سلالة المملكة - الفصل 51
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
دعم سلالة المملكة لزيادة تنزيل الفصول :
الفصل 51: تاليس وزين (1)
لمَّا دعا جيلبرت وجينس تاليس خارجًا، كان لكليهما تعبيرٌ جاد. لم يكن لديه فكرةٌ عما يجري.
“ماذا يجرى؟” تطأ قدم تاليس للمرة الأولى في العشرين يومًا المنصرمة الأرض خارج باب قاعة مينديس الخشبي. نظر وهو حائرٌ إلى العربة الداكنة المألوفة.
“سيشرح لك جيلبرت.” وجه جينس الخالي من الابتسامة أقلقه. أرجحت السوط في يدها وقفزت برشاقةٍ على مقعد السائق. تحدثت ببساطةٍ وإيجازٍ: “ما عليك فعله الآن هو ولوج العربة فورًا.”
اثر تشوشه، أدار تاليس رأسه إلى الوراء، حيث جلب النبيل في منتصف العمر كرسي صعودٍ من العدم ووضعه برفقٍ على الأرض.
“ادخل من فضلك يا سيدي الشاب؛ فإن السيدة جينس لا تطيق الجلوس في العربة. لك خالص أسفي مقدمًا؛ ذاك أنك ستضطر إلى مجالسة مسنٍّ مثلي.” كانت محاولة جيلبرت في تلطيف الأجواء بالدعابة فاشلةً، حتى الحصانان يعرفان أنه مكتئبٌ وقلقٌ ويتجنبهما عمدًا.
’ما… ما الذي يجري؟‘
خطى تاليس وهو مليءٌ بالخوف والقلق على كرسي الصعود فدواسة العربة( الدواسة المقصود بها الخشبة التي تساعد علي بلوغ العربة). أدار رأسه إلى الوراء ولمح حراس قاعة مينديس، ولا أمارات على نيتهم في المغادرة معه. انحنى السيافون برؤوسهم كأنما استشعروا نظرة تاليس، وعلى رأسهم تشورا.
صرَّح جيلبرت بحسمٍ: “لن يأتوا معنا؛ عربةٌ واحدةٌ لن تجذب اهتمامًا بالغًا.”
نظر تاليس إلى الوجهين الجديين جديةً بالغةً، وكبح رغبته في معرفة ما يجري، إنما سأل سؤالًا واحدًا: “هل… سنعود بعدما نزور القصر؟”
أجاب جيلبرت بصوتٍ تشوبه القتامة: “على حسب رغبة ذي الجلالة. برجاء أن تغفر وقاحتي، لكن ينبغي أن نعجِّل.”
’هل بلغت جدية الأمور هذا الحد؟‘
التزم تاليس الصمت بعدئذٍ. جلس في العربة، وتبعه جيلبرت فورًا وأغلق بابها.
ما زال المقعد الداكن كما هو منذ زُهاء العشرين يومًا، وما زالت العربة مليئةً بالأرائك الحمراء الداكنة، زُيِّنت نوافذها بالكرستال، وزيَّن سقفها بالنجمة التساعية ، إضافة إلى الطلاء الفلوري اللامع.
ضرب سوط جينس بخفةٍ وإيقاعيةٍ. الفرق بين المرة الآنفة -حين قادها جيلبرت- وهذه هو: أن العربة صارت أسرع بكثيرٍ، وبالطبع صارت أيضًا رحلةً زاخرةً بالمطبات.
نظر جيلبرت تحت نور القمر صوب قاعة مينديس فيما العربة تتخبط، نظر إليها وهي تختفي شيئًا فشيئًا، ثم نظر إلى تاليس بجديةٍ.
“نحن على عجلٍ، ومن ثَم فسأخبرك بالأهم.”
باستثناء كلامهم في الغرفة السرية، فإن تاليس لم يرَ قط جيلبرت بهذه الجدية؛ مما أقلقه.
“من المقرر أن تزور مجموعة إيكستيدت الدبلوماسية الكوكبة بعد العام الجديد.” نظر النبيل في منتصف العمر إلى تاليس بجديةٍ.
ضيَّق تالس عينيه وسعى جاهدًا في تذكر تاريخ القارات أثناء العشرين يومًا -أو نحوها- المنصرمة.
’إيكستيدت هي دولةٌ شمالية بناها بطل البشر “رايكارو إيكستدت” إبان معركة الإبادة. تنين الجنوب العظيم، دولة الأبطال، نصل شبه الجزيرة الغربية، جارة الكوكبة الغربية القوية.‘
استرسل جيلبرت بجديةٍ: “الإقليم الشمالي أرسل أخبارًا عاجلةً: منذ ثلاثة أيام مُحيت مجموعة إيكستيدت الدبلوماسية على بكرة أبيها لمَّا كانت في طريق التل المركزي الواقع في الجنوب. لم ينج منهم أحد.”
اتسعت عينا تاليس بعدم تصديق.
تنهد جيلبرت، وأردف: “ومن بين الضحايا ستةٌ من نبلاء إيكستيدت… والأمير موريا والتون. وهو الابن الوحيد لنوفين السابع، ملك إيكستيدت وكذلك أرشيدوق مدينة غيمة التنين، أي أنه من كان سيرث هذين المنصبين.”
استنشق المنتقل* نفسًا باردًا.
*أحيانًا يُعبَّر عن تاليس بالمنتقل.
الابن الوحيد للملك في أقوى دولةٍ في شبه الجزيرة الغربية، ووريث الأرض المجاورة لهم…
…قُتل داخل أراضي الكوكبة؟
“لم ينج أحد، ولا حتى نبلاء الكوكبة الذين صاحبوهم. ما من أدلةٍ، بدماء الضحايا شُكلت كلماتٍ …”
نظر جيلبرت إلى عيني تاليس، وبسيماءٍ قلقةٍ أومأ إيماءةً طفيفةً واستطرد: ستدوم”الإمبراطورية ما دامت النجوم باقية في السماء.”
’شعار عائلة جايدستار؟‘
ذهل تاليس لللحظات .
“هذه الطريقة سيئةٌ وطفوليةٌ لإلقاء اللوم وإشعال فتيل الفتنة بين دولتين…” فكر تاليس بطبيعة هذا الفعل، ثم فطن فجأةً إلى شيءٍ ما. رفع رأسه بعدم تصديقٍ وسأل: “أهذا حقًّا فعالٌ؟”
“للأسف نعم… فعالٌ وسيئٌ جدًّا.” أجاب جيلبرت بصوتٍ خفيضٍ.
’سيئٌ جدًّا؟‘ امتلأ قلب تاليس بالخوف.
ولجت العربة حدود منطقة الشفق بشارع الملك، وقصدت المنطقة المركزية.
إن شارع الملك واحدٌ من أكبر الشوارع في مدينة النجم الأبدي. عدد السكان فيه هو الثاني بعد المنطقة الوسطى التي اُستخدمت أراضيها الشمالية مركزًا للنقل. تقع ساحة النجوم في شارع الملك، وهي سوقٌ ضخمٌ حيث أقام التجار من مختلف البلدان متاجرهم، بجوار بوابة المدينة الغربية، حيث يتجمع المواطنون من الطبقة الدنيا.
مقارنةً بمنطقة س.ك والمنطقة الغربية، اللتين ما تزال شوارعهما مضاءةً بالمصابيح والدهون الحيوانية، كان شارع الملك مضاءً بمصابيح ابدية، والتي كانت أدنى قليلًا من تلك المستخدمة في منطقة المدينة الشرقية.
ظهر المزيد من المشاة تدريجيًا، وتراوح هؤلاء الأشخاص ما بين الشعراء الذين يؤدون عروضهم في الشوارع، والتجار الذين يصرخون من متاجرهم (ما تزال بعض المحلات التي تعمل ليلًا، مثل البوتيكات ومحلات الساعات، مفتوحةً)، والخدم الذين يهرعون حولها ليؤدوا مهام أسيادهم، والمسؤولين الذين شاركوا في الأنشطة الاجتماعية، وحتى النبلاء الحقيقيين، والعربات.
لم تلفت عربتهم هنا النظر البتة.
كان شارع الملك يقع مباشرة عند التقاطع بين منطقة الشفق والمنطقة الوسطى. كانت نسبة الأثرياء والمتميزين هناك عاليةً علوًّا لا يصدق. مقارنةً بساحة النجوم والسوق الكبير الذي شاهده تاليس قبلًا، فإن هذا المكان أكثر تحفظًا وهدوءًا. كانت تفتقر إلى الضوضاء العالية وصخب النشاط، إلى جانب الأجواء الفظة والمبتذلة التي كانت تملكها الأخيرة باعتبارها سوقًا محليًّا. ومع هذا فحتى في هذا المكان شوهد المتسولون والمشردون من حين لآخر على جانبي الطريق وهم يمدون أيديهم للمارة ويئنون.
لحسن الحظ كانت نوافذ العربة مظللة، ولا يمكن لمن هم بالخارج رؤية ما في داخلها.
ومع هذا كان عقل تاليس مشغولًا بكلام جيلبرت حينذاك. ألقى فقط نظرةً خاطفةً على المعالم السياحية في الشوارع. استمرت كلمات وزير الخارجية في التردد في أذنيه: “المفتاح يكمن في “معاهدة الحصن”.”
“في نهاية السنة الدموية، غزت إيكستيدت أرضنا. سقطت قلعة التنين المكسور في أيدي العدو. بعدئذٍ، من الإقليم الشمالي، وأرض المنحدرات، والصحراء الغربية، إلى البحر الشرقي، غزت ألسنة الحرب معظم كوكبة. كان لدينا عدد قليل من الجنود، وجنرالاتنا ضعفاء. كادت السبل تتقطع بالمملكة. جلالة الملك الذي تولى العرش للتو فكر في تجنيد الأطفال دون سن الرابع عشرة في الجيش.”
زفر جيلبرت نفسًا طويلًا. كان في عينيه نظرة شرودٍ وكأنه يفكر في أحداث الماضي. “بناءً على خوف كافة الدول في شبه الجزيرة الغربية، واهتمام “ماني ونوكس” و “هانبول” من شبه الجزيرة الشرقية بمسائل شبه الجزيرة الغربية، توسطت الوزارات الخارجية بين الدول وبين كل ما دفعنا إلى تدخل الدول الأخرى في هذا الأمر.”
“في النهاية، أجبرنا جنود إيكستدت على العودة من حيث جاؤوا.”
“وقعوا التعهد، واضطروا إلى التخلي عن قطعة أرضٍ قاحلةٍ احتلوها قبل السنة الدموية، والتي كانت تابعة للكوكبة في الماضي.”
“كنت من الموقعين على “معاهدة الحصن”، وأعرفها مثلما أعرف اسمي.”
أشرقت عيون تاليس. “خسرنا الحرب لكنا ربحنا المفاوضات؟”
أومأ جيلبرت برأسه، لكن ما من شيءٍ يشير إلى الاسترخاء على وجهه. “هذا هو الجزء المروع: عوضًا عن القول أن هذا اتفاق، سيكون من الأدق القول أنه سجلٌّ من الإذلال.”
تقدمت العربة إلى الأمام. ظهر عدد من المتسولين على الطريق، حتى أن بعضهم مدوا أيديهم نحو جينس التي تقود العربة، لكن تعبيرًا باردًا كان على وجه المرأة وتجاهلتهم جميعًا. زادت من سرعة ضرب الخيول بسوطها.
“في الوقت الذي تكسب فيه العديد من المعارك وتغدو الأراضي والثروات في متناول اليد، فأنت مجبرٌ على سحب جنودك وحتى التخلي عن أرضك بسبب تعاون مختلف البلدان. هذا النوع من الفشل أذل مقارنةً بخسارة الحرب…”
“العديد من السادة، وخاصة الأرشيدوقات في الجنوب، من تشاركوا الحدود هم والكوكبة، كانوا غاضبين، إلى درجة أن “المعاهدة” هزت حكم الملك نوفين.”
“أثناء هذه السنوات العشر كانت علاقة التنين العظيم بالكوكبة دائمًا فاترةً، والآن باكتشاف الإقليم الشمالي لمنجم كرستال كبير، والنفط الوفير من البحر الشرقي ذي الحيتان في أعماقه…”
تنهد جيلبرت.
همس تاليس في قلبه: ’إيكستيدت دولةٌ ما تزال تتشكل مع أمة ما تزال تبني ثقافتها الخاصة… دولةٌ وحدتها مصاعب المعركة.‘
“كان قادة إيكستيدت، أو على الأقل الأرشيدوقات الثلاثة الذين يشاركوننا حدودهم، دائمًا متحمسين للمعركة… إنهم يتوقون إلى الكتلة الكبيرة من الأرض والموارد والثروات التي كانت في متناول اليد منذ اثني عشر عامًا، ولكن ضاعت الفرصة في النهاية.”
هز جيلبرت رأسه ونظر من النافذة. ظهر الحزن في عينيه. “لهذا السبب زارت مجموعة إيكستيدت الدبلوماسية دولتنا. إنهم مصممون على إعادة هيكلة “معاهدة الحصن” وإعادة بناء حدود الدولتين.”
“لكن الآن، قُتلوا في منتصف طريقهم إلى مدينة النجم الأبدي… هل يمكنك تخيل الوضع الذي سيندلع في إيكستيدت عندما تبلغهم الأخبار؟”
مرت العربة طريقًا وعرًا، وتخبطت كافة المقاعد.
عبس تاليس. “هل تظن أن قادة إيكستيدت دبروا هذه الكارثة؟ فقط حتى… يتسنى لهم التحريض على الحرب والاستيلاء على أرضنا ومواردنا؟”
رفع جيلبرت رأسه. حينذاك، كانت نظرته مرعبة رعبًا لا يصدق. صرح وزير الخارجية السابق ببرود: “إنه أسوأ من هذا؛ نظام اختيار ملك إيكستيدت يقوم على تصويت السادة العظماء… على مدى العقود العديدة الماضية، استأثرت عائلة والتون بالعرش لجيلين كاملين… ونوفين السابع قطعًا ليس محض وسيمٍ يحبه الجميع.”
تحدث تاليس بإدراك مفاجئ: “إذن هذه رغبةٌ موحدةٌ لدى سادة إيكستيدت للبحث عن موارد خارج دولتهم وتغيير ملكهم؟”
اهتم جيلبرت اهتمامًا خاصًّا بتوجيه سليل عائلة جاديستار الوحيد في المملكة، وقال بخفةٍ: “أنت قريبٌ يا سيدي الصغير، ما عليك سوى اتخاذ خطوةٍ أخرى في أفكارك، مجرد خطوةٍ واحدةٍ إلى الأمام. في هذه المدة الزمنية التي سيؤثر فيها موضوع اغتيال المجموعة الدبلوماسية، فإن ضغط هذا الأمر سيقع بالكامل على أكتاف الملك كيسيل. بغض النظر عن القرار الذي نتخذه، ونوع الإجابة التي نقدمها، وما إذا كان علينا القتال أو إقامة هدنةٍ، والطريقة التي سنتخذها لتولي هذا الأمر، سواءً كان علينا أن نكون عدوانيين أو لطيفين، وما إذا كان ينبغي علينا الحفاظ على مجدنا أو التذلل، كل شيءٍ سيقع على أكتاف جلالة الملك… منذ البداية، سيلقي كافة النبلاء في الكوكبة نظرةً على قصر النهضة.”
“أتعني…؟” سأل تاليس بنبرةٍ محتارةٍ. بغض النظر عن مقدار الذكاء الذي لديه، لم يكن على درايةٍ جيدةٍ بقواعد النبلاء، ولم يفهم مغزى هذا الأمر.
حينئذٍ، تحولت عيني جيلبرت فجأة إلى معقدةٍ وعميقةٍ، مما جعل تاليس عاجزًا عن فهمها.
“بادئ ذي بدء، قد يكون إجراء هذا الأمر معقدًا، ولكن لا يهم أقاتلنا أو أقمنا هدنةً، فلن يتمكن جلالة الملك من الإفلات من الانتقاد باعتباره ملكًا قاسٍ لا يرحم ويتجاهل شعبه، يضطهد الضعفاء، ويحرج الكوكبة. سيؤثر هذا تأثيرًا كبيرًا على سمعة صاحب الجلالة وعائلة جاديستار وتأثيرهما في المملكة.”
تقلص بؤبؤا تاليس. بات أخيرًا يفهم المعنى الكامن وراء سبب سوء الوضع.
“ثم إذا شاء معالجة هذا الأمر العظيم، فسيحتاج جلالته إلى قوةٍ تفوق الموجودة في المناطق المباشرة تحت اسم العائلة المالكة، سواءً من حيث التعبئة العسكرية أو القرارات الوطنية. هذا يعني أن… يجب أن يحصل جلالة الملك على الدعم الكامل من جميع السادة، خاصةً من العشائر الست الكبرى والعائلات الثلاثة عشر المتميزة – وهذا بالتأكيد سيكون له ثمن!”
ارتجف قلب تاليس. ’ثمن… مثل: المرشح التالي لحكم الكوكبة؟‘
“وهكذا للمعركة إيجابيات وسلبيات. لن يؤدي ذلك إلى حدوث خطر فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى تغيير تأثير قوة الكوكبة… حالما يمرون بمعمودية المعركة، سيُقضى على الضعيف، وسيفقد كبار السن مواقعهم، ويعيش القوي، والأحياء سيصبحون أقوى… سيُحكم على مصير بعض السادة بالموت، فيما سيحظى النصف الآخر بحياة جديدة.”
تحت عيون جيلبرت المتوهجة، جلس تاليس في العربة بتعبير مذهول وهو يشعر بتخبط واهتزاز العربة.
“أخيرًا، ما من أطفال في العائلة المالكة. لقد مرت اثنا عشر عامًا منذ أن أصبحت الكوكبة بدون وريث.” ارتفع صوت جيلبرت فجأة. “ما الخطر الكامن على عتبة البلاد والذي يمكن أن يجبر جلالة الملك على اختيار وريث في وقت مبكر حتى يتمكن من وضع خطة احتياطية للبلاد بسبب الحرب المحتملة؟ في الواقع، ماذا لو قامت عائلة ذات سمعة طيبة بعمل يوافق ثقة الجمهور ويجمع الدعم من العائلات النبيلة الصغيرة؟ من يدري ما إذا كانوا سيصبحون جاديستار القادمة والعائلة المالكة التالية؟”
الصمت…
نظر تاليس خارج النافذة بتعبيرٍ شاردٍ. فهم ما يعنيه جيلبرت، ومع ذلك صُدم بالحقيقة المخيفة التي تطلبت منه ممارسة عقله شديدة؛ لأنه لم يستطع استيعابها مهما مضى من الوقت.
رأى جيلبرت تعبيره وهز رأسه هزًّا طفيفًا. ’فلنأمل أن هذه اللعبة الوحشية والدموية التي استمرت لآلاف السنين لن تخيف هذا الشاب الذكي والموهوب.‘
بعد مرور بعض الوقت، تحدث تاليس بصوت مسموع: “لذا هذه ليست مجرد رغبةٍ من جانب واحد لإيكستيدت في القتال وتغيير ملكهم. إنها أيضًا رغبة العديد من الأشخاص في الكوكبة: التخلص من العائلة المالكة.”
وأضاف استنتاجه بصعوبة كبيرة: “اغتيال المجموعة الدبلوماسية… شيء حدث بسبب العوامل السياسية المختلفة التي تعمل معًا كما عندما ينسق طرفين طموحين في دولتين جهودهما…”
“هل هذا صحيح.” الكلمات القليلة الأخيرة التي نطق بها تاليس كانت بمثابة تأكيد.
نظر جيلبرت إلى حالته بقلق. تراجعت عيناه إثر تردده، ومع هذا قال: “بوضع العائلة المالكة الراهن، فإن وجودك وظهورك اللاحق للجمهور سيجعلك هدفًا سواءً على المستوى الوطني أو الدولي – سواءً السادة في الدولة أو إيكستيدت. حفاظًا على سلامتك سأقترح على جلالة الملك تأجيل الاعتراف بك…”
“هل هذا ضروري؟” لم يأبه تاليس بكلمات جيلبرت. تحدث بهدوء وهو يقاطع النبيل في منتصف العمر.
رفع جيلبرت حاجبه.
سأل تاليس بلا حول ولا قوة: “أي نوع من الأشخاص يتطلع بشغف شديد إلى الحرب القادمة؟ هذه ليست لعبة شطرنج حيث نأخذ قطع بعضنا البعض ونحسب نقاطنا بعدد القطع التي نأخذها.”
أغمض تاليس عينيه ببطء وشد قبضتيه. “هذه حرب. على كلا الجانبين بشر أحياء يتنفسون. إنهم يقفون أمام بعضهم البعض مباشرة، ويقتلون بعضهم البعض قتلًا قانونيًّا حتى يقضى على أحد الأطراف كليًّا… إنها حرب.”
“لقد مروا بكارثة العام الدموي، فلماذا ما يزال الناس متلهفين إلى الحرب؟ فقط من أجل تاج؟ للاستمتاع بشعور التأثير والقوة بين يديك في مملكة محطمة ومتحللة، في أرض عقيمة مواطنوها جوعى، وبين أناس مخدرين للغاية؟ وبعدئذٍ سيحكمون لمدة عشرين عامًا بصعوبة كبيرة، وكآبة، وخوف، وجنون العظمة، قبل أن ينقلوا هذه المحنة إلى أحفادهم؟”
“أهي ضروريةٌ؟”
شاء جيلبرت الإجابة، لكنه وجد نفسه في حيرةٍ من أمره لبرهةٍ. هز تاليس رأسه في حالةٍ معنويةٍ منخفضةٍ لأنه لم يحصل على إجابته.
ومع ذلك ، لعل هذا ما كان عليه التاريخ – تاريخ الأفعال البشرية.
وقعت العربة في الصمت مجددًا.
غادرت العربة شارع الملك الصاخب. ظهر المزيد من المتسولين خارج العربة. أُجبرت جينس على استخدام السوط لتخويفهم.
نظر جيلبرت إلى تلميذه بتعبير قلق وقال بهدوء: “هذه ليست حربًا، إنما هي السياسة. نحن جميعًا مقامرون وأهدافنا هي “قوة الفوز”. الأرض والأشخاص هم ببساطة أوراق مساومة يمكننا استخدامها في التبادل. الفوز والخسارة هي ببساطة نقل أوراق المساومة.”
“هذه هي اللعبة بين النبلاء والدول.”
رفع تاليس بصره وضحك بلا حول ولا قوة. “نعم، الحرب هي استمرار للسياسة – صراع العروش، وليمة للغربان.”
’لكنني لا أحب هذا.‘ فكر تاليس بغمغمةٍ هادئةٍ.
حوَّل المنتقل رؤيته إلى المنظر خارج نافذة العربة. هناك مد متسول بمظهر محزن يده، يتحسس محور العجلة.
عند رؤية هذه المجموعة من المتسولين في العاصمة، فكر تاليس: ’هذه المملكة بالفعل في حالة يرثى لها… مهلًا!‘
عندما مرت العربة بمصباح أبدي متوهج، اكتسبت عيني تاليس تركيزًا، ورأى فورًا يد المتسول بوضوح.
كانت يداه خشنتين مليئتين بالمسامير (ليس مقصود بها مسامير ولكن المقصود الجلد الميت).
لكن المسامير لم تكن موزعةً بالتساوي في المناطق التي اعتاد رؤيتها في أيدي العمال أو المتسولين – حيث كانت في المناطق التي يستخدمون فيها أيديهم عادة للمس أو حمل الأشياء الثقيلة، بل كانوا على الإبهام والسبابة، وكذلك بالقرب من مكان اتصال الأصابع السابقة والأخيرة.
بدأت عجلات دماغ تاليس المسننة تدور.
رأى نفس المسامير الفريدة على يدي شخص آخر من قبل.
جالا شارلتون.
ذهل تاليس. التفت إلى متسول آخر، فاللذين بعده…
“جيلبرت!”
نظر النبيل في منتصف العمر بارتباكٍ…
لم يستطع سوى سماع صوت تاليس الهادئ يقول: “ثمة خطأ ما، هؤلاء ليسوا متسولين.”
استنشق المنتقل نفسًا عميقًا.
“إنهم… إنهم…”
انتقل صوت يودل الخشن الخافت في الهواء وأكمل جملته: “…مغتالون.”