سلالة المملكة - الفصل 538
📏 حجم الخط
✍️ نوع الخط
🎨 الخلفية
🖥️ عرض النص
دعم سلالة المملكة لزيادة تنزيل الفصول :
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
الفصل 538: مشهدٌ باهرٌ من الجحيم
غاب النيّر مغرب الشمس، وانسدل الليل.
على الرغم من أن الوليمة الكبرى لم تكن قد ابتدأت بعد، إلا أن مجيء الدوقَيْن الأجَلّين سلفاً قد بعث الحيوية في أرجاء قاعة المأدبة وأجَّج أوزارها.
خارج القاعة، كانت صحائف المسؤول الإداري اللوجستي “ستون”، ورئيس أركان قصر “ميندِس”، قد امتلأت عن بكرة أبيها، وهم منهمكون في جرد المركبات والهدايا، ويتنازعون في آن واحد مع السوّاقين والمرافقين الذين يتحدثون بلهجات شتى.
وفي غياهب القاعة، كان الحشم والخدم الخاصون الذين وفدوا بصحبة الضيوف يضجون حركةً، ولا ينفكون بين الفينة والأخرى يجادلون الخدم في القاعة الثانوية في سبيل تلبية حاجات أسيادهم وطلباتهم.
لم يجد “غيلبرت” خيارا آخر وبداً من التعجيل ببدء استعراضات المهرجين والراقصين والمغنين. فقد قدم لهم المسرات والمآكل مكافأةً على حماس الضيوف (وإلهاءً لاهتمامهم). وتواترت الأنباء أن ثمة غفيراً من الذين لم يتلقوا دعوات ولم يتمكنوا من الدخول قد هرعوا إلى موقع القصر علَّهم يظفرون بحظهم في هذا اليوم المبارك.
قام “مالوس” بالتنسيق لكل شيء بمهارة واقتدار بالغين؛ فقد حدد المقاعد، وأدار شؤون الخدم، وناقش المسائل الميدانية مع رئيس الأركان في قصر النهضة، وتولى أمر الحوادث العارضة (منها على سبيل المثال نبيل وضيع أحضر بناته الست اللواتي لم يتلقين دعوة؛ ومنها إعادة تعيين “جورج” الثرثار – الذي راح يلح بإثارة على الجميع بسؤالهم هل يعرفون من هو “نجم الشمال السامي” – من طاولة الضيوف الأجانب إلى طاولة القدامى والمحنكين).
لم يملك تاليس إلا أن يتذمر في خفاء. فبالرغم من كونه *المالك الاسمي لقصر ميندِس، والواجب يقتضي منه الجلوس عند الطاولة الرئيسية مترقباً وصول الضيوف، إلا أنه لم يستطع. وذلك يرجع في المقام الأول إلى أن المأدبة سيحضرها الملك المبجَّل شخصياً، فما كان لائقاً بالفرع الثاني من الأسرة الملكية أن يكون جالساً مستريحاً. أما السبب الثاني، فهو وضع تاليس الخاص العائد حديثاً؛ فكان ثمة ضرورة ملحَّة لوضع بصمة أولى تترك انطباعاً حسناً.
*(بمعنى انه لا يملك فعلا قاعة مينديس وهو ما اره منطقيا )*
لذا، وبعد وصول حشم النجوم السبعة والدوقين الرئيسيين، كان على تاليس أن يواصل التجوال بصحبة حشد كبير من المرافقين والحرس، يذرع قصر ميندِس ذهاباً وإياباً وفقاً لترتيبات “مالوس” وإرشادات “غيلبرت” (“يا صاحب السمو، أسرع إلى هنا”، “يا صاحب السمو، يجب أن تكون هناك”، “يا صاحب السمو، أين كنت؟” – تذمر تاليس بتهكم في سره). يستقبل الضيوف المهمين المُعينين، ويسترضي من سخط على مقعده، ويرد التحية (بصرف النظر عن صدقها) بابتسامات (بالتأكيد غير صادقة) وهدايا على طول الطريق، ليُظهر أُبَّهة العائلة المالكة ووقارها، ويبدي “الضيافة الحارة والأُلفة وحسن السمت” لدوق بحيرة النجم الجديد.
صافح دوق “تلة البحر الشرقي” المدعو “بوب كولين” – وقد اعتلى رأسه شعر فضي، وانتفخ بطنه انتفاخاً بيناً، ويسنده مرافقان – تاليس بودٍ بالغ: “يا صاحب السمو، إن محياك لأطيب، وأرى فيك الصحة والعافية.”
سعل تاليس ثم أجاب: “أهلاً بك يا رئيس الوزراء، ويسرني أن أراك في صحة وافرة كذلك.”
كان الدوق “كولين” يقضي ثلاثة مواسم من أصل أربعة في السنة يتعافى من اعتلاله في مدينة النجم الخالد، ولكن هيئته السمينة والمحببة اليوم توحي بأنه لا يزال تلك الدمية المدورة اللطيفة في المملكة.
حسناً، هذا لم يكن سوى جزء من الحقيقة.
ألقى تاليس نظرة إلى الأسفل.
على الأقل، كان بطنه قد ازداد انتفاخاً الآن.
*( كأنه يتحدث عن امرأة حاملة)*
“بالضبط. فبمجرد أن نما إلى علمي أنك تخلّصت من حفرة الجحيم تلك التي تسمى برابرة الشمال، انقلبت علتي إلى صحة.”
نظر حامي تلة البحر الشرقي إلى صورة ملوك الأبراج الثلاثة، ثم قال ببهجة: “بارك السَّامِيّ السامي الكوكبة، كم اشتاقت نفسي إلى هذا القصر – ففي غابر الأيام، حين كان هذا المكان متاحاً للعموم، كنت أزوره كثيراً، ولكني لم أقدر قيمته حق قدرها. أما الآن، وقد أدبرت بي السنين وندرَت الفرص، فقد استبد بي الحنين.”
ابتسم تاليس وتظاهر بأنه لم يدرك ما كان يرمي إليه الدوق، ثم أشار إليه ليرافقه نحو قاعة المأدبة، متأكداً أن سَمْتَه لا يعتريه شائبة.
“سوف تُغرم بالهدايا التي أحضرتها إليك. لقد جلبت لك مجموعة من اللآلئ، وهي من نوادر شواطئ المرفأ الباهر، فضلاً عن البهارات والشاي والأقمشة التي شُحنت من شبه الجزيرة الشرقية؛ كل صنوف البضائع الباذخة. إنها بالتأكيد تفوق ما تجلبه تلة الساحل الجنوبي. وأنا على يقين أنك تعلم، إذا اتجهت شرقاً، أن التيارات البحرية والرياح التجارية هي في صالحنا…”
مقارنةً بعبارات *”زين” الخالية من الصدق وكلمات “كوشدير” القاسية ونظراته الصارمة، كانت ثرثرة الدوق “كولين” المتواصلة فريدة من نوعها في المملكة كذلك. المؤسف في الأمر أنها كانت بمعظمها هراءً دقيقاً قيل بطريقة ممتعة؛ فلم يكن هناك ما يدعو إلى دحضه أو مقاطعته.
( سوف اثبت على زين كونفيدير واصلحه فيما سبق من فصول)
في الماضي، كان تاليس سيتحمل ذلك كجزء من واجباته الرسمية، وينهيه بعد وصولهما إلى القاعة.
لكن الآن…
تنهد تاليس، وأرغم نفسه على مقاطعة المونولوج الودود للدوق البدين: “في وقت سابق، حاول المسؤول “جورج” من مدينة إيلافور أن يُقدّم لي بنات سيده الثلاث.”
توقفت خطوات الدوق “كولين” فجأة، وارتجف شعار سيف الشمس والدرع على صدره ارتعاشاً خفيفاً.
“بنات؟”
احتضن حزامه المُرصّع بالجواهر الذي بدا وكأنه على وشك أن ينقطع تحت ثقل بطنه.
“ثلاث؟”
توقف الدوق “كولين” برهة، ثم أمعن النظر في تاليس وتنهد بعمق: “حقاً، إنها لهنيةٌ عظيمة أن يكون المرء يافعاً…”
ابتسم تاليس في حرج.
لكن الدوق العجوز استرسل بنبرة حنين: “لو تفكر، لقد اعتدت أن أحظى بثلاثة في ليلة واحدة كذلك…
*( يا خالو هدي المعلومة الاخيرة دي ما كان لها داعي)*
“تلك العجوز الوغدة في بيت الدعارة – هيهي، أعني، سيدة نادي “لايا”، وبسبب مكانتي وإكرامياتي السخية، أصرت على أن تُضيف واحدة أخرى، لكني رفضت رفضاً قاطعاً. ففي نهاية المطاف، تُعلمنا سَّامِيّةالغروب أننا أيها النبلاء يجب أن نكون قدوة، ونتجنب الفسق، ونمارس ضبط النفس…”
*(…)*
من المرجح أن تكون قدرة هذا السمين العجوز على المقاطعة والانحراف عن الموضوع لا تُضاهى في جميع أنحاء كوكبة كذلك.
“بطبيعة الحال، في هذا الصدد، أنا لست ببراعة والدك. تتناقل الإشاعات أنه في غابر الأيام، تبارز مع ثلاثين في ليلة واحدة في سوق الشارع الأحمر…”
*(……)*
كلما سمع تاليس أكثر، ازداد ضيقه. فبادر إلى المقاطعة سريعاً: “لا، ليس هذا ما قصده مسؤول مدينة إيلافور، وبالتأكيد لم يقصدوا الثلاثة في آن واحد، بل…”
كان دوق البحر الشرقي لا يزال يحدق به بابتسامة عريضة.
تنهد الأمير وأغمض عينيه بعمق، وتخلى عن محاولاته للتوضيح، مدركاً أن ذلك لن يزيد الأمر إلا سوءاً. “أليس لديك ما تقوله حول هذه المعلومة، حول طلب الزواج من مدينة إيلافور؟”
تجمد “كولين” للحظة، وبدا وكأنه يفكر بجدية.
وبعد ثانية، أدرك فجأة: “آه! أنا آسف جداً. فجميع بناتي متزوجات ولديهن أولاد، وبعضهن أصبحن جدات كذلك.”
بدا رئيس الوزراء محبطاً بعض الشيء.
“أما بالنسبة لحفيداتي، حسناً، سأجمع بعض المعلومات عند عودتي… أجل، وسيستغرق الأمر بعض الوقت لرسم صورهن، ويفضل أن تكون صوراً لكامل الجسم، ثم سأقدم لك قائمة… لا يهم أي واحدة تختار، أو أيهن…؟”
أغمض تاليس عينيه وأطلق تنهيدة عميقة.
عندما فتح عينيه، قاطع الأمير الدوق دون مواربة: “تتمتع إيكستيدت بخط ساحلي طويل نسبياً، وتتاخم منطقتهم البحرية منطقتنا. وهذا يشمل مدينة إيلافور.”
توقف الدوق “كولين” في مكانه.
ربت على كتفي مرافقه، فانحنى الأخير وتراجع كما لو كان مدرباً جيداً على ذلك.
شعر تاليس بالارتياح.
الآن بدأ الحديث.
“سواء كانت قلعة الإصلاح أو بحر الجليد – فالأولى محصورة بجبال التنهد، والأخيرة تعاني من سواحل متجمدة – فكلتاهما تفتقر إلى الموانئ الجيدة. ففقط عائلة “*غادرو” في مدينة إيلافور، التي تسيطر على ميناءي مدينة إيلافور – والتي تربط النقل الداخلي وكذلك مدن المناطق النائية – هي القادرة على دعم أسطول قادر على الإبحار لمسافات طويلة…”
*( الكلمة الأصلية “Gaddro“لذلك تركته مثل ما هو)*
كشف تاليس تدريجياً عن نقطته الأساسية: “قادرة ومؤهلة للإبحار في بحر الإبادة، ومشاركة الكوكبة…” تحولت نظرة تاليس وهو يصحح لنفسه، “بتعبير أدق، مشاركة الموانئ السبعة الشرقية تحت حكمك – الأرباح الهائلة لطريق البحر الشرقي.”
عدّل دوق البحر الشرقي ظهره، وبدت ابتسامة واسعة على وجهه. “يبدو أن لديك إلماماً لا بأس به بالجغرافيا.”
أخذ دوق بحيرة النجم نفساً عميقاً: “لمدة قرن من الزمان، وبسبب الهيمنة غير المسبوقة لمدينة سحاب التنين، كانت مدينة إيلافور مقيَّدة في كل جانب: إنهم يتوقون إلى دعم قصر روح البطل، ولكنهم يخشون سطوة الملك، وكانوا قانعين بنصيبهم ويحافظون على مكانة متدنية في إيكستيدت كل هذه السنين، بينما يخفون قوتهم ويترقبون الفرصة.”
هز “كولين” رأسه: “أرى أن هناك ميزة في الترعرع في الشمال، أليس كذلك؟”
عبس تاليس.
تظاهر بالجهل.
لكنه لم يكن أمامه خيار.
كان عليه أن يستغل هذا اللقاء اليوم أقصى استغلال.
اختار الأمير أن يدخل صلب الموضوع مباشرة: “لكن اليوم، بادر الأرشيدوق “غادرو” بإرسال مندوب لزيارة مدينة النجم الخالد، لحضور مأدبتي.”
ضحك “كولين”: “ليطلب الزواج منك، كدليل على الود؟”
هز تاليس رأسه: “إن الغرض من زيارتهم، بما في ذلك طلب الزواج الذي يشبه لعب الصبية، هو في معظمه تظاهر واستكشاف،” لمع بريق في عيني دوق بحيرة النجوم. “ينتظرون صاحب العطاء الأوفى.”
توقف دوق البحر الشرقي لبضع ثوان.
وعندما تحدث سيد سيف الشمس والدرع مرة أخرى، استُبدلت الإيحاءات الفجة والمليئة بالدهن في نبرته باليقظة والدهاء. “ينتظرون صاحب العطاء الأوفى؟ ينتظرون عطاء من؟”
أخذ تاليس نفساً عميقاً واختار الصياغة الأكثر ملاءمة: “يا صاحب السمو، لقد حكمت البحر الشرقي وأدرت خليج البريق لما يقرب من نصف قرن. وأعتقد أنك تعرف الإجابة أفضل من أي أحد. وأعتقد، أنك تدرك أكثر من أي أحد، ماذا تعني تصرفات مدينة إيلافور اليوم، وما هو ثمن الرهان.”
حدق دوق بحيرة النجوم مباشرة في “كولين”.
التزم الدوق العجوز البدين الصمت، وكانت عواطفه مستترة خلف عينيه الماكرتين.
وبعد فترة طويلة، تحدث ببطء: “لم أرهم في مثل هذه العجلة عندما توفي الملك “نوفن”…”
لكن في اللحظة التالية، ضيّق الدوق “كولين” عينيه، وعلامة الدهاء على وجهه وهو يسأل: “إذاً، مدينة سحب التنين التي كانت تنقل الإمدادات وتعيد بيع البضائع لهم وتدعم عمليات نهبهم البحرية… ما الذي حلّ بها؟”
تنهد تاليس في داخله.
تباً لذلك الثعلب العجوز.
لم يكن أمام تاليس خيار سوى الكشف عن الإجابة له ببرود: “لقد فاز تحالف الحرية. و”لامبارد”… قد يكون على وشك الفوز كذلك.”
برز الدوق “كولين” ببطنه الكبير ووضع تعبير “اكتشفتها” على وجهه.
راقب تاليس تعابير “كولين” ونقل أفكاره الخاصة: “بدون الدعم القوي من قصر الروح البطل، اضطرت مدينة إيلافور إلى العودة إلى طبيعتها الشمالية الأصلية: لا وسائل لنقل البضائع ولا دعم لعمليات النهب. والأهم من ذلك، ليس لديهم ملك خلفهم، ولا يقين في قلوبهم. إنهم مقطوعون براً ويواجهون الغرق إذا سلكوا البحر.”
عبس “كولين” بعمق.
قبل وفاة الملك “نوفن”، كانت مدينة سحب التنين تشد الخناق وترخيه وفقاً للضرورة، فكانت كريمة وصارمة في آن واحد، وتمنح الفوائد وتسحبها لتراكم التفوق. وقد أخضعت مدينة إيلافور المتغطرسة – التي اعتمدت على ممر المنطقة الحدودية الساحلية – لدرجة الطاعة، خائفة جداً من التمرد.
كان هذا الأخير قد ضمر في صدره موقفاً متناقضاً حيال حكم آل “وولتُن”: فهم يطمعون في الدعم القوي للسيادة الملكية، بيد أنهم يخشون على الوضع المستقل لموانئهم الشمالية الرئيسية.
(”همف، يطلبون الأرز بوقاحة، ولكنهم لا يتكلفون عناء مد أطباقهم، هل ثمة صفقة مربحة كهذه في هذا العالم؟! ذلك الماعز الصغير، عديم الحول والمراوغ، لا يستحق إلا أن تُحفَر فيه كلمات “ملك مدينة سحب التنين” كفعل ساخر. وعندما شهد ذلك، لم يقم جدك إلا بالضحك ومنح المزيد من الإمدادات وأعاد بيع المزيد من البضائع لمدينة إيلافور الخجولة،“ – كلمات تفوه بها الوصي “ليسبان” ذات مرة وهو يشرح تاريخ الشمال للأرشيدوقة).
لكن الآن، إن الدعم القوي الذي يتكئون عليه ليس بلا ملك فحسب، بل هو أيضاً على وشك الانهيار.
صرّح تاليس على نحو جازم: “إن تجارة مدينة إيلافور البحرية، ستتأثر لا محالة.”
لم يتفوه الدوق “كولين” ببنت شفة.
غير أن تاليس خطا خطوة إلى الأمام واستنشق الرائحة القوية للبهارات الغريبة المنبعثة من الدوق: “لذلك أنت حر في أن تعمل بقلب لا يرحم، حينما يكون الأرشيدوق “غادرو” قد أضنته السياسات الداخلية وبات متردداً…”
غاض قلب تاليس وهو يفكر في دوافعه الخاصة في صمت.
حينما يكونون مترددين في أمر خيانة مدينة سحب التنين وتحويل ولائهم إلى الملك “تشابمان”…
حينما ينتظرون “الكوكبة” لتتفاعل وتتخذ موقفاً، وينتظرون إقليم الرمال السوداء لتقديم عرض لكسبهم إلى صفهم…
قال الأمير الثاني من الأسرة الملكية بحسم: “باشر بالهجوم واقهرهم بضربة استباقية لاستعادة الأرباح البحرية التي خسرها أسطولنا أمام أساطيل الشمال منذ العام الدامي بسبب الضعف الذي آل إليه حال مملكتنا… جميعها.”
رمش الدوق “كولين” بعينيه الصغيرتين، وعلامة الجهل الودود على وجهه.
“أرِ تِلك الفئة من برابرة الشمال ذوي الثقوب في رؤوسهم والذين يظنون أنهم قادرون على الإبحار في البحار لمجرد أنهم يستطيعون التجديف، أرِهم من هو السامي الأعظم في بحر الإبادة.”
كانت نظرة تاليس ثابتة.
لم يكن يعلم مدى فعالية كلماته.
لكن لو لاحظوا ولو بصيصاً من موقف تلة البحر الشرقي – الأناني والمستعد لركل المرء وهو في أسوأ حالاته – فإن مدينة إيلافور ستدرك قريباً:
البئر البعيدة لا تروي العطش القريب، والمستقبل لا يضاهي الحاضر.
حتى عندما بلي رمح التنين، وخفت نور الروح البطل…
فإن المعونة والدعم اللذين كان الملك “نوفين” ومدينة سحب التنين قادرين على تقديمهما لهم، بغض النظر عن عدد الملوك من آل “تشابمان” وأقاليم الرمال السوداء…
لا يمكن تعويضه.
“أعتقد أن هذا يتوافق تماماً مع مصالح تلة البحر الشرقي.”
عند هذا الخاطر، نظر تاليس إلى دوق البحر الشرقي بوقار، ورد التحية: “الفرصة سانحة، بارك السَّامِيّ السامي كوكبة.”
توقف عن الكلام.
حدق دوق البحر الشرقي في دوق بحيرة النجوم بذهول.
ومُتَفَاجِئاً بعض الشيء.
كما لو أنه عرف تاليس للمرة الأولى.
بعد فترة طويلة، وخز الدوق العجوز خصره بخفية: “تسك، تسك. أزلهم وهم في أسوأ حالاتهم… أنت تحتقر هؤلاء الشماليين احتقاراً شديداً، أليس كذلك؟”
احتقاراً شديداً.
تجمد تاليس قليلاً.
أبطأ خطوته.
استذكر تاليس تلك الوجوه من الماضي: أولاً، وجه الملك “نوفين” الذي أوقعه في الفخ وهو يقهقه ضاحكاً، ثم وجه الملك “تشابمان” الذي رفع كأسه نحوه بنظرة باردة.
وجوه الدوقات ذوي المكانة البارزة في قصر الروح البطل، كل منهم يضمر دوافعه الخبيثة.
ووجه ذلك الشخص الذي ضربه ضرباً مبرحاً حتى كاد يودي بحياته مرات عديدة، بل وتسبب له بعجز دائم – قاتل النجوم.
*( دقيقة عجز ايه؟؟ لا يكون اللي في بالي)*
عند هذا الخاطر، ثنى تاليس رسغه الأيسر المتصلب.
*( لا الحمد لله الوضع جيد يا جدعان)*
لحسن الحظ، كان يستخدم يده اليمنى في تناول الطعام.
“همف، تعلم، على مدى السنوات الست الماضية….” صرَّ تاليس الضجِر على أسنانه لا شعورياً، “لقد كرهت حقاً تِلك الفئة من… بلطجية الشمال الذين يستمتعون بالتنمر على الأطفال.”
ظل دوق البحر الشرقي صامتاً لبعض الوقت.
بطريقة ما، كان ثمة شيء غريب في نظرة “كولين” إلى تاليس.
بل إن الدوق نظر لا شعورياً إلى مؤخرة تاليس.
*( لااااا دي ما بتمشيش علينا بقى)*
بعد أن اكتشفه تاليس وهو عابس، سعل “كولين” في حرج وسحب نظره: “إنه أمر مفهوم، ولكن… ربما يجب أن تُطلع جلالته على هذا؟ ففي نهاية المطاف، البحر الشرقي هو عنق الكوكبة. هذه المسألة تشمل المملكة بأسرها.”
شعر تاليس بثقل في قلبه.
استنشق بعمق وابتسم: “نعم، يجب عليّ ذلك،” نظر تاليس نحو دوق البحر الشرقي ذي المظهر البريء. “لكنني مجرد ابنه،” واصل بوقار، “بينما أنت رئيس وزرائه. يضاف إلى ذلك منصبك كرئيس لمدينة المرفأ الباهر، وسيد لتلة البحر الشرقي بأكملها.”
ظل الدوق “كولين” صامتاً لوقت طويل قبل أن يستجيب. لكن هذه المرة، لم يعد يتحدث بتلك النظرة الماكرة واللامبالاة: “شكراً لك على هذا التذكير. سآخذ ذلك بعين الاعتبار.”
لكن نظراته تغيرت بعد ذلك. “ولكن لم؟ لم تخبرني بكل هذا؟”
كي…
يُجزي المملكة؟
تخلى تاليس عن هذا السبب الواهن وتنهد في قلبه.
“كبادرة امتنان.”
تلك الهيئة الرشيقة التي دافعت عن أمير الكوكبة وفعلت كل ما في وسعها لحمايته خلال تِلك الاضطرابات لمعت أمام عيني تاليس.
استعاد أفكاره إلى الحاضر، وابتسم لدوق البحر الشرقي: “لقد كان الفضل كله لتغيير قلبك المفاجئ في المؤتمر الوطني في الماضي، وتصويتك الجازم لي، في أنني أقف حيث أنا اليوم. هذه هي بادرة امتناني.”
زمّ الدوق “كولين” شفتيه.
تغيير قلب مفاجئ، هذه الكلمات…
“كن حذراً يا صاحب السمو.” كان لا يزال يبتسم وهو ينظر إلى تاليس ويربت على كتفه، كما لو كان يعامل ابن أخ محبوباً، وقال بحساب: “قصر ميندِس ليس كقصر النهضة. السجاد هنا جديد جداً، وكل خطوة… زلقة.”
ظل تاليس صامتاً.
تذكر الوغدة الصغيرة التي كان مصيرها لا يزال مجهولاً والذي لم يكن متأكداً ما إذا كانت لا تزال على قيد الحياة.
لكن في اللحظة التالية، كان الشخص الذي ظهر أمامه هو السيدة “إيلينور”. كانت تقود ابنها الباهت إلى قصر ميندِس، متحملة النظرات الغريبة من الحشد.
الشوكة الحديدية الصغير.
“لكن هذا هو تقليد عائلتنا، أليس كذلك؟” استعاد تاليس وعيه وهمس: “بصرف النظر عن السجاد الزلق…” رفع نظره. “حتى لو كان هناك ملايين الأشواك الحديدية تحته…” ابتسم تاليس: “ما زلت مضطراً للتنزه عليه ببرود… دون أن يرتعش لي جفن.”
بمجرد أن قال ذلك، لمع بريق في عيني دوق البحر الشرقي.
انفجر الدوق “كولين” ضاحكاً ورفع يده مشيراً إلى مرافقه للتقدم، لكنه رفض مرافقة تاليس، ملوحاً له بالابتعاد.
“أما بالنسبة لطلب زواجهم، يا صاحب السمو، تذكر، حتى في الشمال…” تمايل الدوق “كولين” وهو يمضي وينهي حديثه عرضاً: “الجمال لا يزال مُضراً بالصحة.”
أصغى تاليس إلى كلمات الدوق التي حملت معنى خفياً، وغاض قلبه.
‘الوغدة الصغيرة.’
انزلق في ذهول وهو يحدق في الهيئة المغادرة للدوق “كولين”.
‘الآن…
‘هذا هو كل ما يمكنني…
‘أن أفعله لأجلِك.’
“واو، إذن كان ذلك الشمالي جاداً حينما قدم لك بنات الأرشيدوق؟” لحق به “دويل” ووضع رداء تاليس عليه. عدّل تاليس رداءه وهو غافل عن ما حوله وأجاب بمجرد: “أجل، أجل.”
زمّ “دويل” شفتيه: “تعلم، يا صاحب السمو، ثمة قول سائر بين حشم النجوم السبعة: لا تتزوجن أبداً بامرأة شمالية.”
عاد تاليس ببطء وسأل: “لِمَ هذا؟”
هز “دويل” كتفيه: “تقول الأسطورة إن هذا هو سبب اضمحلال عائلة “بارني” الخيول الجامحة: ففي ذلك الوقت، أصر الابن الأصغر للسيدة العجوز الشوكة الحديدية الصغير بعناد على الزواج من امرأة شمالية. عارضت الشوكة الحديدية الصغير بشدة لكن دون جدوى. في النهاية، أزالوه من شجرة العائلة وطردوه من المنزل، لكن اللعنة التي جلبتها هذه المرأة ما زالت تورط العائلة – انظر إلى آل “بارني” الآن.”
أصر بعناد على الزواج من امرأة شمالية…
ورطت العائلة…
انظر إلى آل “بارني” الآن…
شعر تاليس ببعض الأسى، وقال بضيق: “لم لا تنظرون إلى أنفسكم؟“
ربما كانت نبرة الأمير حادة للغاية، ففزع “دويل”.
تقدم “غلوفَر” بهدوء ودفع “دويل” خلفه، ذاك “دويل” الذي أراد المزاح مع الأمير لتخفيف ملله ولكنه قوبل بصد حاد بدلاً من ذلك.
هل من الممكن أن…
سار “دويل” خلف “غلوفَر” بخيبة أمل.
في السنوات الست التي عاشها صاحب السمو في الشمال، هل وقع حقاً في غرام…
امرأة شمالية؟
‘يا ل السامي السامي، إذن ماذا عن المهمة التي كلفني بها أبي؟
‘بالنسبة لشخص بخيل مثل أبي، لقد وعد بالكثير من المال من أجل هذا!’
في هذه اللحظة، سُمع ضجيج خفيف يحدث خارج القاعة، جاذباً انتباه الجميع.
استدار تاليس لينظر، وصُدم.
رجل وحيد دون مرافقين مخلصين، يرافقه فقط حراس متيقظون، خطا ببطء عبر الأبواب.
على الرغم من أنه ارتدى ملابس باذخة وكان يتمتع بهالة غير عادية، إلا أنه بدا وحيداً وكئيباً.
كما تبع صوت صليل المعدن الرجل إلى داخل القاعة.
بدا ذلك مزعجاً وخشناً في أناقة قصر ميندِس.
انتشرت ثرثرة حارة بين الغافلين، بينما تبادل النبلاء الذين كانت لديهم فكرة صمتاً غير مريح وهم يفسحون الطريق لا شعورياً للضيف الجديد.
تلقى “مالوس” تقريراً واندفع مسرعاً من القاعة الجانبية، في الوقت المناسب لرؤية وصول هذا الضيف الخاص.
عبس الرقباء وهم يراقبون الضيف الذي سار ببطء إلى الداخل، وكانت نظراتهم مركزة على يديه.
عليهما كان هناك زوج من القيود الباهتة، والسلاسل تجر على الأرض.
رفع الضيف نظره ليكشف عن وجه شاحب ومجهد، ولحية تصل إلى الصدر.
حدق في قصر ميندِس المضاء ببراعة والمليء بالحياة أمامه وهو مرتبك.
سارع “مالوس” إلى الأمام وأشار إلى الحراس لإدخاله على الفور لتجنب النظرات الفضولية التي لا تُحصى، بينما أمسك بضابط العقوبات “غراي باترسون”، الذي قاد الضيف إلى هنا.
“غراي، ما هذا…”
“لقد رفض،” أجاب “غراي” على عجل وعلى وجهه نظرة استياء وإحباط. “بغض النظر عن كيف قمنا بإقناعه وتملقه، أصر على حضور المأدبة وهو مقيد بالقيود،” واصل ضابط العقوبات: “حتى تلك اللحية…”
نظر “مالوس” إلى الضيف الشارد وتلك القيود التي تثير المشاكل بتعبير جدي. “ألم يكن بإمكانكم أن تكونوا أكثر صرامة حيال ذلك؟”
هز “باترسون” رأسه في حرج: “أوضح جلالته أنه يجب أن يحضر المأدبة حتى لا تكون هناك أي إصابات في وجهه. إنه أمر صعب.”
شخر “مالوس”: “أحضر قطعة قماش لتغطيته وقم بقيادته مباشرة إلى مقعده… أعده إلى السجن بمجرد انتهاء الوقت.”
أومأ “باترسون” بالموافقة واستدار لينظر إلى الضيف الجديد. قال بصيغة الأمر: “سيد فال، أهلاً بك في قصر ميندِس. الرجاء أن تتبعني…”
لكن الضيف الجديد كسر صمته: “تورموند مالوس، في أيام مجدها، عائلتك…”
تغير تعبير “مالوس” وهو يستدير ليواجه الضيف.
كان صوت الضيف عميقاً ومهيباً، لكن نبرته تشبه حصاناً عليلاً ومرهقاً؛ فقد كان كآبته تشيخ السامع. “طلب والدك الزواج بالنيابة عنك من ابنة عائلة “آروندِي”.”
عبس “مالوس” قليلاً.
“ربما ظن أن “نولانور” سترث ثروة العائلة في نهاية المطاف، وكان أخي الأصغر مقرباً من الأميرَيْن. وبغض النظر عن من يخلفه كملك، فإن دوق الإقليم الشمالي سيكون ذا نفوذ. أما بالنسبة لك، فمع العلاقات الزوجية مع عائلة دوق، فمن الطبيعي أن تكون مكانتك في حشم النجوم السبعة أعلى.”
عند هذه الكلمات، تجمد الحراس المسؤولون عن مرافقة الضيف وهم ينظرون بتردد إلى قائدهم.
توقف “مالوس” للحظة فقط قبل أن يبتسم وينظر إلى هذا الضيف الغريب بأدب.
أطلق الضيف ضحكة مريرة. رفع يديه، مما تسبب في صليل القيود والسلاسل المعدنية مرة أخرى. اندمج الصليل مع الموسيقى المبهجة الخافتة، كما لو أن ضربة من الألوان الباردة قد غُرست في لوحة المناظر الطبيعية الربيعية.
“الآن… انظر إلينا. واحد، عائلة من السجناء في قيود،” رفع الرجل رأسه ببطء. نظر إلى “مالوس”، ثم نظر حول قصر ميندِس؛ حرك فمه لحيته الفضية. “وآخر، عائلة من حراس القيود.”
حراس القيود…
قطب “مالوس” حاجبيه وهو يجبر نفسه على تجاهل الدلالة في كلمات الرجل: “يا صاحب السمو، لقد رتبنا لك مقعداً في قاعة المأدبة…”
لكن كلمات الضيف حملت وقاراً تراكم على مر السنين، كما لو أنها كانت قادرة دائماً على مقاطعته في اللحظة المناسبة تماماً: “تعلم، منذ سنوات عديدة،” فحص الرجل ذو الملابس الباذخة تخطيط ومفروشات قصر ميندِس بذهول، “كان أخي مثلك تماماً. وقف هنا، يؤدي واجبه بجد كحارس ملكي شريف ويحرس هذا القصر الملكي. أما بالنسبة لي، فقد مررت بالحديقة مرات لا تُحصى وشاهدت تلك الصبية المجنونة تركض نحوي.”
وضع الرجل الهزيل السلاسل. كان هناك لمعان زجاجي عبر عينيه. “الآن أُعيد افتتاح قصر ميندِس. لكن أخي، لم يعد هنا.”
لم يتكلم “مالوس”.
سخر الرجل. نظر إلى الأعلى نحو صور ملوك الأبراج الثلاثة. تحول اللون في عينيه إلى ظل أغمق.
الملك الوغد، الملك الفاسق، ملك الديون السيئة، فكر الرجل في نفسه وهو تنحني زوايا فمه إلى الأعلى.
لكن بعد بضع ثوان، تحولت نظراته إلى البرودة: “وهو ليس الأخ الوحيد الذي فقدته.” نظر إلى ملوك الأبراج الثلاثة وقال بازدراء: “كلا.”
صمت “مالوس” للحظة قبل أن يزفر وينظر نحو مرؤوسيه: “أُحضُروا صاحب السمو إلى قاعة المأدبة عبر الأبواب الجانبية. حافظوا على مستوى منخفض. وبطبيعة الحال، كونوا مؤدبين.” كانت نبرته وقورة، ونظرته صارمة.
فهم ضابط العقوبات “باترسون” قائده. لقد اكتفى من الإهانات على طول الطريق إلى المأدبة. وبإشارة من يده، تقدم حارسان بتعبيرات باردة لتقييد الرجل.
لكن الرجل استدار فجأة وانفجر في نوبة غضب!
“أنا سليل آروندِي، سيد القلعة الباردة، دوق حامي الإقليم الشمالي للكوكبة! لقد لمحْتُ مركبة ذلك السمين العجوز. لقد سار إلى الداخل من هنا، بكل وقار واستقامة!”
أربكت الهيبة التي أشعّها في تلك اللحظة من حوله.
حدق “آروندِي” في “مالوس” ببرود: “إذا كان سيدك يريد أن يثبت للمملكة أنني ما زلت أتنفس، وأن يثبت أنه ليس قاسياً، فإن أقل ما يمكنه فعله هو احترام مكانة الدوق.”
تحولت نظرة “مالوس” إلى البرودة.
في تلك اللحظة…
“مالوس!” صرخ صوت شاب ولكنه لطيف. سار تاليس من باب جانبي آخر وأومأ للرقيب: “دع الأمر لي. يمكنك التراجع الآن.”
نظر “باترسون” إلى “مالوس” بحذر.
توقف “مالوس” للحظة، نظر إلى “غلوفَر” و “دويل” خلف تاليس، ثم أومأ لـ “باترسون”.
“كما تشاء يا صاحب السمو.” انحنى ضابط العقوبات أمام تاليس وتراجع جانباً مع الحراس.
زفر تاليس واقترب من الضيف الجديد.
“مضى وقت طويل يا دوق فال.”
منذ أن ظهر تاليس، ثبّت الضيف نظره على السيد الشاب لقصر ميندِس.
قيَّم دوق بحيرة النجوم في هيئته، مُتَفَاجِئاً في البداية ثم شعر بالارتياح.
“إذاً لقد عدت.”
حدق فال آروندِي – دوق الإقليم الشمالي الذي أُحبطت مؤامرته وسُجن تبعاً لذلك قبل ست سنوات – في الامير الثاني من الأسرة الملكية بمشاعر متضاربة: “كيف حال إيكستيدت؟“
كيف؟
نظر الأمير إلى الرجل وتنهد ببطء: “لا الرياح القاسية ولا الصقيع المرير يمكن أن يزيحها عن مكانها.”
تاليس قيّم “فال” بدقة أيضاً. لاحظ أن هيئة “فال” العضلية سابقاً كانت أنحل بكثير الآن، وأصبح لديه الآن لحية كثة ومربعة.
بشكل غير مفهوم، تذكر فجأة ما قاله “جوزيف” من سيف الكارثة عندما كان في سجن العظام:
“هذا هو التأثير الذي يمكن أن يلحقه السجن بشخص… بغض النظر عن من أنت، وبغض النظر عن مدى قوتك.
“إنهم ضائعون إلى الأبد في فراغ وحيد، ولن يتمكنوا أبداً من العودة.”
ركز تاليس عينيه أمامه.
دوق الإقليم الشمالي الذي كان في السابق عاطفياً ومهيباً…
لم يعد موجوداً.
تردد “فال” لبضع ثوان: “لامبارد، كيف حاله؟”
لامبارد.
غاض قلب تاليس.
كيف شعر “فال” عندما التقى بأرشيدوق الرمال السوداء آنذاك، “تشابمان لامبارد”، ووافق على التعاون معه؟
بعد ست سنوات، عندما أصبحت أوضاعهما متناقضة تماماً، كيف يشعر؟
“لا الرياح القاسية ولا الصقيع المرير،” بدأ الأمير يتحدث بهدوء، وأعطى إجابة مماثلة، “… يمكن أن يزيحها عن مكانها.”
بعد هذه السلسلة من الأسئلة والأجوبة الغريبة، سكت “فال”.
لكنه بدأ بعد ذلك يضحك بهدوء. خطى إلى الأمام وشق طريقه إلى قاعة المأدبة بعادة.
كمسافر عائد إلى الديار.
تبع “باترسون” وحراس من فرقة الانضباط على الفور.
لكن عندما وصل “فال” إلى جانب تاليس، توقف.
تقدم “غلوفَر” و”دويل” بقلق في محاولة لفصل الدوق عن الأمير، لكن “مالوس” أمسك بهما مرة أخرى.
“شكراً لك.”
ذُهل تاليس قليلاً.
لم يكلف دوق الإقليم الشمالي النحيل نفسه عناء النظر إلى تاليس بل همس فحسب: “أخبرني أحدهم. عن كل ما فعلته لابنتي قبل ست سنوات في أراضي إيكستيدت.”
في أراضي إيكستدت…
ميراندا؟
استدعى تاليس ذكرى ليلة دم التنين والمبارزة الباردة بقلب مثقل.
أدار الدوق المسجون رأسه وقال بلا تعبير: “فقط، أرجو أن تسدي لي خدمة أخرى.” أصبح تعبير “فال” كئيباً: “لا تتزوجها.”
صُدم تاليس.
“إذا كان لا بد لك من الزواج بها،” سخر “فال”، مثل مقامر خائب مُستنير فقد جميع رقائقه: “لا تترك بذرتك في بطنها.”
احمر وجه تاليس. عدّل تعبيره على الفور.
“واجهت ميرا سوء الحظ في سنواتها الأولى،” واصل “فال” بنبرة حزينة وهو ينظر إلى السقف: “لقد رأت ما يكفي من سفك الدماء.”
ارتجف نظر تاليس عند سماع ذلك.
بعد ثانية، عند رؤية دوق الإقليم الشمالي النحيل والوحيد والمتقدم في السن أمامه، تنهد تاليس: “أعدك.”
ضحك “فال”. خفض رأسه ليكشف عن وجهه المتجعد بابتسامة: “شكراً لك. أنت مختلف عنه. لم تصبح بعد… مثله.”
مختلف عنه.
في تلك اللحظة، كان لدى تاليس إدراك مفاجئ.
تذكر أنه قبل أن يفترقا في معسكر أنياب النصل، قال حارس الحرس الملكي السابق، فارس الحكم، “زاكريل”، شيئاً مشابهاً له.
هذا جعل تاليس، الذي كان يبتسم لتحية الضيوف طوال الليل، يدرك أن هذا الرجل النحيل الذي كان غير مهتم بكل شيء، هو على الأرجح الشخص الوحيد الذي سيكون صادقاً معه في هذه الليلة من البهجة والمرح.
“ربما،” أجاب تاليس بابتسامة مصطنعة، متمنياً نوعاً ما أن تجلب كلماته الراحة لهذا الرجل الذي تخلى عن كل أمل في الحياة.
لكن “فال” هز رأسه، وكانت ابتسامته يائسة ولكن ساخرة: “تماما كما كان الحال آنذاك، هو أيضاً ظن أنه مختلف عن السيد السابق لهذا المكان.”
تغير تعبير تاليس: “ماذا تعني؟”
لم يجب “فال”؛ بل استدار مبتعداً.
تطلّع فال إلى المشهد الصاخب المُفعم بالحياة خارج القاعة، واستوعب المشهد المُزدهر لبهو “مينديس” حيث كانت الحشود الغفيرة تتوالى دخولاً وخروجاً.
“أترى ذاك؟”
بينما كان دوق الإقليم الشمالي يرقب ذلك المرأى البهيج أمامه، ويصغي إلى الموسيقى الرخيمة، وقد أنارته “المنارة السرمدية” الباهرة المُتدلية فوقه، بدا وكأن في عينيه مشهداً آخر مُباين تماماً. مكث برهة قبل أن ينبس مبتسماً: “هذا المشهد… هو بَهْوٌ عظيم من الجحيم.”
الجحيم؟
قطّب تاليس حاجبيه.
نظر فال حوله؛ بدا وكأنه قد حاد عن رشده.
“بعضهم مُراءون، يتظاهرون بأن كل شيء على ما يرام؛ وبعضهم يخدع الآخرين ويُصدّق كذبه؛ وبعضهم يُواري سخطه ولكنه يُجبر نفسه على الاحتمال؛ وبعضهم قد نفذ إلى زيف هذا العالم فاختار الانعزال. تحت الأضواء في غمرة الليل، الكلّ يتقمّص الفرح والتناغم،” ثم كان وراء سخريته المُتزايدة شيئاً فشيئاً رسالة مُقشعرّة: “غافلون عن أنهم جميعاً في قِدرٍ واحد، بينما يُستَعر الوقود تحتها.”
سَعَلَ مالوس مرة واحدة.
تشنّج تعبير تاليس.
عندما استرجع اللقاءات التي خاضها منذ عودته إلى “كوكبة”، اعترته كآبة لا تفسير لها. أدرك أن حواره مع دوق الإقليم الشمالي قد أوشك على الانتهاء.
علم تاليس. لقد أدرك ما عنى الدوق قوله بتلك الكلمات.
تماما كالبقية جميعاً. بيد أنه لن يلين عزمه بتلك السهولة.
ومع ذلك…
صرّ تاليس على أسنانه.
خفض فال رأسه وتهكّم: “يا فتى، أنت كما كنت أنا في غابر الأزمان.”
اهتز شيء في نفس تاليس. “مُتشابهان؟ على سبيل المثال؟”
“على سبيل المثال…” تابع فال، وعيناه مُغبرّتان: “على سبيل المثال، يبدو أن لك بهم علاقة وثيقة، ومصالحك مُتضافرة، وتشاطرهم شرفهم وخِزْيَهم، وهذا هو أَوْفَقُ الأزمان. في هذا العُمُر، لن تتعارضا أبداً ولن تصبحا عدوّين.”
إنه أوفقُ الأزمان.
لم يسعَ تاليس إلا أن يتذكّر ما قاله له الفيكونت باترسون سابقاً:
المملكة يافعة. إنه أوفقُ الأزمان.
“لكن أنت وحدك تعلم…” غدت كلمات فال أكثر غموضاً، كالمُسافر الذي يتخبّط في الضباب، لا يلوح له الطريق أمامه، ولا يحيط به إلا الأوهام. “أمامك جُرْفٌ شاهق، وخلفك هاوية سحيقة.”
في تلك اللحظة، سُمع ضجيج وصخب مُجدداً قادمين من خارج القاعة. تحرّك كل من في القاعة. لقد كانوا يتوقعون هذا ويستعدون لاستقبال الضيف المُهم التالي.
لكن هذه المرة، ما سمعوه كان خليطاً من وقع خُطوات مُتّسقة، وأوامر حازمة، وضجيج حماسي.
شعر مالوس بحيرة يسيرة.
إلى أن سُمع أمر مُهيب ومُجلجل — ينقل إذعاناً مُطلقاً، وكأنه مرسوم سامٍ — قادماً من مسافة بعيدة واخترق الجدران: “باسمَي ملك “كوكبة” الساميَين، كيسيل جاديستار—”
جَمَدَ تاليس.
تغيّرت تعابير الحاضرين.
سُمعت أصوات مكتومة قادمة من خارج القاعة.
“وملكة “كوكبة” السامية، كايا جيدستار—”
*( ها؟)*
صوت الرسول تخلّل أرجاء القاعة.
سواء كانت الموسيقى المُبهجة داخل القاعة، أو الجدالات المُحتدمة بين الخدم في الممرات، أو الصهيل المُطوّل الذي كان يُسمع قادماً من مسافة من حين لآخر، كل ذلك خَفَتَ وتلاشى في هذه اللحظة.
حلّ هدوء شديد، حتى ليُسمع فيه حفيف الشجر. لم يبقَ إلا الأضواء مُتوهّجة.
“أيّها الرعايا…”
حقّ التنفّس قد تضاءل أمام ذلك الصوت المُهاب.
“حيّوا مَلِكَكُم ومَلِكَتَكُم!”
انتهى أمر الرسول، لكن صوته تردّد بلا نهاية وحَلّق في الأجواء.
بثبات لا يَلين.
في اللحظة التالية، مالوس، باترسون، غلوف، ديدي…
سواء كانوا من الحرس الملكي أو الخدم أو العبيد، النبلاء أو البيروقراطيين أو العامة، كلّ من كان حاضراً عدّل وضعه لا شعورياً وكتم أنفاسه.
انسحب الجميع جانباً ليشكّلوا ممراً بينما استداروا بوقار واحترام نحو أبواب قاعة الحفلات.
ركعوا على ركبة واحدة.
وضعوا يدهم على صدورهم.
أطرقوا رؤوسهم نحو الأسفل.
وكأن هذا غريزة مُتأصّلة.
ثابتة لا تتغير.
عادة مُستحكمة.
وحده تاليس بقي واقفاً في ذهول تحت المنارة السرمدية، تحت الأعين الراصدة لـ”ملوك كوكبة الثلاثة”، يحدّق خارج القاعة نحو الظلام.
“وليس لك من مَخرج.”
من حيث لا يدري، جاء صوت الدوق فال البارد وخشخشة قيوده من خلفه واخترقا فؤاده.
“ليس أمامك سوى أن تُقدِم على قفزة إيمان… وتَبْذُل وسْعَك كاملاً.”
تسامى أمر الرسول وكلمات دوق الإقليم الشمالي في الأجواء في آن واحد، مُتداخلَين.
أخذ تاليس المُضطرب نَفَساً عميقاً.
بعد بضع ثوان، تراجع خطوة قسراً.
وركع على ركبة واحدة.
اول فصل عشوائي هذا الاسبوع
إن أعجبتكم الترجمة، أتمنى منكم دعمي بالدعاء لأهلنا وإخواننا في فلسطين والسودان، جزاكم الله خيرًا.
تمت ترجمته بواسطة مؤسس مسار التسول، الموقر المتسول الكبير RK
✨ عضوية مميزة في فضاء الروايات ✨
🚫📢 تخلّص من الإعلانات المزعجة
💖 استمتع بتجربة قراءة سلسة ومميزات حصرية مقابل مبلغ رمزي
📌 ملاحظة: أرسل اسمك في الموقع عند الدفع ليتم تفعيل العضوية ✅
جميع ما يتم ترجمته في الفصول منسوب إلى المؤلفين، ونحن بريئون من أي معانٍ تخالف العقيدة أو معانٍ كفرية وشركية.
هذا مجرد محتوى ترفيهي فلا تدعه يؤثر عليك أو يلهيك عن دينك.
استغفر اللـه وأتوب إليه.