المسار المثالي - الفصل 8
لاتنسو الدعاء لأخوتنا في غزة ❤️
الإعدادات
Size
A- A+Font
لون الخلفية
الفصل 8: شظية الماضي، لين
2016؛ البندقية، إيطاليا.
كان يُطلق عليها ذات يوم مدينة القنوات. كانوا يقولون إنها أجمل مدينة في العالم، حيث يأتي السياح من الصين لزيارتها.
وكان ذلك قبل الحروب.
بعد أكثر من عقد من الزمن، أصبحت البندقية قبراً مفتوحاً، ومستنقعًا سامًا فاضت قنواته بالنباتات السامة والطين الداكن. غرقت بعض الجزر بعدما دمرت دعائمها جراء قصف طائرات ميكرون عديمة الطيار. وتدهورت حالة معظم المنازل، وغزتها الديدان والحشرات، وامتلأت غرفها بعظام بشرية قديمة؛ وفي الوقت نفسه، استولى الغزاة على ضواحي المدينة، مستخدمين القوارب لمهاجمة المجتمعات الساحلية.
على الأقل، فعلوا ذلك حتى يوم أمس. حتى وصول مجموعة ريان.
لم يكن ذلك اختيار المراهق، بالطبع. جرّهم والد لين إلى هناك من مدينة روبانو بعدما سمع أن الغزاة المحليين يوجد من بينهم جينومات. فلم يكن ذلك المجنون يستطيع مقاومة استهداف أهداف سهلة، تاركاً البقية لتجميع الأشياء بينما ذهب للصيد.
فر النهابين الأكثر ذكاءً دون النظر خلفهم؛ أما الآخرون، فقد لقوا حتفهم، وألقيت جثثهم المصفاة من الدماء في المياه. سواءً الجينومات أو البشر العاديون. لم يكن أحد قادراً على هزيمة والد لين. لا أحد. ربما باستثناء أغسطس أو ليو هارغريفز، ولكنهم لم يلتقوا بهم حتى الآن.
ووجهه مغطى بوشاح لحمايته من الهواء الملوث، طرد ريان هذه الأفكار السوداء من عقله وألقى نظرة على المنزل الحجري أمامه. كُوِّمت كتب متربة نصف متعفنة في باحته، مكوِّنةً درجاً غريباً يمكن استخدامه لتسلق الجدران المجاورة.
“ريري!” نادته لين من الداخل. “تعال!، فقد وجدت كنزاً!”
مدفوعاً بالفضول، دخل ريان، المراهق ذو الستة عشر عاماً، المنزل وهو يصفِّر. وكما توقع، كانت مكتبةً نوعاً ما، وإن بدت مختلفة عن أي شيء رآه من قبل. فقد شكلت أكوام الكتب متاهة حقيقية من الجدران والانعطافات المتشابكة، لدرجة أنها قد تسحقه حتى الموت إن انهارت. وبخلاف مناطق أخرى من المدينة، لم تستحوذ النباتات على هذا المكان، وتجاهله النهابين تماماً؛ لم يعد أحد يحترم الثقافة في هذه الأيام.
وجد لين على متن قارب. حرفياً. فقد أحضر أصحاب المكتبة السابقون جندولاً إلى الداخل قبل أن يملؤوه بالكتب. كانت صديقته المقربة مستلقية على ظهرها فوق كومة، تقرأ شيئاً ما.
“مرحباً، يا قصيرة.” كانت لين، الفتاة الصبيانية ذات العمر المماثل لريان، أصغر منه قليلاً ولم تكن تحب أن يُلفَت النظر لذلك؛ لذا بالطبع، كان يمازحها بلا رحمة. “هل تقرئين رحلات غوليفر؟”
“أنا لست قصيرةً، أنا أنمو!” اعترضت لين، مقاطعة قراءتها لتنظر إليه بغضب بعينيها الزرقاوين الجميلتين. غالباً ما شعر ريان بأنه يستطيع رؤية البحر الذي تحبه كثيراً في عينيها. ببشرتها شاحبة، وشعرها الأسود الذي يصل إلى كتفيها. حقاً، كانت بياض ثلج العصر الحديث، رغم أنها ترتدي ملابس سفر بنية بدلاً من الفساتين النبيلة. “والآن تعال إلى هنا قبل أن ألقي قاموساً على وجهك.”
استلقى ريان بجانب صديقته المفضلة، وكتفاهم يلامسان بعضهما، ثم ألقى نظرة خاطفة على الغلاف. رغم أنه كان قديمًا ومصفرًا بفعل الزمن، بدا الكتاب في حالة جيدة نسبيًا. ‘Vingt Mille Lieues sous les mers, écrit par Jules Verne’
“عشرون ألف فرسخ تحت البحر، بقلم جول فيرن، النسخة الفرنسية”، ترجمت لين العنوان، وعيناها تلمعان تقريبًا. فلديها بالفعل نسختان من هذا الكتاب، ولكن لم يكن أي منهما باللغة الأصلية. “لا يمكنك أن تتخيل كم بحثت عنه. فالترجمات سيئة للغاية.”
“وأنا من كنت أظن أنكِ لا تجيدين قراءة الفرنسية، mais non؟ (ألستِ كذلك حقًا؟)” سخر منها ريان، فردت عليه لين بقرص ذراعه. “آه!”
“تستحق ذلك، ريري،” أجابته. “Et j’apprend la français, merci bien beaucoup (وأنا أتعلم الـ فرنسية، شكرا جزيلا لك).”
“Le français (بل الفرنسية)،” صحح لها ريان. “ويمكنكِ حذف ‘bien’ من السياق.”
تنهدت. “فقط خذ كتابًا واصمت. أعتقد أنهم يملكون ‘كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس’، والذي تحتاج حقًا لقراءته.”
“أحب القراءة، ولكن ليس بقدر ما أحب الأكل،” قال ريان. كانت لين قد ملأت حقيبة إمداداتها حتى الحافة بالكتب، ولم تضف شيئًا آخر. “إلا إذا أردتِ أن أجعل البيان الشيوعي وجبتي؟”
“إذا فعلت ذلك، فسوف آكلك، ريري. بالشوكة.” لوحت بيدها نحو المكتبة. “هذا المكان ما كان ليصبح مكبًا سامًا لو حدثت الثورة الشيوعية.”
“ربما كان ليصبح معسكر عمل بدلًا من ذلك،” رد ريان، مستمتعًا بمضايقة معتقداتها.
“لقد أفسد الناس الأمر، ولكن المفهوم صحيح”، احتجت لين وهي تغلق كتابها وتضعه على صدرها. “هل من الخطأ أن يعتقد المرء أن الجميع يجب أن يكونوا متساوين؟”
“لا، ولكنه أمرٌ ساذج.”
“ما زال بإمكانه أن يحدث،” أصرت لين بتفاؤل مرح. “لقد أعيد تشغيل كل شيء إلى الصفر. فالعالم قد تغير.”
“نعم، ولكن الطبيعة البشرية لم تتغير.”
“أنت متشائم أكثر مما ينبغي يا ريري.” أغلقت لين كتابها ووضعته في حقيبة السفر خلف الجندول. “متى تظن أن أبي سيعود؟”
عندما ينفد من الضحايا. “لا أعرف.”
نظرت إليه بصمت، وعيناها تلتقي بعينيه. نادرًا ما كان لديهما لحظات من الخصوصية، حيث يمكنهما التنفس بعيدًا عن أعين والدها. نظر ريان إلى عينيها، ثم إلى شفتيها…
افعلها، افعلها، افعلها.
ولكنه تراجع بجبُن.
بدا وجهها بلا تعبير، فأطلقت لين تنهيدة. لم يكن ريان متأكدًا إن كان تنهدها ناتجًا عن ارتياح أم خيبة أمل. “هل يمكنك مساعدتي في إزالة الكتب من ذلك القارب؟” سألت. “يمكننا جعله سريرًا.”
“هل تريدين النوم هناك؟” صدم ريان من الفكرة. كان الخشب متضررًا للغاية، يمكن أن ينهار في أي وقت.
“نعم،” قالت. “نعم. لطالما أردت أن أمتلك سفينتي الخاصة. هل تعلم أن أكثر من ثمانين بالمئة من المحيط لم يتم رسم خرائطه بعد؟”
“أتريدين النوم في الجندول أم استخدامه؟”
“يمكننا العثور على واحدة،” قالت، وهي تحلم. “سفينة حقيقية. أو نصنع واحدة. ونبحر مثل المستكشفين القدامى.”
“مع والدك أم بدونه؟” سأل ريان السؤال الصعب.
لم ترد لين، وذلك بحد ذاته إجابة. وبدون أن تنطق بكلمة، نهضت على قدميها وبدأت بإزالة الكتب بمساعدة ريان. وعندما انتهيا، تفحصت لين قاع القارب، وعبست. “همم،” قالت بتأمل. “هل يمكن أن يكون؟”
“ماذا؟”
“هذا النوع من الجنادل،” قالت لين. “هل تعرف ما هو؟”
“عذرًا، فأنا لست مهووسًا بالسفن مثلكِ.”
بدلاً من الإجابة، طرقت لين على نقطة في نهاية الجندول. “أسمعت ذلك؟”
“اللاشيء؟”
“بالضبط،” قالت لين بانتصار. “هذا النوع من القوارب غالبًا ما يحتوي على مقصورة سرية. كانوا ينقلون بها رسائل، أموال، أو حتى مخدرات.”
“المنطق هو أن النهابين قد عثروا عليها بالفعل،” أشار ريان.
“هذه ليست معلومة شائعة، ويجب أن تعرف أين تبحث للعثور عليها. جميع مهووسي السفن يعرفون ذلك!” يمكن أن تكون متعجرفة أحيانًا. “وأيضًا، إنها مكتبة.”
نعم، شك ريان أن كثيرًا من السكان المحليين قد زاروا المكتبة، وبالنظر إلى الغبار الذي ارتفع عندما أزالوا الكتب، لم يلمس أحد الجندول منذ سنوات. من المرجح أن النهابين قد فحصوا الأماكن الواضحة مثل طاولة الإعارة دون التدقيق في التفاصيل.
“أزل تلك اللوح الخشبي،” أشارت لين إلى نقطة في القارب. “إنه قديم، لن يكون الأمر صعبًا.”
“لماذا أنا؟” تذمر ريان.
“هذا ما يسمى بتقسيم العمل،” أجابت بابتسامة مشرقة. “أنا أفكر، وأنت تعمل!”
“إذا كان عملاً، فهذا يعني أنني أتقاضى أجرًا”.
“سأسمح لك بالنوم في الجندول،” غمزت له لين.
انظر فقط إلى ما اضطر لفعله من أجلها…
في النهاية، وكما قالت لين، كان الخشب قد تضرر كثيرًا بفعل الزمن والنمل الأبيض، فلم يجد ريان مشكلة في إزالة الألواح بيديه العاريتين. وكما توقعت، كان هناك مقصورة داخل القارب… ومعها كنز مذهل.
صندوق معدني سداسي الشكل، بقفل على شكل حلزون مزدوج. لم يتمكنا سوى من حبس أنفاسهما عند رؤيته.
“مستحيل…” اتسعت عينا لين بصدمة. “هل هذا ما أعتقد أنه هو؟”
“أعتقد ذلك.” واحد من الصناديق العجائب الأسطورية، التي أرسلها الخيميائي إلى أول الجينومات. الأجهزة التي بدأت مأساة عيد الفصح الأخير وحروب الجينومات التي تلت ذلك. لم يجد ريان أي مشكلة في فتح القفل، بعد أن أمضى سنوات في اقتحام المنازل المهجورة للبحث عن المؤن.
انفتح الصندوق المعدني، كاشفًا عن رسالة محفوظة جيدًا وثلاث حقن مملوءة بسائل دوار. واحدة زرقاء، وأخرى بنفسجية، وثالثة حمراء. كل منها تحمل رمز الحلزون الملوّن المتعدد.
إكسير.
فتح ريان الرسالة، بينما كانت لين تتطلع إلى محتواها فوق كتفه. كان الورق مكتوبًا بخط اليد.
[تهانينا، سيد روسي.
فقد تم اختيارك للمشاركة في تجربة اجتماعية-وراثية عظيمة من تصميمي. ربما لا تعرفني، لكنني أعرفك يا سيد روسي. أؤمن أنك نموذج مميز من بين أفراد جنسك البشري العاقل، تمتلك المهارات والذكاء والجينات الضرورية لقيادة البشرية إلى المرحلة التالية من تطورها البيولوجي.
أمنحك معجزة.
يحتوي هذا الصندوق على ثلاثة إكسيرات، تم اختيارها عشوائيًا من بين مجموعة تضم أكثر من عشرة ملايين موزعة حول العالم. لا بد أنك سمعت عنها في الأخبار. نعم، تمنح هذه الأمصال مجموعة من الفوائد الصحية، بما في ذلك قوة فريدة تعتمد على تركيب الألوان:…
الأخضر: الحياة.
الأزرق: المعلومات.
البنفسجي: الزمكان.
الأحمر: الطاقة.
البرتقالي: المادة.
الأصفر: المجرد. (المفاهيم المجردة)
الأبيض: قوة الميتا.
لك الحرية في فعل ما تشاء بهذه الإكسيرات؛ إنها جاهزة للاستخدام الفوري والاختبار في الميدان. وأنصح بعدم تناول أكثر من واحد، ولكن البيانات التي سيتم جمعها ستكون مثيرة للاهتمام مع ذلك.
والآن، يجب أن أخبرك أنك لست الوحيد الذي تلقى هذه الهدية. عندما تفتح عينيك في صباح اليوم التالي، سيكون العالم الذي عشته قد انتهى؛ وبدلاً من ذلك، ستستيقظ في عالم حيث لم يعد إمكانات البشر مقيدة بقوانين الواقع التافهة. عالم يمكن فيه تحقيق كل شيء.
ليس لدي أدنى فكرة عن كيفية انتهاء هذه التجربة المقدسة… ولكنني لا أطيق الانتظار لرؤية النتائج.
شكرًا لك على تقدمك في خدمة العلم.
حظًا سعيدًا،
الخيميائي.]
“لم يفتح الصندوق أبدًا،” قالت لين بحزن.
“ربما مات قبل أن يتمكن من ذلك،” رد ريان. “من المحتمل أنه خبأ الصندوق قبل أن تصل إليه الأسلحة البيولوجية.”
“هل تعتقد أن الأزرق يمكن أن يجعلك عبقريًا؟”
“ربما،” أجاب ريان. كان ‘العباقرة’ مصطلحًا شائعًا للجينومات، عادة الزرق، الذين يمتلكون القدرة على إنشاء تكنولوجيا متقدمة تتجاوز عصرهم بكثير.
وميكرون، الرجل الذي كاد يسيطر على العالم، هو الأكثر شهرة من بينهم. اجتاح جيشه من الروبوتات ذاتية التكاثر أوراسيا ‘1’ حتى دفعت بعض الدول إلى الضغط على الزر الأحمر الكبير قبل أن تقع. لا أحد يتذكر من أطلق الضربة الأولى، ولكن رد ميكرون على القنابل النووية بهجمات الطائرات عديمة الطيار والأسلحة البيولوجية. وأصبحت أوراسيا الوسطى صحراء نووية، وجنوب أوروبا مقبرة جماعية.
على الأقل، لم تتعرض هذه المدينة للإشعاع، على عكس تورينو.
“أي واحد تريدين أن تأخذي؟” سأل ريان صديقته.
شحب وجه لين. “لا يمكننا شرب هذا”، همست بغضب. “سيعرف أبي. يمكنه أن يشعر به في الدم.”
“نعم، ربما، ولكن قد تكون هذه فرصتنا الوحيدة للهرب منه.”
“لن أتخلى عن أبي”، ردت لين بنظرة حادة. “سيصبح أفضل، أنا واثقة من ذلك.”
“اللعنة، لا، لن يصبح.” في الواقع، كان يزداد سوءًا بشكل حتمي. والآن، بعدما وضعت دايناميس وأوغسط مكافأة على رأسه، كان عليه مواجهة الصيادين بشكل شبه منتظم. “كان مجنونًا وعنيفًا من قبل، أما الآن فهو عنيفٌ ومصابٌ بجنون العظمة. لن يشفى أبدًا، وأعتقد أنك في أعماقكِ تعرفين أنني على حق.”
عضّت لين شفتها السفلى، كما تفعل دائمًا عندما تكون متوترة وحزينة. “ولكنه ما زال أبي”، قالت، وفي صوتها لمحة استسلام. “سيُريدهم جميعًا.”
“ليس عليه أن يعرف”، جادل ريان. “سيؤدي بنا والدكِ جميعًا إلى الموت—”
“لين!” صرخ صوت حاد من الخارج. “لين!، أين أنتِ؟”
وكأنما ناديت على الشيطان. بسرعة، ومن دون تفكير، أمسك ريان بإكسيرين، واحد في كل يد، وخبأهما في جيوب بنطاله الخلفي مع الرسالة. وعندما أدركت لين ما ينوي فعله، حاولت أن تأخذ الجرعة الأخيرة، ولكنها ترددت لوقت أطول من اللازم.
كان لدى ريان الوقت لإخفاء الإكسير الأزرق والبنفسجي، عندما زحف والد لين إلى الغرفة.
والد لين لم يكن إنسانًا بعد الآن. منذ أن شرب الكثير من الإكسير وخضع لطفرة، لم يبقَ لديه لحم أو أعضاء أو جلد، بل تحول إلى كتلة غير متشكلة من الدم تغطي عظامه. أصبح دمية قرمزية بلا وجه، وجسده في تغير دائم؛ حتى أنه يتحرك مثل دمية بلا خيوط، وأذرعه تلوح كالسياط. لم يترك خلفه أي شيء، ولا حتى أثرًا دمويًا.
توتر المراهقان، وتحركا بشكل غير واعٍ بالقرب من بعضهما.
“آه، تشيزاري”، قال المختل عند ‘رؤيته’ لريان. “سعيدٌ لرؤيتك تعتني بأختك.”
لم يكن اسمه تشيزاري، ولم يكونوا أقارب.
ولكن عرف ريان جيدًا أن لا يقول ذلك بصوت عالٍ. فوالد لين مريضٌ. مريضٌ جدًا. خصوصًا في رأسه. أحيانًا، يكون والد لين، فريدي الطيب والودود، الذي كان يحب لعب ألعاب الطاولة ومشاهدة الأفلام القديمة.
ولكن أحيانًا أخرى، لم يكن سوى سيل الدم.
وعندما لاحظ المختل صندوق العجائب والإكسير الأحمر، تصلب جسده على الفور، وتحولت أصابعه إلى مخالب حادة. اختفت بشريته المتبقية، وتغلب عليها إدمان أقوى من أي شيء آخر.
مثل وحش مفترس ينقض على فار، اندفع سيل الدم نحو الصندوق، دافعًا لين بعنف بعيدًا عن الطريق. ارتطم ظهرها بجدار من الكتب، وسقط بعضها خلفها.
“لين!” صرخ ريان، مندفعًا على الفور إلى جانبها. تجاهل سيل الدم ريان، أمسك بالإكسير الأحمر وسحق الحقنة. لم يكلف نفسه عناء الحقن، بل امتص جسده المحتوى بجوع شره؛ وتذبذب دمه مثل بحرٍ هائج، قبل أن يستقر.
لحسن الحظ، كانت لين أكثر صدمةً من كونها مصابة. ومع ذلك، بدأ والدها بالبحث بشكل محموم داخل الصندوق عن أي إكسير آخر، ثم نظر إلى المراهقين. “أين البقية؟!” همس سيل الدم بغضب، قبل أن يبدأ بالصراخ. “أين البقية؟!”
“لا يوجد شيء آخر!” احتج ريان.
“كاذب!” تحولت يد سيل الدم إلى فأس. “لا ينبغي للابن أن يكذب على والده!”
“أبي، توقف!” صرخت لين.
وكما لو كان قد تم انتشاله من نوبة عقله المدمن، هدأ سيل الدم فجأة. وعادت يديه إلى شكلهما الطبيعي، وهز رأسه في ارتباك. كان الإكسير سيساعد في استقرار طفراته، على الأقل لفترة.
“لين… أنا آسف. أنا…” وضع سيل الدم يديه حول جمجمته وكأنه يعاني من تجميد في الدماغ. “آسف…”
“لا… لا بأس يا أبي,” قالت لين، متجنبة النظر إليه وذراعيها متقاطعتين. “لا بأس.”
نظر سيل الدم إلى ابنته بقلق، وكانت يديه تتحرك نحوها؛ ومع ذلك، تراجع عندما ارتدت لين في خوف من اقترابه. بقي المجنون صامتًا بشكل غريب، ثم نظر إلى ريان. “تشيزاري؟”
“نعم، يا أبي؟” سأل ريان، مشمئزًا من كل كلمة.
“لين تشعر بالحزن،” قال سيل الدم. “ابتسم من أجلها.”
أجبر ريان نفسه على الابتسام، رغم أن شفتيه لم تصل إلى عينيه. لحسن الحظ، لم يكن والد لين قادرًا على التمييز بين الابتسامة الزائفة والأصيلة. وضع يده الدموية على شعر المراهق، بدا أكثر وكأنه يتعامل مع حيوان أليف من كونه مع ابنه.
“أنت فتى جيد، تشيزاري،” قال سيل الدم، دون أن يلتصق الدم بشعر ريان. “أنت فتى جيد.”
كان شقيق لين، تشيزاري، قد مات منذ زمن بعيد. ولكن رفض سيب الدم قبول الأمر.
لم يشر أي من المراهقين إلى الأمر. في المرة الأخيرة التي خرج فيها والد لين من أوهامه، كاد المختل أن يخنق ريان. وقد يكون قتله أيضًا لولا أن لين قد هدأت والدها. والآن، أصبح سيل الدم يستمع فقط لابنته حقًا.
وأحيانًا، لم يكن يستمع حتى لها هي.
كان وضعهم دائمًا على نفس النمط: يستقرون لفترة قصيرة، ثم تحدث لوالد لين نوبة عنف، إما يقتل فيها السكان المحليين أو يطردونه بعيدًا. ثم كان الثلاثي مضطرًا للمغادرة، لأنه عندما يدرك الناس أنهم لا يستطيعون قتل سيل الدم، يبدأون في مطاردة لين وريان. وتتكرر الدورة.
وفقد ريان عد كم من الأماكن التي توقفوا فيها خلال السنوات الأخيرة. مدينةً تلو الأخرى، متجولينَ تدريجيًا من كامبانيا إلى فينيسيا. ويجبرهم سيل الدم على التحرك المستمر، مطاردًا جينوماتٍ معزولة يمكنه امتصاص إكسيرها لإرضاء إدمانه.
“اجمعوا أغراضكم، يا فتيان”، قال سيل الدم. “هذا المكان يجعلني مجنونًا. سنذهب إلى أكوالاند. فهي ستعجبكِ أليس كذلك لين؟، فلطالما أحببتِ الماء.”
“أ… نعم، أبي. أحبها.”
“آمل أن يكون لديهم مثلجات”، قال سيل الدم بتسلية، قبل أن يغادر الغرفة.
نظرت لين إلى ريان، الذي لم يفكر مرتين. عانقها بإحكام، وفي لحظة، تساءل ريان إذا كان يجب عليه أن يتركها من الأساس.
فما زال يحمل الإكسيرين في جيبه.
وكان عليهما المغادرة.
***
1: أوراسيا هي كتلة أرضية مساحتها 54,000,000 كم² وهي مكونة من قارتي أوروبا وآسيا.
نارو…