السجل البدائي - الفصل 375

الفصل 375 أخوريل

سمع أوغسطس خطواتٍ مترددة تقترب منه، وحمل النسيم رائحة الدخان والبيرة. كانت الفتاة التي أعطته الطعام.

“همم، أعتذر إن كنتُ… متغطرسةً بعض الشيء؟ هل هذه هي الكلمة الصحيحة؟ أجل! سيدي، أعتذر إن كنتُ متغطرسةً بعض الشيء بإحضار الطعام إليك دون طلبك. أنا فقط…”

عند مشاهدة الفتاة البشرية الشابة وهي تتلعثم في الكلام، عاد عقل أوغسطس إلى ما قبل ثلاثمائة عام عندما كان في حالة التجسد، ولم يكن العالم كله سوى مغامرة.

كان تريون واسعا، وفي بعض الأحيان كان بإمكانك رؤية أشخاص ومواقع رائعة.

أرسله انتقال خاطئ إلى مكان منعزل حيث تسببت سلسلة من الهجمات من قبل الوحوش في مقتل جميع الرجال تاركة ورائها الآلاف من النساء والأطفال.

عاش أوغسطس معهم أسابيع، وشاهدهم يُذبحون جميعًا، واستمتع بكل لحظة من لحظات هذا الترفيه الرائع، وقوبلت صرخات استغاثتهم بالسخرية، فلو كان بينهم مغامرون آخرون، لاكتشفوا أن على بُعد مئات الأميال مدينة شاسعة ستحل مشاكلهم. لماذا لم يهربوا؟ لماذا يبقون ويدافعون عن تلة ترابية عديمة الفائدة؟

هل كان ذلك بسبب الجهل؟ أم محاولة يائسة للتمسك بثقافتهم الفارغة؟

كان هؤلاء الناس راضين بالعيش داخل واديهم الصغير في كوكب مزدهر مثل تريون، حيث يتجول السامين العظيمة، وكان موتهم هو النتيجة الحتمية لكونهم ضيقي الأفق.

نظر إلى هذت الطفلة الخجولة والذكية، فلم يعد بوسعه إيجاد أي حجة لإدانتهم. لو أخبرهم الحقيقة، فماذا عساهم أن يفعلوا؟ لا يستطيعون الهرب، يستحيل على البشر السفر في الفراغ. لا يستطيعون الاختباء مما هو آتٍ، لا خيار لهم سوى الموت.

‘مثلما أنا، أنا بالفعل في طريقي إلى الموت، ولا أستطيع الركض، ولا أستطيع الاختباء، كل ما أستطيعه هو الانتظار حتى أموت.’

هدر أوغسطس قائلا: “اذهبي إلى الجحيم!”

تجاهل نظرة الارتباك والألم على وجهها، وبدأ يبتعد، ورأسه منحنيٌ في إحباط. لم يكن يعلم متى وجد نفسه خلف زقاق، ثم سمع وقع أقدام أربعة رجال مسرعين وأنفاسهم.

عندما شعر بالضربة على مؤخرة رأسه، ابتسم أوغسطس قبل أن يصطدم وجهه بالأرض، مما أدى إلى تسطيح أنفه.

على عكس أي رجل عادي يغطي رأسه ويطوي نفسه لتقليل مساحة التأثير على جسده، استدار أوغسطس وفتح ذراعيه كما لو كان يريد أن يتمكن مهاجموه من الوصول بسهولة إلى جميع أعضائه الحيوية.

توقف مهاجموه عن أفعالهم عند تصرفاته الغريبة، لكن بعد تبادل النظرات، هزّوا أكتافهم، وبدأ الرجال الأربعة يدوسونه بأقدامهم، ويتبادلون اللعن والتوبيخ. شعر أوغسطس بخيبة أمل طفيفة، إذ لاحظ أنه لم تكن هناك نية للقتل، بل فقط لإلحاق الألم، وقد أثار هذا الإدراك ضحكه بشكل لا يُصدق.

بدأ أوغسطس في الابتسام، بينما كان يبصق الدم والأسنان المكسورة، وسرعان ما تحولت تلك الابتسامة إلى ضحك جنوني كامل.

“أعجبك، أليس كذلك؟ استمر بالضحك، سنحطم كل أسنانك.” بصق أحد الرجال في وجهه الملطخ بالدماء، فتراجعوا جميعًا.

لقد كان كل هؤلاء الرجال أقوياء، ولكن كان هناك شيء مزعج للغاية بشأن شخص يبدو أنه لا يملك غريزة الحفاظ على الذات.

وعندما اتجهوا للمغادرة، صاح أوغسطس قائلًا: “مهلاً!”

التفت الجميع لينظروا إلى الرجل المجنون الذي بدا وكأنه يتوق إلى الألم.

“ماذا؟ هل تريد المزيد من الألم، أيها الوغد؟”

“لا، لا، لا، أنتم أضعف من أن تُسببوا لي أي ألم. انظروا إلى هذا…”

مزق أوغسطس قميصه ليكشف عن صدره، شهق جميع الرجال عندما أصبحت وجوههم شاحبة وكأنهم رأوا شبحًا، ألقى أصغرهم نظرة أخرى وانحنى ليتقيأ بشكل متفجر.

كان منظر جذع أوغسطس كابوسًا. كان صدره وبطنه مسلوخين، لذا لم يكن هناك جلد، وكان قلبه ينبض بوضوح. بين رئتيه وأمعائه، كان يستقر مخلوق صغير يشبه الطفل، إلا أن أسنانه السوداء الحادة كالإبر كانت عالقة حول قلبه، ومن خلال أصوات الشفط الصادرة من فمه وحركة البلع في حلقه، كان منشغلًا بالتغذية.

“أترون هذا؟” أشار أوغسطس، “هذا ما سيحدث لكم جميعًا، لكن بخلافي، أنتم فانون، ولذا سيكون ألمكم قصيرًا. لذا، إن أردتم أي نصيحة مني… لا أن تستمعوا أبدًا لأحمق مثلي. عودوا إلى عائلاتكم، احتضنوا زوجاتكم، احتضنوا أطفالكم بشدة، واطلبوا البركات الأخيرة من والديكم، قبل نهاية هذا اليوم، ستكونون جميعًا طعامًا.”

فجأةً اهتزت الأرض، وتنهد أوغسطس قائلاً: “لقد فات الأوان. لاميا هنا.”

دوّى دويّ آخر، وانهار منزلٌ ليس ببعيدٍ عنهم. ساد الفوضى في عقول هؤلاء الرجال وهم يفرّون. غطّى أوغسطس صدره وسار خارج الزقاق.

استطاع بصره أن يرى في الأفق البعيد شكلاً ضخماً يشبه عنكبوتاً عملاقاً. كان يقف بجانب جبل، وحجمه الهائل جعل الجبل أشبه بمسند قدم صغير.

حرك كتلته الضخمة على أرجله الاثنتي عشرة، وكل حركة تسببت في ضربات ثقيلة مثل الزلزال.

كان هذا أحد المخلوقات بين الكواكب التي خلقتها لاميا، ويُدعى أخوريل. كانت تمتلك ثلاثة منه بالفعل. اثنان منها سيكونان في المدار، ويبدو أنها كانت تعتقد أن واحدًا فقط منها يكفي.

لقد كانت على حق، فالأخوريل يستطيع محاربة السامين.

لكن فظاعته لم تكمن فقط في قدرته القتالية، بل في قدرته أيضًا على حصد كامل كتلته الحيوية من كوكب، وجمع النباتات، والأرواح الواعية وغير الواعية. بإمكانه استنزاف طاقة الحياة من كوكب، وتركه على حافة الموت.

مرة أخرى كان كوكب أخر على وشك الانتهاء.

وخرج حشد من الناس إلى الشوارع من منازلهم وأماكن عملهم حيث كانوا جميعًا يشاهدون في رعب الشكل العملاق للوحش.

الترجمة : كوكب