باسم (القمر المظلم)”.
التفت تاليس.
[كامبل و. ب. تابارك، 137 – 215]
“تابارك؟ العائلة الحاكمة لتل حافة النصل، قمر دم مدينة النصل؟”
فكر تاليس في الدوقة ليانا التي لم يرها منذ سنوات.
كان الرئيس كامبل في اللوحة في منتصف العمر، ممتلئ القوام وله مظهر نبيل. ولسوء الحظ، كانت ابتسامته متصلبة ومضحكة جراء إلقاء ثقل جسده بالكامل على العكاز أمامه ومحاولته طي بطنه وإبراز صدره. وبالإضافة إلى انحسار خط شعره.. في عالم آخر، ربما كان سيُعتبر “ليس بفوتوجينيك”.
*(“unphotogenic كسلان اشرح)*
“لقد كان رئيس الاستخبارات الذي خدم ثلاثة ملوك من نهاية القرن الثاني إلى بداية القرن الثالث”.
أومأ نورب برأسه: “من (كاسر الصفوف) سومر الأول، إلى (الملك الصاعد) آلان الأول، إلى (قاطع الشوك) تورموند الثالث، اعتمد عليه هؤلاء الملوك الثلاثة كذراعه الأيمن ووثقوا به كثيراً”.
“الملك الصاعد”.
عند ذكر هذا الاسم المألوف، لم يستطع تاليس إلا أن يقارنه بدرس التاريخ الذي تلقاه من جيلبرت. وبعد استيعاب شيء ما، استحالت تعابير وجهه إلى البرود.
رثى نورب حاله قائلاً: “لا تنخدع بمظهره. فمن الصعب على الناس الذين ولدوا في عصرنا هذا أن يتخيلوا مدى عظمة وأهمية ونتائج مساهمات الرئيس كامبل في مملكتنا”.
“ولماذا ذلك؟”
أخرج نورب زفيراً: “لأنه في كتب التاريخ، لا يرى الجميع سوى الملوك ورؤساء الوزراء، والجنرالات والدوقات، يثنون على بصيرتهم وحكمتهم وإنجازاتهم، لكنهم يجهلون، أو يتجاهلون عمداً، القذارة الكامنة في الظلام. ولأننا لا نستطيع أن نتخيل، في العصر الذي سبق كامبل تابارك، مدى رعب سلطة ونفوذ معبد الغروب داخل المملكة — فقد كانوا قادرين على التدخل في مجموعة من الأمور، من الأمور الجوهرية مثل منح الإقطاعيات، والحكم، والميراث، إلى الأمور التافهة مثل الزواج والجنازات والحياة اليومية”.
“أمر واحد كان بوسعه تغيير كل شيء، كلمة واحدة كانت قادرة على تقرير المصائر”.
غرق تاليس في التفكير، فتمتم نورب وهز رأسه: “في ذلك العصر، كان صولجان الملك أخف وزناً من رداء الأسقف، وولاء الناس كان نابعاً من تقواهم، ونظرة السَّامِيّن كانت هي قدر العالم”.
رفع نورب بصره، وكانت تعابير وجهه مهيبة: “ولكن منذ أن تولى الرئيس كامبل مسؤولية ديوان الاستخبارات السري وأعان الملك، وحتى تقاعده بسبب كبر السن ووفاته في مدينة النصل، مر نصف قرن مضطرب.. انقسم مؤمنو الغروب إلى فصيلين: الكنيسة والمعبد. وانخرطوا في نزاعات لا تنتهي وعانوا من الانحدار بسبب الصراع الداخلي. لم يعد بإمكانهم التدخل في خط الخلافة للعائلة المالكة، ولا التدخل في السياسات السياسية للمملكة، ناهيك عن إملاء الحياة اليومية للناس”.
قطب تاليس جبينه. تراءت أمام عينيه الكاهنة ميلغن وهي تشرح “المعركة بين الأكبر والأصغر” في درس اللاهوت — أوه، وتلك الراهبة الشابة القلقة أيضاً.
“في النهاية، عادت السَّامِيّن سامية ومتعالية مرة أخرى. ولم يجد مؤمنوهم خياراً سوى حني رؤوسهم المصلية للتاج الملكي ذو النقاط التسع والانسحاب تدريجياً من المركز السياسي للكوكبة”.
حدق نورب في كامبل ذو المظهر العادي بعينين لامعتين: “خلال هذه الفترة، قدم الرئيس كامبل مساهمات عظيمة رغم أنها لم تحظَ بدعاية واسعة”.
“بالتأكيد”.
وقف تاليس أمام لوحة كامبل، وفكر: “لا يمكنك الحكم على الكتاب من غلافه”.
لكنه تسرع في حكمه؛ لأن اللوحة التالية التي أشار إليها نورب كانت لرجل عجوز أحدب بدا وكأنه قد خاض غمار الصعاب.
[ويليام، 226 – 306]
[بدلاً من أن تجعل الرجال يخشونك، اجعلهم يستخفون بك.]
“ويليام الأحدب”، هكذا عرفه نورب.
بدا ويليام في اللوحة عادياً ومتواضعاً، لم تكن له سمات بارزة فحسب، بل إن حدبته جعلته يبدو مشوهاً وقبيحاً.
“أول رئيس استخبارات لم يولد من النبلاء — وكما ترى، ليس له اسم عائلة. ومنذ منتصف القرن الثالث، كان مسؤولاً عن ديوان الاستخبارات السري لمدة خمسين عاماً، مؤدياً واجباته بضمير واجتهاد”.
نقر نورب على الأرض بخفة بعكازه، وحدق في حدبة ويليام وبدا وكأنه يشعر بصلة عميقة معه: “عندما يتحدث الناس عن أسطورة وصاية الإمبراطورة الأرملة (المسمار الحديدي)، وكيف سادت خلال سبع سلالات، فإنهم دائماً ما يهملون ذكر هذا المسؤول غير البارز الذي خدم خلال نفس الفترة”.
استغرق نورب في سرده وكاد ينسى وجود تاليس.
“ولكن ويليام، رئيس الاستخبارات هذا الذي لم يملك مآثر بارزة ولا سمعة النبلاء، هو من — جنباً إلى جنب مع الإمبراطورة الأرملة (المسمار الحديدي) — دعم مملكة الكوكبة خلال أضعف وأظلم وأخطر نصف قرن في تاريخ المملكة”.
خفض تاليس رأسه وفكر في أصول غرفة بالارد.
“هل أصابك الملل؟”
“بالطبع لا”، أفاق تاليس من ذهوله وأجاب بكياسة تامة: “أرجوك استمر”.
لمعت عينا نورب: “آه، لقد وجدتها. ستكون بالتأكيد أكثر اهتماماً بهذا السلف لديوان الاستخبارات السري”.
قاد تاليس للأمام، متجاوزاً بضعة رؤساء استخبارات، وتوقف أمام اللوحة الأكثر تميزاً.
بُهت تاليس؛ فعلى عكس اللوحات الأخرى، كانت هذه اللوحة مؤطرة بإطار فضي، مما جعلها متفردة.
وما لفت انتباهه أكثر، كانت المرأة الشابة في اللوحة.
كانت تمتطي حصاناً وهي ترتدي درعاً كاملاً، تمسك باللجام بيد وبالسيف بالأخرى. كانت تبدو واثقة وربيطة الجأش، وكأنها ستقتحم الإطار وتخترق قلب المشاهد بسيفها في أي لحظة.
كانت هذه هي اللوحة الأنثوية الثانية التي رآها تاليس في ديوان الاستخبارات السري، الأولى كانت إلفا.
والأهم من ذلك — ضيق تاليس عينيه لينظر إلى النقش المحفور على درع السيدة، فتملكه الذهول:
“أجل.. إنها.. النجمة ذات النقاط التسع”.
إن أعجبتكم الترجمة، أتمنى منكم دعمي بالدعاء لأهلنا وإخواننا في فلسطين والسودان، جزاكم الله خيرًا.
تمت ترجمته بواسطة طابخ الاكوابRK
✨ عضوية مميزة في فضاء الروايات ✨
🚫📢 تخلّص من الإعلانات المزعجة
💖 استمتع بتجربة قراءة سلسة ومميزات حصرية مقابل مبلغ رمزي
📌 ملاحظة: أرسل اسمك في الموقع عند الدفع ليتم تفعيل العضوية ✅
جميع ما يتم ترجمته في الفصول منسوب إلى المؤلفين، ونحن بريئون من أي معانٍ تخالف العقيدة أو معانٍ كفرية وشركية.
هذا مجرد محتوى ترفيهي فلا تدعه يؤثر عليك أو يلهيك عن دينك.
استغفر اللـه وأتوب إليه.