درويدي المدينة - الفصل 1
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
كان الحشد متكدِّسًا بشكل وثيق، يتلوّى في كتلة من الأجساد الصارخة والصاخبة، تفوح منه رائحة العرق والبؤس. كان اليوم الأول من الشهر، وهذا يعني أمرًا واحدًا فقط: وصول “اللحوم الطرية” (الوافدين الجدد). ارتفع الضجيج تدريجيًا مع ملاحظة الجميع للنشاط عند أعلى الفوهة. دفع الرجال بعضهم البعض في محاولة للحصول على رؤية أوضح للحُرّاس والبضائع التي بدأت تتخذ مواقعها على حواف الفوهة.
من مكانه عند الأطراف، كان دانتيس يراقب كل ما يجري. من تجربته، كان يعرف مدى خطورة الاقتراب كثيرًا من الإنزال الشهري. لا تزال الندبة بين ضلوعه تذكيرًا دائمًا بطعنة تلقّاها ذات مرة أثناء محاولته اليائسة للوصول إلى كيس بطاطس. تحرّكت يده اليمنى لا إراديًا نحو الندبة، بينما كان يراقب المشهد.
كان يأمل أن يكون قد وفر ما يكفي لتفادي إنزال هذا الشهر، ولكن بعد أن خسر جزءًا من حصصه في مقامرة نرد سيئة الحظ، قرر المغامرة أملا في أن يحالفه الحظ هذه المرة. غم ذلك، كانت أمامه خيارات أخرى أقل خطورة: يمكنه القيام ببعض الأعمال المشبوهة للعصابات، أو السرقة، أو حتى البحث عن الفطر أو اللحم في الزوايا العميقة من الحفرة (السجن السفلي). ومع ذلك، أراد أن يرى إن كان بإمكانه قلب الأمور لصالحه هنا.
“أخلوا الفوهة!” جاء صوت الحراس من الأعلى، معززًا بالسحر.
بدأ السجناء المتجمعون تحت تلك الرقعة الصغيرة من السماء التي تمثل المدخل والمخرج الوحيد لسجنهم في التحرك بعيدًا عن ضوء الشمس والدخول في الظلال على الأطراف، متراجعين نحو الحشد. البعض بقي في مكانه بالطبع، مجازفًا بكل شيء من أجل الحصول على حذاء جديد، أو وجبة لائقة، أو حتى رفيق زنزانة جديد لقضاء الوقت.
كان ذلك النداء هو التحذير الوحيد قبل أن يبدأ الحراس في إلقاء المؤن. حتى مع صراخ رفاقه السجناء، كان دانتيس يستطيع سماع صوت ارتطام الأكياس الثقيلة بالأرض، والتي كانت تزن ما بين أربعين وخمسين رطلًا، مما يثير سحبا من الغبار. السجناء الذين بقوا في وسط الفوهة ركضوا بسرعة، يمزقون الأكياس بأدوات بدائية، أو بالأنياب، أو المخالب.
رجل كان في وسط تمزيق كيس من اللفت، فجأة سُحق بكيس آخر سقط عليه. كان هناك بعض “الأهات” المتعاطفة من الحشد، ولكنها سرعان ما طمست بضحكات الحراس في الأعلى و استهزاء السجناء غير المتعاطفين في الأسفل. كان الحراس قد جعلوا من محاولة سحق السجناء لعبة منذ زمن طويل، تقليدًا يعود لأكثر من مئة عام.
أولئك الذين تمكنوا من تفادي السحق بدأوا في ملء أكياسهم البدائية، أو جيوبهم، أو حتى أيديهم العارية بكل ما يستطيعون. بعض السجناء الأكثر يأسًا بدأوا في التهام الطعام فورًا بمجرد أن وصل إلى أيديهم.
بينما استمر بعض الحراس في إلقاء الأكياس، بدأ الباقون في صف السجناء الجدد على حافة الفوهة. كانوا يقفون هناك بلا شيء سوى ملابسهم. ما زال دانتيس يتذكر وقوفه في ذلك المكان، غاضبًا وخائفًا ومُصممًا، يحاول تتبُّع أثمن المؤن أثناء سقوطها. سُمع الصوت المميز لتعويذة “سقوط الريشة” التي يلقيها أحد السحرة، ثم صوت قدم أحد الحراس، وهو يدفع ظهر أحد السجناء.
أول من سقط في الحفرة كان نصف إلف يبكي محاولا التشبّث بحافة الفوهة، لكن أحد الحراس أنهى مقاومته برميه بحجر. لم يكمل نصف الإلف سقوطه حتى قفز أورك وسط الفوهة، أمسك بكاحليه، وضربه بالأرض بقوة. تابع الأورك ضربه بوحشية قبل أن يفرغ جيوبه ويسرق حذاءه، تاركًا إياه فاقدًا للوعي. بعد ذلك، انتقل الأورك لسرقة سجين آخر كان يملأ جيوبه بشرائح من اللحم المجفف من أحد الأكياس.
لم يرفّ لـدانتس جفن وهو يشاهد هذا المشهد، فقد رأى ما هو أسوأ بكثير يحدث للقادمين الجدد. البكاء في أثناء السقوط قد يؤدي إلى نتائج أسوأ من مجرد الضرب والسرقة. إذا كان القادم الجديد محظوظًا، فسيُترك وشأنه بعد ذلك.
السجين التالي في الصف حاول الهرب قبل أن يتمكن الساحر من إلقاء تعويذة “سقوط الريشة” عليه، اندفع برأسه نحو الأرض، فانكسرت عنقه فور الهبوط. تصاعدت التصفيقات من الحُرّاس وحتى السجناء تضامنًا، فهذا النوع من “الانتحار” كان مألوفًا فغالبًا ما يحدث اثنان أو ثلاثة من تلك الانتحارات كل شهر. قيم دانتيس المشهد بهدوء، معتقدًا أنه من بين أفضل حالات الانتحار التي رآها، نظافة ودقة.
بعد ذلك، أصبح الوافدون التاليون أكثر حذرًا: يهبطون، يقاومون، يجمعون ما يستطيعون، ثم يهربون. في هذه المرحلة، بدأ السجناء الآخرون – الذين جمعوا مؤنهم – بالفرار أيضًا، فالتحرُّك في جماعات يزيد فرص النجاة.
كانت الجماعات ضرورية؛ فمع تلاشي الضوء القادم من الفوهة، حيث تبتلعهم ظلال الحفرة، تبدأ العصابات بالظهور. شاهد دانتيس قزمًا أخطأ بمحاولة التحرك عبر مناطق “ملوك أرض الإلف”. انقضَّ عليه ستة من الإلف في ثوانٍ. لم يرَ سوى لمحات من جسده يُسحَق بين أقدامهم، لكنه بالتأكيد سُرق وضُرب، وربما قُتل.
تحرَّك دانتيس نحو حافة الحشد، يراقب الحركة في المركز. رأى إلفًا مُغطَّى بوشوم أشجار وكَروم يُستقبل بحفاوة بين ملوك أرض الإلف، ربما كان عضوًا من الخارج، وكان شخصًا يجب تجنبه. ثم رأى الأورك الذي ضرب القادم الجديد يتعرض لهجوم من قبل أقزام “عشيرة غبار الحجر”، حيث سقط بعد أن ضربوه في ساقيه.
أخيرًا، رأى دانتيس رجلاً بشريًا. كان يراقب الموقف بذكاء، لم يكن جديدًا، بل كان واضحًا أنه مخضرم. لم تكن هناك وشوم تشير إلى انتمائه لأي عصابة، وكان يحمل كيسين ثقيلين على كتفيه. كان الرجل ينتظر اللحظة المناسبة، وعندما رأى فجوة بين “ملوك أرض الإلف” و”المقيدين”، بدأ في الركض.
كان دانتيس يراقبه وهو يقفز فوق أحد “الهالفنغ” الذين حاولوا الإمساك بساقيه، وتجنب طعنة من سجين آخر بضربه بالكيس، وأخيرًا وصل إلى المسافة بين العصابتين. كان دانتيس يشجعه وهو يركض. العصابتان تقاربتا عليه، لكن لحسن حظه تورطتا في شجار مع بعضهما البعض قبل أن يتمكنا من اللحاق به.
بدأ دانتيس في التحرك على طول حافة الحشد، حيث ألقى الرجل كيسًا في الهواء، مما جعل الجميع يتدافعون للحصول عليه. ولكن دانتيس كان يراقب الرجل منذ البداية، ورأى أن هذا الكيس كان معه قبل أن يتوجه إلى مركز السجن. بحلول الوقت الذي أدرك فيه الآخرون أن الكيس كان مليئًا بالصخور فقط، كان الرجل قد شق طريقه للخروج.
انزلق دانتيس إلى زاوية جانبية في النفق الذي كان الرجل متجهًا نحوه. كان معجبًا بحظ الرجل ودهائه. وكان أيضًا ممتنًا لذلك.
عندما مر الرجل بجانبه، أمسك دانتيس بصخرة كان يحملها وضرب بها مؤخرة رأس الرجل. سقط الرجل على الأرض بقوة، وسرعان ما استولى دانتيس على الكيس، وهرب أعمق داخل النفق، مصليًا بصمت لسامي اللصوص، وهو يشق طريقه أعمق داخل سجن “ريندهولد” السفلي.
…
اتخذ طريقًا طويلًا متعرجًا للعودة إلى زنزانته، حيث كان يغير الاتجاهات، ويأخذ الممرات الجانبية باستمرار. كان من الصعب تتبع الأشخاص بشكل غير ملحوظ في الممرات الضيقة، ولكن الحذر كان ضروريًا. الكثير من السجناء كانوا يعرفون حيلًا للبقاء مختفين. وكان الفطر المضيء، والحجارة الأرجوانية الغريبة التي وضعها أولئك الذين اختاروا العيش في تلك المناطق، تضيء طريقه وهو يتحرك.
أخذ الطريق الطويل حول السوق السفلي، ومر عبر أراضي “المقيدين” حيث تبادل إيماءات سريعة مع بعضهم ممن يعرفهم، ثم توجه إلى أبعد المناطق التي يسكنها الكوبولد فقط، الفئران، وهو.
في سنواته الخمس التي قضاها في السجن السفلي، تعلم دانتيس بسرعة قيمة البقاء مختفيًا، خاصة إذا كنت تخطط للعيش دون حماية العصابات. البقاء في الزوايا العميقة كان يجعل ذلك سهلًا.
انزلق بين شق كبير في الجدار، وسحب الكيس خلفه، ودخل إلى ملجئه. سمع صوت صرير، ومد يده داخل الكيس الذي سرقه ليجد قطعة من اللحم المجفف. مزقها إلى نصفين، ووضعها في الزاوية. وبعد فترة وجيزة، خرج فأر بني كبير من الظلال، واستجاب بالبدء في التهامها.
“على الرحب”، قال وهو يتحرك إلى الداخل. ألقى الكيس جانبًا، وأمسك بالإبريق الطيني الصغير الذي يحتفظ به في وسط الغرفة حيث كان يجمع قطرات الماء العذب التي تتساقط باستمرار. أخذ رشفة طويلة مباشرة منه، ثم سقى بعناية الطحالب الخضراء الصغيرة التي تنمو في أنحاء كهفه. كانت هي المصدر الوحيد للألوان التي يراها يوميًا. بعد أن أكمل مهامه اليومية، أفرغ غنيمته على الحجر المرتفع الذي يستخدمه كطاولة. ثلاث حبات بطاطس ونصف، حفنتان من اللحم المجفف، بضع عبوات من البسكويت الجاف، بعض لفائف القطن، وحتى بعض الفاكهة، ربما حتى ما يكفي لصنع بعض الخمر. ابتسم وهز رأسه برضا. كانت غنيمة جيدة، وستكفيه لشهر إذا كان حذرًا، ووجد التجارة المناسبة للقطن.
تحولت ابتسامته تدريجيًا إلى صرير أسنان، بينما كان ينظر إلى البضائع. منذ خمس سنوات فقط، كان سيفرغ كيسًا مليئًا بالعملات والجواهر. والآن، كان يشعر بالسعادة تجاه فتات الطعام الذي تلقيه المدينة. شعر بالمرارة التي كان يكبتها تتصاعد إلى السطح. تذكر الشعور عندما دُفِع السلم الذي كان واقفًا عليه من جانب المبنى، عندما سقط على أرضية الشوارع الصلبة. الضرب الذي تعرض له بعد ذلك من حراس “ريندهولد”.
سمع صوت صرير آخر خلفه. زفر ببطء، ومزق قطعة أخرى من اللحم المجفف، وألقاها في الزاوية حيث كان الفأر ينتظر متوقعًا.
“لدي المزيد اليوم، لكن لا تعتاد على ذلك.”
رد الفأر بأكل الطعام في صمت.
“نقطة جيدة، لا داعي للتفكير في الموضوع. لدي طعام، لدي مأوى، وأنا على قيد الحياة. لا يوجد شيء آخر.”قال، وكان ذلك صحيحًا. البقاء على قيد الحياة هو الشيء الوحيد الذي يهم الآن، وهو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يهم.
—
* توضيح لبعض الأشياء:
*الفوهة: مكان الإسقاط الشهري
*الحفرة: السجن السفلي: سجن ريندهولد
*الهالفلنغ أو النصف إنسان: هو مخلوق صغير شبيه بالبشر، يُستخدم في كثير من روايات الفانتازيا، ويُسمى أيضًا نصف إنسان نظرًا لحجمه. باختصار، إنه شبيه بشخصية تيريون لانستر من “صراع العروش”.