سلالة المملكة - الفصل 546
📏 حجم الخط
✍️ نوع الخط
🎨 الخلفية
🖥️ عرض النص
دعم سلالة المملكة لزيادة تنزيل الفصول :
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
الفصل 546: فلنمت كأخلاء، خيرٌ من أن نهلك كأعداء (1)
أجل. لقد انصرم زمنٌ مديد، مديدٌ جداً منذ فكر تاليس في هذا الاسم.
سيرينا كورليوني.
حتى إنه اضطر للإقرار بأنه في أحيان كثيرة، قد أوصد أبواب ذاكرته عمداً دون ذلك الاسم في غياهب النسيان.
لم يكن راغباً في التفكير فيه، بل مقت مجرد الخاطرة.
ولكن حين عاد التفكير يراوده، كان لا يزال يستشعر ذلك القلق الذي ينبع من أعماق فؤاده.
(الخيانة هي الجوهر الحقيقي للتحالف).
وبينما أضحت الذكرى أكثر جلاءً، وكاد ذلك الوجه يتجسد في ذهنه، رفع تاليس رأسه بغتةً وصب جام تركيزه أمامه مباشرة.
“ما الذي تبغيه؟” نظر الأمير إلى زين بريبة. “لِمَ ذكرتها؟”
في وسط القاعة، كانت مراسم التوسيم لا تزال جارية. وبين الفينة والأخرى، كان أحد النبلاء يرتقي الدرجات ويجثو أمام مجلس الملك.
ابتسم دوق زهور السوسن ابتسامة خفيفة ورفع كأسه نحو الشاب. “هذه، يا صاحب السمو، بوسعك عدّها… هدية المأدبة مني.”
لزم تاليس السكون، وكانت نظرته باردة.
انتظر زين ملياً، بيد أن الشاب لم يبدِ أي نية لرفع كأسه رداً للتحية.
تجاهل الأمر، وابتسم ثم وضع كأسه.
لكنه قطب جبينه فجأة وجال ببصره في الأرجاء. “أهو وهمٌ تملكني، أم أن حراستك أمست أكثر توجساً وصرامة من المعتاد؟”
“ماذا، أيشكون في أنني سأؤذي الأمير؟”
تشنجت أعصاب تاليس لكنه حافظ على رباطة جأشه. “قائد حرسي الشخصي دؤوب وصارم مع رجاله.”
ابتسم تاليس تجاه مالوس وجلوف، مشيراً إليهم مراراً بتهدئة الروع.
استدار دوق بحيرة النجوم؛ وقد لمعت عيناه.
“أما عن الشك فيك… حسناً، لا يمكنك لومهم حقاً.”
“أنت تعلم، تلك الهدية التي منحتني إياها قبل ست سنوات، لم أهضمها بالكامل بعد.”
ابتسم زين. “إذن أنت بحاجة ماسة لهذه الهدية أكثر—ستعينك على هضم السابقة.”
“وكيف ذلك؟” سخر تاليس متهكماً.
وبمشاعر استعصت على فهم الغرباء، حدق كل منهما في الآخر صامتاً لثوانٍ.
أخيراً، سأل تاليس بهدوء: “إذن، سيرينا، أين هي؟”
ابتسم زين.
رفع يده برشاقة، واستدعى نادلاً وطلب حصة من اللحم البقري وسط نظرات تاليس المستاءة. ووسط رنين أدوات المائدة الخافت، شرع يتحدث بتؤدة: “بما أنها تسببت لنا بخسائر فادحة قبل ست سنوات، فإن تلك *الميكافيلية القاسية من مملكة الليل كانت في فترة نقاهة داخل (كوكبة) لبعض الوقت.”
*( فقط في حالة كنت تحت صخرة ولا تعرف معنى الميكافيلية، دعني اشرح ببساطة; هي بكل اختصار تعتمد على مبدء المصلحة ثم المصلحة فقط ولا يهمها ما يحدث للآخرين وتم تسميتها على ( نيكولا ميكيافيلي) كاتب كتاب الامير. ابحثوا عن المصطلح لتفاصيل اكثر)*
وكأنه حديث عابر مألوف.
تدبر تاليس الأمر لبرهة.
“لديها جرأة.
“بعد إثارة كل تلك القلاقل، واستعداء كل هؤلاء القوم،” استذكر تاليس تهديداتها والأذى الذي ألحقته به وسخر قائلاً، “أتجرؤ على البقاء في (كوكبة)؟”
لكن تاليس توقف هنيهة.
رفع رأسه وحدق في زين بثبات وعدم تصديق.
التقط زين قطعة من اللحم وبادله الابتسام.
بدأ تاليس يستوعب الأمر.
“أنت.”
وبشيء من الدهشة، قطب تاليس وقال متابعاً: “تخميني هو، حينما انهارت علاقتك بعائلة كورليوني، فإن تلك المرأة ذات الوجه الدميم—أعني، سيرينا كورليوني التي خانت عائلتها وهجرتهم، أصبحت حليفك الطبيعي؟”
تناول زين قطعتين وتوقف. حافظ على ابتسامته وهو يمسح زوايا فمه بمنديل المائدة.
“بعد أن طردت الليدي سيرينا من قبلك، قمت أنا، أه، بتوفير المأوى لها.”
كما هو متوقع.
انحسرت الدهشة تدريجياً عن محيا تاليس.
“أذكر أن أحدهم أخبرني بذلك.” نظر إليه الشاب بازدراء، “إن تشاركت قارباً مع ابن آوى وذئب، فإنك تخاطر بانقلاب القارب بك.”
في تلك اللحظة، جمدت تعابير زين قليلاً.
“لا سيما قبل أن تغرق في العشق والهوى وتتشابك عاطفياً مع سيرينا كورليوني.” سخر تاليس بنبرة نصفها صادق ونصفها متهكم. “صدقني، أنا أتحدث عن تجربة.”
لاذ زين بالصمت لبرهة.
لكن في جزء من الثانية، رفع دوق زهور السوسن رأسه ورد بابتسامة لائقة.
“أجل، صحيح جداً،” أومأ بأدب، “اكتشفت ذلك بنفسي لاحقاً.”
سرت برودة خفيفة في عيني زين. “خاصة بعد أن حطمت أغلالها، واستنزفت دماء قلة من رجالي، ثم ولت هاربة دون وداع.”
حطمت أغلالها…
أدرك تاليس الأمر. “يبدو أن المأوى الذي وفرته لم يكن جيداً للغاية.”
لكن بما أنها سيرينا، فوضع الأغلال عليها…
أجل، أحسنت يا زين الشاب.
رفع الأمير إبهامه له في قلبه:
أحسنت صنعاً.
داخل القاعة، وصلت مراسم التوسيم أخيراً إلى خواتيمها.
وعاد صدى الموسيقى يتردد مع عودة العازفين إلى المنصة. بات الصخب والضجيج العنوان الرئيسي للمأدبة مجدداً. ولعل مرور الوقت جعل الضيوف يميلون للسكر، وسواء تجمعوا مع خلانهم أو في زمر صغيرة، فقد بدؤوا يتحررون من قيود الكلفة شيئاً فشيئاً.
حتى أن تاليس لاحظ اختفاء العديد من الضيوف رجالاً ونساءً من البقعة ذاتها تباعاً، ولم يعودوا حتى بعد وقت طويل.
كان الملك كيسيل قد عاد إلى مقعده، لكن الملكة كانت قد غادرت منذ أمد. بدا وحيداً بعض الشيء.
رمق الملك تاليس بنظرة خاطفة لثانية قبل أن يصرف بصره.
بدت ملامح الحرس الملكي بجانبه صارمة كالمعتاد، لكن تاليس، الذي كان يدرك ما يجري، استطاع بوضوح استشعار ارتياحهم البالغ.
المغتال لم يظهر.
كان ذلك خبراً جيداً.
وخبراً سيئاً في آن واحد.
رفع زين كأسه قليلاً بنظرة ذات مغزى في عينيه، جاذباً تاليس للعودة إلى الحديث القائم.
“إن الطريق البحري لشبه الجزيرة الشرقية يدر أرباحاً طائلة.” استنشق دوق زهور السوسن عبق نبيذه بخفة. “منذ النكبة التي حلت قبل ست سنوات، وعائلة كوفندير تتحين الفرصة لاستعادة العلاقات مع عائلة كورليوني وإصلاح ذات البين.”
“لذا أنا أفكر، أن مجرمة العائلة المطلوبة التي يلاحقونها، قد تكون هي نقطة الاختراق.”
رفع تاليس حاجبيه.
“إصلاح ذات البين؟ بعد أن حاولت جعل ملكة الليل تغتال أمير (كوكبة) نيابة عنك؟”
نطق الأمير بالحقيقة دون أي عبء نفسي، وكانت نبرته متهكمة. “أخشى أن الأمر لن يكون بتلك السهولة.”
“لا يزال يتوجب علي المحاولة.” ابتسم زين مجدداً، بأناقة مثالية.
“فلنمت كأخلاء، خيرٌ من أن نهلك كأعداء.”
هز تاليس رأسه غير موافق.
لكن صوتاً صغيراً في قلبه همس:
كلا.
إذا ما تمكنت عائلة كوفندير حقاً من أسر تلك العجوز الشمطاء وإرسالها لشقيقتها كهدية…
سحب تاليس نظراته من زين وقطب جبينه.
قد تكون لديهم فرصة حقيقية للمصالحة.
لحسن الحظ، حطمت سيرينا أغلالها ولم يظفر بها زين.
أجل، أيتها المرأة ذات الوجه الدميم.
أومأ تاليس سراً بالموافقة لغريمه:
أحسنتِ صنعاً.
وضع الأمير ورقة خس في فمه وهو يتدبر الأمر. “لكنك ذكرت أن بحوزتك آخر الأخبار عنها؟”
أومأ زين. “على أية حال، بعد ذلك، أولينا اهتماماً خاصاً لتحركات الليدي سيرينا.”
“طوال السنوات الست المنصرمة، ظل مكان تواجد هذه الشخصية المنفية من مملكة الليل غير واضح المعالم. يبدو أنها جابت كل الأرجاء من (مدينة ريفول) إلى (سانلاست). حتى شوهدت قبل بضعة أيام في (تحالف الحرية).”
تحالـ…
تجمد تاليس للحظة قبل أن يرفع رأسه فوراً.
“أين؟”
ابتسم زين.
“هذا صحيح. تحالف الحرية الذي جار عليه الزمن يبذل قصارى جهده للبقاء. ضارباً بالكرامة والثمن عرض الحائط، إنهم يطلبون باستماتة من ذوي الطموح الانضمام لقضيتهم العادلة، بغض النظر عن أصولهم أو ماضيهم.”
“من المجرمين إلى المرتزقة، ومن الأوغاد إلى السفاحين، إنهم يقبلون أي أحد، ويريدون كل أحد، بغية مقاومة العدوان الجائر من (إيكستيد).”
“والليدي سيرينا هي واحدة منهم. بل وحظيت بالتكريم كضيفة هامة.”
تلك المرأة ذات الوجه الدميم في… تحالف الحرية؟
تعين في القتال ضد (إيكستيد)؟
ومضت في ذهنه الأخبار التي نقلها جيلبرت، عن هزيمة (إيكستيد) والمصير المجهول لقائدهم العام.
وتراءى وجه ساروما، الشجاع والمثابر، أمام ناظريه كذلك.
لكن ما تلا ذلك كان صورة أمست أكثر وضوحاً وجلاءً؛ صورة اكتنفت الوقار والفتنة، السحر والقسوة؛ وجهان، أحدهما كبير والآخر صغير—صورة سيرينا كورليوني.
هبط قلب تاليس وشعر باضطراب يعتمل في داخله.
مستحيل؟
(أهذا أنتِ مجدداً أيتها الشمطاء العجوز؟)
سرى شعور غريب في عنقه، وفي معصمه، وفي كل جزء منه نالته عضات (عشيرة الدم).
“بالطبع، هذا الأمر ينطوي على (إيكستيد)، لذا ربما يكون لديك فهم أفضل له مني. ما رأيك؟” رشف زين رشفة من نبيذه.
حدق تاليس في كأس نبيذ زين وهز رأسه بازدراء.
“سيكون ذلك كمن يتجرع السم ليروي ظمأه.
“ولكن أياً كان ما تورطت فيه تلك الشمطاء العجوز، فلن يكون أمراً محموداً.”
رفع زين حاجبيه؛ لم ينكر ذلك.
غرق تاليس في التفكير، ولم ينبس زين ببنت شفة. جلس كلاهما قبالة الآخر في صمت لبرهة.
إلى أن انتفض تاليس من شروده. “أهذا كل شيء؟ لا شيء آخر؟”
رفع زين بصره إليه. “هذا كل شيء.”
زم تاليس شفتيه وأومأ، ناوياً صرف ضيفه. “إن كان الحال كذلك…”
في هذه اللحظة، رفع زين ذراعه وأشار إلى نبيل وسط الحشود كان أنفه محمراً من الشراب، لكنه كان في قمة انشراحه والكل يغدق عليه التهاني.
“انظر، تلك عائلة رورشينانتر. بعد جيلين، أصبحوا أخيراً أتباعاً بالوراثة.”
جاءت نبرة زين مطولة. “ولكن من يدري كم سيدوم ذلك؟”
عقد تاليس حاجبيه قليلاً، مفكراً فيما يرمي إليه زين.
لكن في اللحظة التالية، باغتته كلمات دوق زهور السوسن.
“تاليس،” كان زين لا يزال ينظر إلى اللورد رورشينانتر وسط الحشد بنظرة عميقة، وهو يقول بخفوت، “أتعلم كيف نشأت العلاقة بين الحاكم الأعلى وأتباعه؟”
ذهل تاليس.
كانت هذه المرة الأولى الليلة التي ينادي فيها زين تاليس باسمه مباشرة، دون أي ألقاب.
تفرسه الأمير بذهول.
بدا الدوق الحامي للساحل الجنوبي مستغرقاً في أفكاره وهو يتابع بشرود: “حينما خطا البشر لتوهم خارجين من (حقبة الهمجية)، وقبل أن تولد الإمبراطورية وحينما حكم ملوك كثر، لم يكن العالم ينعم بالسلام.”
“في عصر الحروب والاضطرابات، انضوى الضعفاء تحت لواء الملوك ذوي القوة والجيوش والأراضي، وبايعوهم طلباً للحماية.”
“وفي المقابل، توجب على المحميين أن يقودوا عائلاتهم وأصدقاءهم لفلح أرض الملك وجني المحاصيل، مقدمين العمل ثمناً للحماية.”
حول زين اهتمامه إلى مجموعات الضيوف التي دنت من الملك.
“المملكة الشوفينية القديمة، الأرض الشمالية، التلال الصخرية، رودول، الجبل البعيد، سورينلان… كل الممالك البشرية القديمة تأسست بهذه الطريقة، بلا استثناء.”
ضيق زين عينيه ونظر إلى الملك كيسيل من مسافة بعيدة.
“الأمن هو واجب الملك، وحق التابع.”
الأمن.
تذكر تاليس فجأة العهود التي قطعها الملك تشابمان في (قصر الروح البطولية) حين توج.
(بصفتي شمالياً، سأحمل على عاتقي المسؤوليات الجسام كملك لهذه المملكة، لأقف في طليعة المملكة بحكمتي وسعة صدري).
كملك لهذه المملكة.
أقف في طليعة المملكة…
حقاً؟
استذكر تاليس اليوم الذي وضع فيه تشابمان التاج الملطخ بالدماء ونظر إلى الحشود المفتونة من علٍ.
“والعمل، في المقابل، هو واجب التابع، وحق الملك.”
ابتسم زين ابتسامة باهتة، مترفعة قليلاً.
“انظر، إن جوهر تراتبية الحاكم والتابع ما هو في الحقيقة إلا صفقة.
“أنا أمنحك العمل، وأنت تسبغ علي الحماية.”
حدق نحو الطبقات السفلى من قاعة المأدبة حيث الضيوف السكارى والمبتهجين.
“إذا عجز التابع عن تقديم العمل، والخدمة العسكرية، والضرائب، فللملك الحق في طرد التابع واسترداد أرضه.”
استدار مرة أخرى لينظر نحو أعلى طبقة حيث كيسيل الخامس، الذي كان ينظر إلى الأسفل بلا مبالاة.
“وإذا لم يعد الملك قادراً على صد الغزوات الأجنبية وضمان الأمن، فللتابع الحق في التخلي عن الملك والبحث عن سيد آخر.”
قطب تاليس بشدة.
أخيراً أدرك ما يرمي إليه زين.
استدار زين وحدق بهدوء في الأمير.
“هذا الحق هو امتياز وعرف.”
خُيّل لـ تاليس واهمًا: أن دوق الساحل الجنوبي، الودود وسهل المعشر في البداية، بدا وكأنه يستعرض سطوته.
“الأتباع وحاكمهم الأعلى، الأسياد ورعاياهم، كلهم كذلك. هذا هو حجر الزاوية لحكمنا، عقد، بل وميثاق غليظ.”
واصل زين بصوت خافت: “ثنائي، متبادل، تآزري، كفتا ميزان، طرفا طريق.
“ولكن حين تميل الكفة.
“تحتاج إلى إضافة ثقل لجانب واحد لتعيدها إلى حالة التوازن.”
حدق زين بثبات في تاليس. كانت نبرته ونظرته هادئتين، لكن لسبب ما، شعر تاليس وكأنه محاصر بإحكام.
نظر الأمير إلى قاعة المأدبة الصاخبة وأنصت إلى الموسيقى الباذخة وهو يأخذ نفساً بطيئاً.
“لا يمكنني القول إنك مخطئ.”
استدار تاليس لينظر إلى زين وقال بوقار: “على الأقل، ليس تماماً.”
نظر إليه زين لبضع ثوان قبل أن يقهقه، لكن لم يتضح ما إذا كانت الدعابة أم تاليس هو ما أضحكه.
استدار الدوق كوفندير، ذو السلوك المنضبط والسمعة الطيبة، ورفع كأس نبيذه، وقد أخذت هيئته تسترخي وتتخفف من الرسميات تدريجياً.
“المثير للاهتمام، أنه مقارنة بنا، فإن العديد من الأماكن في الشرق، من (هانبول) إلى (ماني إي نوكس)، ومن (اتحاد ليجديرن) إلى (خانات دايسونغ)، لديهم حكام بأمرهم، مطلقو السلطة ومستبدون.
“كأنهم سَّامِيّن.”
ارتشف بضع رشفات من النبيذ وختم حديثه بخفوت: “متجاوزةً الإمبراطوريات.”
زفر تاليس زفرة طويلة. “لقد تذكرت الآن. ذكرتَ آنفاً أنك ارتحلت عبر شبه الجزيرة الشرقية.”
(هذا صحيح، إنه *سلحفاة عائدة).
*( مبدئيا النكتة حقته تافهة ودبسني بيها عشان اشرحه فبالمختصر سلحفاة عائدة (Returtle) تلاعب لفظي يجمع بين “عائد” (Returnee) و”سلحفاة” (Turtle) ويقصد بها الشخص الذي يعود إلى وطنه بعد العيش في الخارج، وغالباً ما تستخدم لوصف الصينيين العائدين من الخارج، وقد استخدمت هنا لوصف زين كشخص عائد من أسفاره الطويلة (وياليته ما رجع وعذبنا).)*
تهكم زين قليلاً وأدار كأس نبيذه.
عند رؤية سلوك زين العفوي على غير العادة، رفع تاليس حاجبيه. “إذن؟”
كانت عينا زاين تتقدّان حماسة وهو يتابع: “مما رأيت وسمعت، فإن الناس هناك بسطاء وطيبون، لكنهم خاملو الهمة وصبورون على الضيم. من أعلى طبقات المجتمع إلى أدناها، يهابون ويبجلون السلطة العليا، بل ويعبدونها ويمجدونها.”
“من المهد إلى اللحد، يؤمنون بأن الملك الذي يحكمهم مقدس، رفيع الشأن. يؤمنون بأن الامتثال لتقاليد الأسلاف أمر جوهري للغاية، وأن عليهم كرعايا واجب تجرع مرارة الحياة بصبر ورضا—أو بالأحرى، شرف؟”
أطبقت أصابع زين بإحكام حول كأس النبيذ.
“الفضيلة الأسمى بينهم هي التضرع بأن يكون العاهل الأعلى عادلاً رحيماً، آملين أن يكون البيروقراطيون الذين يديرون البلاد منصفين. وحينما يطغى الملك ويتجبر، يخاطر وزراؤه بحيواتهم في نصحه وتقريعه، مستجيشين عواطفه بعمق حتى يرق قلبه—كتبهم تفيض بمثل هذه القصص، كنموذج يحتذى به.”
“أخبرني أحدهم أن هذا هو تاريخهم وتقاليدهم. وما تحدده طبائعهم وعاداتهم فهو مبرر بالضرورة. رغم أنني أظن أنه في معظم الأحيان، ليس سوى خداع للنفس لا حيلة فيه.”
لم ينبس تاليس ببنت شفة.
استدار زين.
هذه المرة، غادر ذكرياته البعيدة ونظر برزانة إلى الأمير تاليس الماثل أمامه.
“خلال ترحالي، لم يسعني إلا التفكير: في مكان كهذا، حين يبلغ طغيان الملك ذروته، ويستشري فساد الحكومة إلى منتهاه، هل يكون تظلم الرعايا والخدم حينها غير منطقي بحكم التقاليد، وبالتالي واهياً وغير ذي ضرر؟”
تحولت نبرته إلى البرود. “أم يصبح أكثر عنفاً ودموية بسبب القمع المديد بلا تنفيس، محرقاً بذلك كل الجسور؟”
ذهل تاليس.
في تلك اللحظة، شعر وكأنه قد انتقل عائداً إلى (برج الأمير الشبح)، وأن الشخص الذي أمامه هو (فاكنهايز) البغيض.
(لن يخضع الحصان للسوط، ولن يكف الحوذي عن جلده).
“أذلك أفضل منا؟”
“أم أسوأ؟”
حدق زين فيه بثبات، وكأنه يستخلص إجابة من الأمير.
“نحن وهم.
“أيهما يتماشى أكثر مع مستقبل العالم؟”
لاذ تاليس بصمت طويل.
خلال هذه الفترة، نسي حتى أنه لا يزال في المأدبة، وأن الملك لا يزال حاضراً، وأن أتباعه المخلصين لا يزالون يعملون بدأب للعثور على مغتال محتمل، وأنه على بعد أميال، ربما تكون الفتاة التي خاض معها غمار الحياة والموت محتجزة.
انتظره زين بهدوء، ونظراته عميقة لكن نواياه مبهمة.
أخيراً، أخذ تاليس نفساً عميقاً وشرع يتحدث ببطء.
“لا أعتقد أننا مؤهلون، ولا أنه من الضروري، أن نحكم ونقارن.
“ناهيك عن التقرير للمستقبل.”
قطب زين، وبدا عليه خيبة الأمل.
لكن تاليس رفع رأسه ونظر إلى الحشود التي تغدو وتروح كطيف ضبابي في قاعة المأدبة وتابع بوقار: “لكنني أؤمن بأن كل شيء يحدث لسبب.
“أؤمن بأن الثابت الوحيد هو التغيير.
“أؤمن بأن لكلٍ شأنه.”
ازداد تقطيب زين.
“وأؤمن كذلك، أنه بغض النظر عن الزمان والمكان والظرف والشخصية،” نظر إليه تاليس بنظرة حازمة، “التاريخ نفسه سيختار المستقبل الأنسب لك.”
تأمل زين للحظة ثم انفرجت أساريره عن ابتسامة.
“التاريخ؟
“تتحدث وكأنه كائن حي مستقل.”
رفع تاليس حاجبيه. “أليس كذلك؟”
بدا زين محتاراً.
لكن تاليس اكتفى بالتقاط ورقة خس وتفحصها.
“لقد ولى عهد (حقبة الهمجية)، وأضحى عصر الملوك المتعددين والتقويم الإمبراطوري تاريخاً غابراً.”
وتابع بشرود: “مع ازدياد عدد الأتباع وتوسع الأراضي المحكومة، أمست الشؤون الحكومية الأساسية أكثر تعقيداً بالتدريج. ومهما بلغت سطوة الملك، ستظل هناك جوانب خارجة عن متناوله؛ فلا يمكنه أن يكون كل شيء لكل الناس.”
فكر تاليس فجأة في الملك (نوفين).
لكن ليس (الملك المولود) المهيب والشرس.
بل ذلك العجوز المحطم والوحيد الذي جلس معه على الدرجات والكأس بيده بعد المبارزة.
“لذا، في العديد من القضايا على الأرض، توجب على الأتباع وضع فؤوسهم جانباً واتخاذ قراراتهم بأنفسهم.”
استرسل تاليس بخفوت: “وبعد وفاة التابع، لم يكن لدى الملوك الوقت والطاقة لاستعادة كل قطعة أرض صغيرة وتعيين تابع آخر.”
رفع الأمير رأسه، وبدأ وجهه يكتسي بالجدية شيئاً فشيئاً.
“لذا، الأراضي التي كانت معهودة في الأصل للأتباع أمست بالتدريج وراثية، تتناقل جيلاً بعد جيل. وصار من التقاليد شيئاً فشيئاً أن تُحسم الأمور في الأراضي الإقطاعية من قبلهم وحدهم.”
“وتبعاً لذلك، أصبحت الممتلكات على الأرض الإقطاعية ملكية خاصة للأسياد، لا يمكن للملك انتزاعها بسهولة ولا للآخرين الاستيلاء عليها.”
نظر تاليس صوب دوق زهور السوسن.
“وهكذا، الأسياد أمثالك يزحفون ببطء نحو دائرة الضوء ويصبحون أبطال التاريخ، يتنافسون بطموح، ماضين قدماً وفاتحين آفاقاً جديدة.”
“ونتيجة لذلك، تطورت المملكة، وتوسعت الحضارة عبر تأثير الانتشار، مما عاد بالنفع على النظام.”
ختم تاليس بوقار: “مما خلق (كوكبة) اليوم.”
تحولت تعابير زين إلى الجدية أيضاً.
لكن ما لم يدركه دوق الساحل الجنوبي، أنه في تلك اللحظة، لم تكن (كوكبة) هي ما يشغل بال تاليس.
بل فكر في (إيكستيد).
لو لم يقم البطل (رايكارو) بتقسيم حق حكم المملكة بين الفرسان التسعة الآخرين المهرة ولكن الطموحين تحت رايته، سامحاً لهم برفع راياتهم الخاصة والانطلاق في حملات لتوسيع أراضيه في كل الاتجاهات ونشر صيت (الأرض الشمالية)…
أكان لمملكة (إيكستيد) أن تحظى بمثل هذه الأراضي الشاسعة والسمعة المهيبة؟
بل، هل كانت لتوجد مملكة أصلاً؟
سخر زين بخفة.
“مثير للاهتمام. إذن أتعتقد أن الحكم الذاتي، والاستقلالية، والاعتماد على النفس لنا نحن الأتباع هو أمر طبيعي ومبرر جوهرياً؟”
نظر إلى تاليس باهتمام.
أفاق تاليس من شروده وابتسم.
“لم أنته بعد.”
أوضح تاليس: “حينما أصبحت الملكية الخاصة للأراضي الإقطاعية إجماعاً، بلغت حقوق الأتباع ذروتها.”
“وأكثرهم تطرفاً كان بوسعهم حتى الوقوف في وجه الملوك.”
تراءى مشهد تتويج الملك (تشابمان) أمام عينيه مجدداً. وقف (الملك قاتل الأقارب) شامخاً وفخوراً، نظرته جليدية لكن نيراناً تتأجج في جوفه.
استقر تاج حراشف التنين بثبات على رأسه.
ولكن…
رفع تاليس رأسه وزم شفتيه بخفة.
في ذلك المشهد، لم يكن الواقف بصمت أمام (تشابمان لامبارد) هو الملك (نوفين) آنذاك.
بل كان ذلك الذي يقف شامخاً فوق قمة جبل سحب التنين، الذي صمد لآلاف السنين في وجه الرياح والأمطار، المهيب والساكن…
قصر الروح البطولية.
شعر تاليس باضطراب في أنفاسه.
أمامه، بدا الملك (تشابمان)، الذي كان يوماً مرعباً للغاية، شخصية وحيدة وهزيلة، وبدا ضئيلاً.
صر تاليس على أسنانه. “ولكن بسبب هذا المنحى المتنامي بالتحديد، تفتتت السلطة تدريجياً، وتحولت التقاليد شيئاً فشيئاً. لم تعد الأرض الإقطاعية ممتلكات ائتمانية جامدة في يد الملك. لقد تحررت، متحولة إلى سند ملكية للأرض، تتداول وتتحول عبر أيادٍ مختلفة، مؤثرة في معيشة عدد لا يحصى من الناس الذين استوطنوها، ومشعلة صراعات لا تنتهي حول السلطة والمصالح.”
“لذا أضمر كل تابع طموحات خاصة، واختار الناس أسيادهم، وتحارب الأسياد فيما بينهم، وتبدلت الأراضي وتغيرت الحدود بسهولة. هكذا نشأ كل هذا.”
ومض أمام عينيه الأرشيدوق (بوفريت) وعنقه مكسور في مبارزة، ورأس الملك (نوفين) المقطوع في بركة من الدماء.
وعينا (تشابمان لامبارد) الباردتان اللامعتان.
“حينما تزداد النزاعات الإقليمية عدداً وشدة، وحينما تتلاشى الحدود الفاصلة بين الملك والأتباع تدريجياً، وحينما ينقضي أجل عقد الأمن مقابل العمل شيئاً فشيئاً، وحينما تختفي آخر ذرة من نزاهة التقاليد، فإن المملكة التي تقوم على أرض كهذه ستكون على شفا أزمة.”
أخذ نفساً عميقاً وتابع: “ومع ذلك، فإن التقاليد والمؤسسات التي أنشئت أصلاً من أجل الأمن الذي ذكرته آنفاً ستصبح عبئاً زائداً ينقلب على نفسه…”
“…مُنهياً بذلك الأمن الممنوح.”
في مخيلته، نظر تاليس بصمت إلى ذلك الملك المرعب الذي كان يواجه (قصر الروح البطولية) وحيداً.
كانت خطواته دؤوبة وثابتة، لا أثر للضعف فيها.
ولكن، يا عزيزي (تشابمان لامبارد).
ما عليك مواجهته هو…
لكن في اللحظة التالية، صعق تاليس!
لجزء من الثانية، تغير المشهد أمامه.
الظل الذي أمامه لم يعد الملك (تشابمان).
بل شاباً لم يلقه قط، لكنه كان مألوفاً للغاية.
وقف الشاب منتصب القامة وشامخاً، لكنه كان وحيداً تماماً.
تجمد تاليس.
رأى التاج الفضي اللامع على رأس الشاب، مزخرفاً بشعار النجمة التساعية.
وأمام الشاب…
بذل تاليس جهداً ليصرف نظره.
رأى، شامخاً فوق الشاب…
هرماً أسود هائلاً ومهيباً، ساكناً لكنه سكون الموت، شاسعاً لكنه ثقيل، فخماً لكنه مرهق.
توقف تاليس عن التنفس قليلاً.
صبوراً ومنعزلاً تحت النجوم، راسخاً بثبات أمام شمس المغيب، صلباً وعصياً في وجه العاصفة…
كان قصر النهضة.
إن أعجبتكم الترجمة، أتمنى منكم دعمي بالدعاء لأهلنا وإخواننا في فلسطين والسودان، جزاكم الله خيرًا.
تمت ترجمته من قبل RK الحسناوي
✨ عضوية مميزة في فضاء الروايات ✨
🚫📢 تخلّص من الإعلانات المزعجة
💖 استمتع بتجربة قراءة سلسة ومميزات حصرية مقابل مبلغ رمزي
📌 ملاحظة: أرسل اسمك في الموقع عند الدفع ليتم تفعيل العضوية ✅
جميع ما يتم ترجمته في الفصول منسوب إلى المؤلفين، ونحن بريئون من أي معانٍ تخالف العقيدة أو معانٍ كفرية وشركية.
هذا مجرد محتوى ترفيهي فلا تدعه يؤثر عليك أو يلهيك عن دينك.
استغفر اللـه وأتوب إليه.