سلالة المملكة - الفصل 529
📏 حجم الخط
✍️ نوع الخط
🎨 الخلفية
🖥️ عرض النص
دعم سلالة المملكة لزيادة تنزيل الفصول :
السلام عليكم، إخوتي الأعزاء،
أحب أن أعلن أنني سأهتم بالعمل من اليوم فصاعدًا، بإذن الله تعالى.
بالنسبة لجدول التنزيل، سيكون هناك سبعة فصول بعد ظهر يوم الجمعة، بمعنى أن التنزيل سيكون أسبوعيًا، نظرًا لطول الفصول التي تحتاج وقتًا طويلًا للتدقيق في ترجمتها. وإلى جانب الفصول الأسبوعية، ستكون هناك أيضًا فصول تُنشر خلال الأسبوع، لكنها ستكون بطريقة عشوائية حسب وقت فراغي.
أترككم الآن لتكملوا قراءة ما انقطع لمدة عام.
استمتعوا…
الفصل 529: المساحة الخاصة
“إن الإفراط في الخرافات حول السَّامِيّن تًعدّ خطيئة أيضًا، فهذا قول مأثور.”
أخذ تاليس نفسًا عميقًا، وطرح سؤالا بأدب، مع لمسة مزاح جريئة غير مألوفة:
“الكاهنة العليا ميغان، هل توافق إلهتك على هذا؟”
ضحكت ميغان، وصوتها هادئ، خالٍ من أي همّ:
“المعلم الجيد لن يرضى بطالب يقدّره باعتباره الأهم، ويؤمن به كسلطة وحيدة، ويعتمد على قوته، ويتوقع مساعدته، ولا يعي عيوبه، ولا يحرز أي تقدم.”
رمقت ميغان جيلبرت بنظرة خاطفة، وكان جيلبرت، المُنهك بالفعل، كسولًا جدًا لدرجة أنه لم يعد قادرًا على تغيير تعابير وجهه.
تحدثت ميغان بجدية:
“على من يؤمن بالسامي أن يكونوا أكثر تواضعًا، وهذا التواضع يشمل حتى طريقة نظرهم إلى السَّامِيّ والإيمان به.”
فجأة خطرت لتاليس فكرة غريبة؛ ذلك الشعور المألوف عاد مرة أخرى.
“ثم السحر والسحرة…”
حاول تاليس تذكّر نيته وتوجيه الحديث إلى ما يهمه حقًا:
“ما أهمية هذه الأمور التي اندثرت في طيات التاريخ منذ القدم في نظرك؟ هل هم ضحايا؟ أم معتدون؟ أم دمى في يد نظام التربية، أم جزء من التربة والمهد؟ ما الذي أدى إلى تحريم السحر وتأثيمه؟”
فكرت ميغان لحظة، ثم أجابت:
“منذ القدم، نظر بعض الرهبان المحافظين إلى السحر باعتباره الجاني المستحق للإدانة على الكوارث العالمية والموت.”
أومأ تاليس برأسه: “كما هو متوقع.”
لكن ميغان أستدارت مبتسمة:
“لكن في رأيي، ربما لم يكن الأمر كذلك.”
عاد الفضول يتسلل إلى ذهن تاليس:
“على الرغم من تمردهم على آلهتنا وعدم احترامهم لها، ومع أن غطرستهم جلبت لهم العواقب وسوء المصير، فإن العديد من السحرة — حتى التعساء من مسار الابن الاصغر — كانوا محاربين وروّادًا يستحقون الاحترام، ووجودهم ذاته هبة عظيمة.”
أومأت ميغان ببطء وابتسمت:
“ثقتهم بأنفسهم، وفخرهم، وسعيهم الدؤوب وراء المعرفة، لا يؤثر عليهم فحسب. أؤمن أن وجود السحر يجب أن يكون مقصدًا وهبة من السَّامِيّن .”
توقف تاليس للحظة، نظر إلى الأعلى، وبدأ ينفخ على شعره.
كادت نيا أن تنفجر ضاحكة، لكن الراهبة الصغيرة حولتها سريعًا إلى سعال.
“والأهم من ذلك، أنهم أثروا علينا أيضًا — أبناء السَّامِيّ الأبكار.”
لم تُعر ميغان اهتمامًا لتعابير الأمير، ألقت نظرة سريعة حول غرفة الدراسة في قاعة مينديس وتنهدت:
“انظر إلى اسم صفنا: اللاهوت.”
في القديم، لم يكن لدى الكنيسة — أيًا كانت — ما يُسمى باللاهوت. بالنسبة للكثير من الإخوة والأخوات آنذاك، كان السَّامِيّ كلي القدرة، والتطبيق هو ما يهم؛ فلماذا إذن وجود أي عقيدة أكاديمية؟
أدرك تاليس شيئًا: حتى عصر سيطرة السحرة وانتشار السحر، بدأت أسئلة لا تُحصى من الأبراج الثلاثة — التي كانت منظمات متعددة بين السحرة — تُهدد بقاءنا: لماذا يجب على السَّامِيّ أن يقبل الإيمان؟ لماذا على السَّامِيّ أن يكون سّامِيّاَ؟ لماذا يجب أن يكون السَّامِيّ موجودًا؟
كانت كلمات ميغان هادئة وعميقة:
أخذ تاليس نفسًا عميقًا، ثم تذكر: ثلاثة معابد… حقًا؟
قالت ميغان باهتمام بالغ:
“استجوابهم وردودهم أجبرتنا على عدم التركيز على الممارسة والفعل فقط، أو البحث عن الإيمان والروح فحسب، بل حتى الخوض أعمق في عالم النظرية والبحث لتحسين أنفسنا.”
ابتسم تاليس وأومأ إلى ميغان، لقد فهم.
ذلك الشعور المألوف الذي شعر به للتو لم يكن مجرد مصادفة.
التواضع، التأمل، اليقظة… كان هذا هو الشعور المألوف الذي شعر به آشيدا أثناء إلقائه المحاضرات.
( حسب ما فهمت من السياق تاليس هو آشيدا في حياته السابقة)
كشفت تصريحات ميغان عن مفاهيمها وآرائها بشأن معبد غروب الشمس، لكنها ليست نتيجة يمكن لدين أو كنيسة أو مجموعة محددة تحقيقها بالعزلة لآلاف السنين، بل نتيجة عمل عدد لا يُحصى من الأفراد الموهوبين الذين واجهوا تحديات السحرة عبر العصور.
عض تاليس شفته السفلى برفق، كما قال الغراب العجوز، تمامًا كما أثرت إكستيدت والكوكبة على بعضهما البعض.
“السحر… منذ آلاف السنين، كانوا أيضًا من بين المساهمين في تشكيل الإيمان، الكنيسة، والمعبد إلى ما هما عليه الآن، عبر الصراع والمعاناة.”
وتابعت ميغان:
“هذا مجرد مثال واحد — لأن طريق الابن الأصغر لا يولد من السحر فحسب، بل قد يولد أيضًا من الكنيسة، وكل صعود للسحر والسحرة، وكل تراجع للإيمان والمعابد، يمكن أن يدفع الحكماء في الكنيسة إلى التأمل. لقد دفعهم ذلك إلى وضع أحكامهم المسبقة جانبًا، والتخلي عن المحافظة والشكليات، والاستماع حقًا للرسالة السَّامِيّة بتفانٍ.”
نظرت ميغان مباشرة إلى تاليس:
“التأمل الذاتي. الكنيسة الإصلاحية. اغتنم الفرصة.”
قالت بمعنى:
“تمامًا مثل الكاهنة المقدسة جاد قبل ألف عام، قبل أن تشنق نفسها في كنيسة متداعية بعد أن دمرها الجيش، رأت الرسالة الغامضة للقديس جيرول، التي جعلتها تخاطر بحياتها لوقف جبل الملك كاثرين السادسة — ‘إمبراطور السم’ لاحقًا. كما أن النبي القديس محسا، الذي كان على وشك الموت في ساحة المعركة بعد الكارثة قبل سبعمائة عام، سمع بركة سَّامِيّةغروب الشمس، ومد يد العون، ووجد ملك الخلاص المقدر.”
لاحظ تاليس حينها أن تعبير وجه جيلبرت بدأ يظلم مرة أخرى.
حتى عندما كان السحر هو السائد، كان السحرة يسيطرون على المحكمة، ويحتكرون المعرفة، وينظرون بازدراء إلى البقية، حتى في العصر الذي كان فيه طريق الابن الأصغر الأكثر تبجيلاً وهيمنة…
أظهر وجه ميغان عاطفة جياشة:
“المؤمنون بالسامي لا زالوا متمسكين بإيمانهم، ويكنسون وينظفون الكنائس والمعابد المتداعية على نحو متزايد، ليتركوا خيارًا آخر للبشرية العمياء والمتهورة بسبب ثقتها بنفسها وغرورها. لذلك، جاءت كنيسة الشمس المقدسة بعد كنيسة السَّامِيّ الساطع المقدسة، وجاء معبد غروب الشمس بعد الحرب النهائية.”
ابتسم تاليس للأخت نيا، التي ارتجفت قليلًا وألقت بنظرة خجولة محمرة الأذنين.
مرت نظرة تاليس على الأمتعة، التي كشفت بعد أن استدارت نيا، وكانت تحتوي على اللوحات المعدنية القديمة التابعة لقبر الملك أنسيت.
ثنى تاليس زوايا فمه، متجاهلًا تمامًا حقيقة أن هذا جعل نيا أكثر ذعراً.
“لمدة آلاف السنين، لم تترك الخدمة السرية للمملكة فقط آثارًا من السحر والسحرة بعد مشروع التطهير، بل شمل ذلك أيضًا منافسيهم الأكبر. فما هو السحر يا تاليس؟”
ظل تاليس غارقًا في أفكاره. ولحسن الحظ، لم تطلب ميغان منه إجابة.
“السحر مرآة. من خلال الكوارث التي جلبها مسار الابن الأصغر، يُدرك الإنسان عبثيته والمسارات الخاطئة التي قد يسلكها، ويُجبر على مواجهة نقاط ضعفه، واكتشاف ذاته الأفضل، ثم العودة إلى مسار الابن البكر — كما قلت، مسارا الابن الأصغر والأكبر مترابطان ويؤكد كل منهما أهمية الآخر.”
تمامًا كما قالت ميغان: السحر مثل المرآة.
وبالمثل، فإن الإيمان والكنيسة مرآة للسحر، يعكس ويعرض ويحفظ بصمة منافسيهم منذ آلاف السنين.
بينما كان يفكر في ذلك، نظر تاليس إلى الأمتعة والخطوط العريضة للنقش القديم، وابتسامته صارت أكثر صدقًا.
تجنبت نيا النظرات الجامحة للأمير، وانحنت بتصلب، والتقطت إبريق الشاي لترجع ملء كوب ميغان الممتلئ بالفعل، مرتجفة.
رنّت كلمات ميغان مرة أخرى:
“حتى مأساة السحر هي محنة نمر بها في طريقنا، وثمارها مريرة، تنشأ طبيعيًا حين نغرق في خطايانا دون إدراك. إنها الغضب والعقاب الذي ينزله السَّامِيّن علينا حين ندير ظهورنا للمعنى الحقيقي للإيمان، نشوه إرادة السَّامِيّن ، نتجاهل مجدنا، ونقع في فخ طريق الابن الأصغر. هذا ما يعنيه لنا، وربما للعالم أجمع.”
تنهدت ميغان، وأضافت:
“ليس طريق الإيمان دائمًا سلسًا. الجميع سيواجه انتكاسات، وكل عصر غرق في الظلام. لكن كل انتكاسة اختبار من الله لتقوية الإيمان والولاء. ومن خلال خلافات الشباب والكبار، يُرشدوننا إلى الطريق الذي ينبغي للبشرية أن تسلكه. بالنسبة للمؤمنين بالإله، الإيمان دائمًا في خطر، والشك موجود دائمًا، والنزاعات بين الكبار والصغار مستمرة.”
نظرت إلى غروب الشمس خارج النافذة وقالت بامتنان:
“ما دامت شعلة حياة الابن الأكبر لا تنطفئ أبدًا، فإن الكارثة التي تصيب الابن الاصغر ستزول في النهاية.”
عاد الصمت إلى الغرفة، وغسق السماء يقترب.
فجأة تكلّم تاليس، وكان صوته مزيجًا من الصدق والتكلّف، كأنما نصفه اعتراف ونصفه تمثيل:
“إن ما قلتِه اليوم يثير الفكر، ويترك في النفس أثرًا لا يُمحى.”
ابتسمت ميغان، وانحنت لتاليس بانحناءةٍ رشيقة تنمّ عن أدبٍ جمّ، وقالت:
“إن استطعتُ أن أُلهمك ولو قليلًا، فذلك من حُسن حظّي، بل نعمةٌ تُنزِلها السَّامِيّةعليّ.”
هزّ تاليس رأسه شاكرًا وقال:
“فإن عرض لي في المستقبل شكٌّ أو حيرة، فهل لي أن أزور معبد الغروب وأستفتيكِ بنفسي؟”
ثم دوّى صوتُ تحطُّمٍ مفاجئ.
تجمّد الحاضرون، والتفتت الأنظار. كانت نيا.
قد انكسر فنجانُ شايها، وها هي تجمع شظاياه في عجلةٍ واضطراب، بينما احمرّت أذناها من وراء الحجاب حتى بدتا كجمرةٍ وهاجة.
كان القوم ذوي تهذيبٍ رفيع، فلم يعلّق أحد، بل تبادلوا النظرات لبرهةٍ قصيرة، ثم صرفوا أبصارهم كأن شيئًا لم يكن.
قالت ميغان بنبرةٍ لطيفة، وقد بدا عليها السرور:
“إنه لشرفٌ عظيم يا صاحب السمو، أن ترحّب إلهةُ الغروب بكل مؤمنٍ يبتغي القرب منها. مرحبًا بك في أي وقت، دون ميعادٍ أو انتظار، وسأوصي نيا أن تستقبلك.”
ارتجف صوت نيا الصغير:
“آه!”
وتحوّلت نظرات الثلاثة مرّةً أخرى بعيدًا عنها.
كانت نيا قد وخزت إصبعها وهي تلتقط الشظايا، فأخفت جرحها ونظرت إلى ميغان بعينين دامعتين تملؤهما الحسرة.
رمقتها ميغان بنظرة عتابٍ خافتة، فانتفضت الراهبة الصغيرة واقفة، والارتباك بادٍ عليها.
سعلت الكاهنة الأكبر كمن يريد إنهاء الموقف، وقالت وهي تستعيد وقارها:
“فلنسمِّ هذا اليوم ختامًا.”
نهض ثاليس بدوره، مبتسمًا ابتسامةً لم تتبدّل:
“بهذه السرعة؟”
أجابت ميغان بابتسامةٍ حكيمة وهي تشير نحو السماء:
“قد غربت الشمس، وأقبل الليل. غير أنّ السماء المُرصَّعة بالنجوم تبقى آيةً باهرةً، تبشّر بما لا يُحصى من الإمكانات.”
غمز ثاليس مبتسمًا وقال ممازحًا:
“أتُراكِ تُلقي نبوءة؟ أم مديحًا مُغلفًا بالرموز؟”
ابتسمت ميغان في هدوء:
“لا يتنبّأ أحدٌ إلا أنبياء السَّامِيّ ورسله. وإن كانت نبوءة، فهي لا تعدو أن تكون نبوءةً لا تُلزِم أحدًا.”
لم يفهم ثاليس المنطق الملتوي وراء كلماتها، فاكتفى بابتسامةٍ صامتة.
قالت ميغان بعد لحظة:
“ثم إنّ السيدة جيني أوصتني أن أهبك مزيدًا من الوقت لتستريح.”
( جيني هي الكاهنة اللي كشفت عن رابطة الدم بين الامير ووالده في بداية القصة)
تهلّل وجه تاليس في دهشةٍ خفيفة:
“أتعرفين السيدة جيني؟”
فأجابته بوقارٍ غامض:
“أعرفُ كثيرًا من الناس، ورأيتُ من الأمور عجبًا، غير أنّ السَّامِيّ وحده يرى ويعلم أكثر من الجميع.
هو الصامت الذي يحمي كل حيٍّ تحت السماء.”
لم يملك تاليس إلا أن يردّ بابتسامةٍ مهذبةٍ أخرى، بينما كانت يدُه تضغط بخفةٍ على ندبةٍ قديمةٍ في راحته اليسرى — ندبةٍ لم تُمحَ رغم السحر وتكرار الجرح.
“حسنًا… إن كان ثمّة إله، فلن يعرفني على الأرجح.”
هكذا فكّر بسخريةٍ خافتة.
ولمّا غادرت ميغان ومعها نيا، تقدّم جيلبرت بخطواتٍ بطيئة، ونظر إلى فنجان الشاي المهشّم على الأرض، ثم زفر تنهيدةً طويلة:
“يبدو أن يوم السيدة ميغان كان مثمرًا حقًّا.”
قالها بلباقةٍ مصطنعةٍ تخالطها نغمةٌ خفيّة من المرارة.
ابتسم ثاليس ابتسامةً جانبية وقال بنبرةٍ فيها دعابة:
“أتظنها كانت لتغادر أبكر لو أعلمتها أنني أنوي زيارة المعبد مرارًا؟”
رفع حاجبيه مازحًا، فبادله جيلبرت نظرةً ذات مغزى وقال بنبرةٍ غامضة:
“«وهل وعيتَ دروسها اليوم؟”
هزّ ثاليس كتفيه، وفرك بين إبهامه وسبابته كمن يقيس شيئًا لا يُرى، وقال ببساطة:
“قليلًا.”
أشرق وجه جيلبرت بابتسامة رضا وقال:
“ذاك حسن، حسنٌ جدًّا.”
ثم نظر نحو الباب، وقال وهو يُصلح من هيئته:
“اعذرني يا سموّك، عليّ أن أعلو لأجري حديثًا… غير سارٍّ مع الكاهنة ميغان.”
بدا جيلبرت غير راضٍ البتة، وتبع أثرها كمن يُطارد ظلًّا ثقيلًا.
ضحك ثاليس بخفوتٍ وجلس من جديد، غارقًا في أفكاره عمّا استقاه من درس اليوم.
ثم جاءه صوتٌ خافت من خلفه:
“أمم… سموّك؟”
رفع رأسه، فإذا به يرى دويل، لا أحد الخدم المعتادين، وقد دخل يحمل مصباح الزيت ليُضيئه بعد حلول الليل.
(في ما بعد سيقف الحارس ماريوس، عاقدًا ذراعيه ومتجهّمًا، ليقول في محاضرةٍ صارمة: “فأنت تزعم أنّك أُجبرت على الدخول لإضاءة المصباح لأن الخدم لم يحضروا، ولكن سبب غيابهم هو أنّك أنت من أرسلهم لإضاءة المصباح نفسه؟ يا دويل، أما ترى أن في روايتك خللًا؟”)
سأل دويل بحيرةٍ ظاهرة:
“سموك… ماذا فعلتَ بتلك الراهبة الصغيرة؟ لقد رأيتُها تحدّق بك وهي تغادر، ووجهها شاحبٌ كمن رآى شبحًا!”
قطّب ثاليس حاجبيه وقال مستنكرًا:
“لم أفعل شيئًا!”
أشعل دويل المصباح متأمّلًا، ثم غيّر ملامحه كمن خطر له أمر وقال:
“آه، حسنًا… لكن تلك السيدة العجوز المخيفة…”
رفع تاليس بصره إليه وقد ارتسم ظلُّ السخرية على وجهه.
اقترب دويل أكثر وهمس:
“كنتُ قريبًا، ولم أستطع إلا أن أسمع بعض حديثكما. تعلم، الابن الأكبر والابن الأصغر… إن ما قالته بدا منطقيًّا للغاية، أليس كذلك؟”
أمال ثاليس رأسه مبتسمًا نصف ابتسامةٍ وقال:
“أهو منطقي؟”
ازداد دويل حماسة وقال مستطردًا:
“نعم، فهي متسامحة مع ذلك السحر اللعين، لا عداء ولا تمييز، بل كلامها رقيقٌ متوازن، بعكس الراهب العجوز الذي خدم عائلتنا من قبل؛ ذاك الذي كان لا يملّ من القول إن “السحرة القدماء أتباعُ شياطينٍ يستدعون الكوارث لهلاك العالم” وما إلى ذلك…”
ظلّ تاليس صامتًا لحظةً، ثم قال ساخرًا:
“مهما يكن نبرها هادئًا، لم أجد في موقفها تهاونًا قط.”
تجمّد دويل لحظةً مذهولًا:
“آه؟!”
أردف تاليس موضحًا:
“صحيح أنّها لم ترفض السحر جملةً، بل فكّرت في أخطاء الكنيسة ذاتها، وقالت إن السحر والسحرة هم القوة التي تدفع البشرية نحو التقدّم…”
تبدّلت ملامح وجه تاليس مرارًا وهو ينصت، ثم قال بعد برهةٍ قصيرة وقد خفت صوته:
“كما توقّعت، كان جيلبرت مصيبًا…”
تنهد وقال في تأملٍ ساخر:
“حتى دروس النحو قد تنقذ المرء أحيانًا.”
اتّسعت عينا دويل في حيرةٍ:
“ماذا؟!”
استند تاليس إلى ظهر كرسيه وقال مبتسمًا:
“حسب منطق الكاهنة ميغان، لم يعد السؤال عمّا إذا كان السحر خيرًا أم شرًّا…”
ثم نظر إلى النافذة، وراح يتابع كلامه بنبرةٍ أعمق:
“إن كانت الكنيسة والإيمان قد فسدَا، فذلك لأنّهم ضلّوا طريق الابن الأصغر وسقطوا.
وبالمثل، إن كان السحر نافعًا، فذلك لأنّ من يستخدمه وجد السبيل القويم وسار في نهج المولود الأول.”
رفع دويل حاجبيه وهمس متعجّبًا:
“خفيف؟!”
كرّر ثاليس الكلمة وهو يتأملها بنغمةٍ ذات مغزى:
“بل أشدّ صرامةً مما يبدو، فهي لا تكره السحر ولا تحتقره، بل تسعى أن تُخضعه لاسم السَّامِيّن ، أن تُمسك بزمامه… أن تسيطر عليه.”
ساد الصمت لحظةً.
كانت عيناه معلّقتين بالسماء من خلف النافذة، والليل يزحف ببطءٍ نحو المدينة، يغمرها سواده بينما تختفي آخر خيوط الغروب.
تردّد السؤال في ذهنه كصدى بعيد:
ما الذي أدّى أصلًا إلى تحريم السحر؟
سألها هذا مرّتين خلال الدرس، ولم تجبه قط.
أهي ذاكرته التي خذلته؟ أم أنّها تجاهلت السؤال عمدًا؟
أما دويل، فقد رمش مترددًا يبحث عن مجاملةٍ يقولها، لكن تاليس كان قد غرق في تفكيره.
تنفّس الأمير الصعداء، ثم مدّ يده إلى كتاب «أعمال الغروب» الذي كان ماثلًا أمامه ولم يستخدمه خلال الدرس.
تأمّله بنظرةٍ فارغة وقال في نفسه:
“يبدو أن طريق التزكية عند مؤمني الكنيسة أعقد مما ظننت…”
ثم تمتم بنغمةٍ ساخرة:
“وأحسب أن هناك من سيبكي بحرقة لو سمع ما قالته تلك الكاهنة… يا الهـي !”
وفجأة ارتفع صوته متعجّبًا، فاستنفر دويل ومن في الخارج على الفور.
“سموك؟!”
اندفع الحارسان جلوف وزونفيد إلى الداخل، وجهيهما مشدودان بالحذر.
“هل أنت بخير؟!”
قفز دويل أيضًا نحوه وهو يشهر سيفه دون تفكير، قائلاً بلهفة:
“ما الذي حدث؟!”
أخذ ثاليس أنفاسًا متقطعة ليهدأ، لكن وجهه شحب وبدت عليه ملامح الألم.
ثم قال بصوتٍ غليظٍ متكلف الهدوء:
“بخير… اطمئنوا. يمكنكم الانصراف.”
تبادَل الحراس نظراتٍ قلقة، لكنهم امتثلوا، وبعد أن مسحوا أرجاء الغرفة وتفقدوا النوافذ ورفوف الكتب وساعة الزيت الكبيرة الغريبة الشكل، همّوا بالمغادرة.
قال أحدهم وهو متردد:
“سموك، أنت لا تبدو على ما يرام… أهناك ما نستطيع أن نفعله؟”
زفر تاليس وقال بأسنانٍ مطبقة ووجهٍ ملتوي من الألم:
“نعم… هناك شعرة في سروالي اختنقت بعضوٍ حيويٍّ مهم، وتؤلمني أشد الألم. أتستطيع مساعدتي؟”
ساد الصمت… لثانيةٍ واحدة فقط.
قال أحدهم بحماسةٍ مبالغٍ فيها:
“بالطبع لا مشكلة!”
واندفع نحو الأمير دون أن يلاحظ الوجوم الثقيل على وجهه، لكن جلوف أمسكه من ذراعه وسحبه إلى الخلف قبل أن يُكمل حركته.
قال متلعثمًا:
“ثمّ… لعلنا لا نُزعج سموّك أكثر.”
حتى ملامح زونفيد المتحجرة بدت محرجةً هذه المرّة وهو يهمس:
“سنتركك لتنال شيئًا من الخصوصية.”
ابتسم تاليس ابتسامةً جامدة ولوّح بيده بحدةٍ كمن يطردهم، فانسحبوا على الفور.
أما دويل، فقد أدرك متأخرًا ما جرى، واحمرّ وجهه حتى أذنيه، ثم قال بخجلٍ مضطرب وهو ينظر دون وعي إلى جسد تاليس أسفل المكتب:
“آه… حسنًا، عالَجْ الأمر بنفسك إذًا… لكن لو احتجتَ مساعدةً، فأنا—”
قبل أن يتمّ جملته، كان جلوف وزونفيد قد رفعاه من ذراعيه وسحباه خارج الغرفة، ورجلاه تتأرجحان في الهواء وهو يحتجّ بصوتٍ متلاشي خلف الباب.
ظلّ تاليس يراقبهم حتى أغلق الباب تمامًا، وانتظر لحظاتٍ يسمع فيها خفوت الأصوات في الممر، ثم أرخى كتفيه وتنهد طويلًا.
تبدّد التوتر الذي كان يخنقه، وعاد إليه شيء من الهدوء.
خفض رأسه ومد يده تحت المكتب، فأخرج… كتابًا.
حدّق فيه لحظةً بوجهٍ خالٍ من التعبير، ثم أطلق زفرةً خفيفة بين الحين والآخر، كأنما يسخر من نفسه.
كان الكتاب ذاته — «أعمال الغروب» — لكنه بدا الآن أثقل وزنًا وأغمض معنى.
فتح الأمير الشاب الكتاب ببطءٍ، ثم أخرج من بين صفحاته ورقةً زرقاء فاخرة، مصنوعة من ورق ليران المقوّى…
كانت دعوةً.
إن أعجبتكم الترجمة، أتمنى منكم دعمي بالدعاء لأهلنا وإخواننا في فلسطين والسودان، جزاكم الله خيرًا.
ترجمة:الموقر RK
✨ عضوية مميزة في فضاء الروايات ✨
🚫📢 تخلّص من الإعلانات المزعجة
💖 استمتع بتجربة قراءة سلسة ومميزات حصرية مقابل مبلغ رمزي
📌 ملاحظة: أرسل اسمك في الموقع عند الدفع ليتم تفعيل العضوية ✅
جميع ما يتم ترجمته في الفصول منسوب إلى المؤلفين، ونحن بريئون من أي معانٍ تخالف العقيدة أو معانٍ كفرية وشركية.
هذا مجرد محتوى ترفيهي فلا تدعه يؤثر عليك أو يلهيك عن دينك.
استغفر اللـه وأتوب إليه.